بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
١. رؤية الملكوت.. من الآيات الإبراهيمية المُلفتة: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}.. وورد ذكر الملكوت أيضاً في سورة “يس” {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}؛ فما هيَّ النظرة المُلكية، وما هي النظرة الملكوتية؟.. غير المؤمن ينظر إلى عناصر الوجود على أنها مادةٌ تمشي أمامه: الفلكيون ينظرون إلى الأجرام، والأطباء ينظرونَ إلى باطن الخلية، ولكن هؤلاء ما وصلوا إلى ملكوت الأشياء.. {نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}.. لعلَ الملكوت لها أكثر من معنى؛ منها:
أ- الملكوت: بواطن الأشياء، مثل ملكوت الغيبة الذي هو أكلُ لحم الميتة.
ب- الملكوت: أن نرى الأشياء معَ انتسابها للهِ عزَ وجل.. مثلاً: تارة يرى الإنسان سيارة في الشارع بلا مالك، لا يعرف مالكها؛ فهو نظر إلى ملك هذهِ الدابة.. وتارةً يعلم أن هذهِ السيارة سيارة أبيه، ومن يقترب منها ليخدشها؛ فإنه يتأذى ويتعارك معهُ؛ لأنه رآها بعنوان: أنها مملوكة لفلان.. المؤمن في حياته ينظر إلى كُلِ شيء على أنهُ ملك اللهِ عَزَ وجل؛ ومنتسبٌ إليه: يرى النملة تمشي على وجه الأرض فلا يقتلها؛ لأنها مملوكةٌ للهِ عَزَ وجل!.. يقول عليٌ -عليهِ السلام-: (والله!.. لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها، على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة؛ ما فعلته).. فهو ينظر إلى الملكوت، أي أن كل ما في الوجود له مالك وله صاحب.. لذا، لا حَقَ لأحد في ظلم أي إنسان في هذا الوجود.
وعليه، فلو أن الزوجين نظروا إلى بعضهما البعض على أنهما ملك لله -عز وجل- هل يتجرأ أحدهما على ظلم الآخر؟.. يقول تعالى في كتابه الكريم: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.. لم يقل: للمتعالين، بل لا يُريدون؛ أي لا يفكرون في الظلم.. بعض الناس لا يمكنهُ أن يفكر في ظُلمِ حَشرةٍ أو حيوانٍ في هذا الوجود!.. فهنيئاً للمؤمن الذي لا يمكنهُ التفكير في الظُلم!..
فإذن، إن إبراهيم الخليل -عليه السلام- رأى الملكوت، فانقادَ للهِ -عزَ وجل- فانقادَ لهُ كُلُ شيء.. لذا، تحولت النار المحرقة إلى بَردٍ وسلام على هذا العبد الصالح.
٢. الشفقة.. إبراهيم -عليهِ السلام- مظهر الشفقة، فعندما جاءت الملائكة لإهلاكِ قَومِ لوط، الذين ارتكبوا أفحش الجرائم في التاريخ!.. وإذا بهذا العبد الصالح يلتفت إلى هؤلاء المُجرمين، يقول تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ}؛ أي يا رب ارفع عنهم العذاب، أنظروا إلى القَلب الإبراهيمي!.. ونحن لا نَحتملُ أقرب الناسِ إلينا؛ فأينَ نَحنُ من إبراهيم؟!.. إبراهيم قدوة المؤمنين، {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}.. قد يقول قائل: القتلُ أيضاً جريمة، والزنا جريمة، وليس فقط هذا العمل!.. نعم، ولكنَ اللواط جريمة مخالفة للفطرة!.. الزنا معَ الشهوة، أما هذا العمل القبيح {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ}؛ عَملٌ رب العالمين ما تَحملهُ.. وهو الآن منتشر في شرق الأرض وغَربها، ولكن رب العالمين ببركة النبي -صلى الله عليه وآله- وإكراماً له؛ رفع المسخ والعذاب الذي كان في الأمم السابقة، يقول تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}.
٣. قال الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}:
أ- {أُمَّةً}: الأمّة؛ هو الإمام الجامع لخصال الخير الذي يُقتدى به.
ب- {قَانِتاً}: القانت؛ هو الخاشع المطيع لربه دائماً.
ج- {حَنِيفاً}: الحنيف؛ هو المنحرف قصداً عن الشرك إلى التوحيد.
٤. شكور: قال تعالى في وصف إبراهيم الخليل -عليه السلام-: {شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}؛ أي قائماً بشكر نعمة ربه عليه.
٥. الوفاء: قال الله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى}؛ أي قام بجميع ما أمره الله به، وأدّى ما عليه من الحق في العبودية أتم التأدية وأبلغها!..
٦. قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ}:
أ- {لَحَلِيمٌ}: أي؛ كثير الحِلم، لا يُبدي غَضبهُ.. يُقال: أن صَبرهُ على قوم لوط من مصاديق الحلم.. والحليم لا يستعجل بالعقوبة والانتقام، لذا أرادَ إبراهيم من رب العالمين أن يؤخر عقوبة قومِ لوط.
ب- {أَوَّاهٌ}: أي؛ كثير التضرع والذكر والدعاء والاستغفار.. وكذلك لها تفسير آخر: “الأواه: كثير التأوه مما يصيبه أو يشاهده من السوء”، وكل عمل لا يُرضيه أو يزعجه.. فالمؤمن أواه ليس في مُناجاة الله -عز وجل- فقط، بل عندما يرى أي مخالفة للفطرة السليمة فإنه لا يتحملها.. وهكذا كان إبراهيم -عليه السلام- كثير التأوه عندما يرى منَ المناظر ما يسوءهُ، ولعلَ أيضاً دفاعهُ عن قوم لوط، وطلب تأخير العذاب؛ من مصاديقِ هذا المعنى.
ج- {مُّنِيبٌ}: أي؛ من الإنابة؛ وهو الرجوع إلى الله -عز وجل- بمعرفته ومحبته، والإقبال عليه، والإعراض عما سواه، والرجوع إليه في كل أمر.
٧. كرمه وسخاؤه: قال الله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إبْرَاهِيمَ المُكْرَمِينَ * إذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًاً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ * فَرَاغَ إلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ}.
٨. سلامة القلب: {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}.. والقلب السليم؛ هو ذلك القلب الذي يلقى الله -عز وجل- وليس فيه أحد سواه.. أو بعبارة أخرى: ذلك القلب الموحد الذي لا يرى مؤثراً في الوجود إلا هو.
تعليق