إشكالية العدالة في الفكر الديني والتجربة البشرية:
إنَّ جوهر ما جاء به الدين في رسالاته السماوية، هو ثنائية الإيمان والعدل. الإيمان في المفهوم الديني، ليس مقولة تجريدية، أو فردية. بل هي مقولة عملية، ذات أبعاد مختلفة فردية، واجتماعية. هو ارتباط بالله تعالى، ذي الكمال المطلق، وصفات الجمال والجلال، بما فيها صفة العدل. والعدل هو من أهمّ تجلّيات الإيمان بالله تعالى والقرب منه، في المجالين الفردي والاجتماعي. فمن كان مؤمناً بالله تعالى حقيقة الإيمان، لا يمكن إلَّا أن يكون عادلاً في سلوكه الفردي والاجتماعي. ومن يفعل عدلاً، لا يمكن لفعله هذا، إلَّا أن يكون ذا قيمة دينية مهمَّة، وسبب قرب من الله تعالى، أو قرب من تقواه ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى﴾ (المائدة: ٨).
لكن، في الوقت الذي تُستَمدُّ فيه مقولتا الإيمان والعدالة من حقيقة واحدة، وتنطويان على علاقة جدلية في غاية العمق والجمالية؛ توجد بينهما مفارقة جوهرية، وهي أنَّ مقولة الإيمان (والكفر) تدخل في إطار الاختيار الفردي، أي في الشأن الخاصِّ: ﴿مَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ (الكهف: ٢٩). حيث: ﴿لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ﴾ (البقرة: ٢٥٦).
أمَّا مقولة العدل والظلم ببعدها العامِّ، فلا تدخل في الاختيار الفردي، ليس بمعنى الجبر وسلب الاختيار، بل بمعنى أنَّها ليست أمراً قابلاً لأن يحبس في الشأن الفردي، ولا يصحُّ فيها القول: (لا إكراه في العدل)، بل هنا يجب أن تُفرَض العدالة، في حين لا يصحُّ فرض الإيمان. هنا يجب إقامة العدل، سواء على من قبل به أم لم يقبل، في حين لا يمكن فرض الإيمان على من لم يعتقد به.
صحيح أنَّ القرآن ربط ما بين فلسفة الخلق والعبادة: ﴿وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: ٥٦)، لكنَّه ربط أيضاً ما بين فلسفة الرسالة الإلهيَّة، وما بين العدالة: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد: ٢٥)، حيث بيَّن أنَّ القسط وإقامة العدل، هو هدف أساس وجوهري لرسالة الأنبياء، على مدار التاريخ.
هذا من ناحية النصِّ الديني، ودلالاته الأصيلة، ومعانيه الصافية؛ لكن ماذا لو أتينا إلى الواقع الديني وتجربة الاجتماع الإنساني، فما الذي يمكن أن نجده في هذا السياق؟
للأسف لا بدَّ من القول: إنَّ أكثر من خطاب ديني يطمس مقولة العدالة، ويقتصر على مقولة الإيمان. بل لعلَّ أكثر من فهم ديني، لم يُدرِك جوهرية العلاقة بين العدل والإيمان، وتجلّياتها المجتمعية والاقتصادية والتربوية والثقافية... لذلك تراه ينجح (بمعنى ما) في صياغة مشروع ذي مضمون عبادي- إيماني، ولكنَّه يفشل في صوغ مشروع يُحقِّق مقولة العدالة الشاملة والبنيوية، في مختلف المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ينجح في سوق الناس إلى المساجد، لكنَّه يفشل في توزيع الثروة وتحقيق التنمية بشكل عادل.
إنَّ أكثر من جماعة دينية قد نجحت في إقامة الصلاة، لكنَّها فشلت في إقامة العدالة في أكثر من ميدان. مع أنَّ حقيقة الصلاة تكمن في إقامة العدالة، بل لم يُقِمِ الصلاة من يكسل في إقامة العدالة. أو قد يحصل أن تنجح تلك الجماعة في إقامة شعائرها وتقاليدها الدينية، لكنَّها تفشل في بثِّ مقولة العدالة بشكل فاعل في مختلف المجالات العملية، فضلاً عن حلِّ المشكلات الاجتماعية والاقتصادية لمجتمعاتها.
ولعلَّ من أسباب ما تقدَّم، أنَّ فهم تلك الجماعة للعبادة التي تؤدّيها، قد جنح بها إلى نوع من الطقوسية، التي أخرجت عبادتها عن حقيقتها، وحرفتها عن أهدافها، وأفرغتها من مضمونها، والتي هي (أي العبادة) في جوهرها إقامة العدل، لأنَّ السجود للعادل المطلق (الله تعالى)، لا يعني إلَّا إقامة العدل في هذه البسيطة، وبين الناس.
كما أنَّ تلك الجماعات قد تجنح إلى البعد الدعوي في فهمها للدين وتطبيقها له، مع أنَّ ذلك في مجمله-كما يمارس- ينضوي في الفعل الاستقطابي واللفظي ليس إلَّا، في حين أنَّها تنكفئ عن إقامة العدل، حيث تختبر حقيقة إيمانها، وصحَّة فهمها للدين، ومدى التزامها به، وبقيمه الأخلاقية والإيمانية.
ما ينبغي قوله هنا، هو: إنَّ هذه الإشكالية ليست خاصَّة بالاجتماع الديني، بل هي إشكالية ذات بعد عالمي. بمعنى أنَّ كلَّ الأُطروحات الفكرية تحمل بشكل أو آخر عنوان العدالة، لكنَّها تفشل في تحقيقها في الميدان الاجتماعي والاقتصادي. إمَّا لخلل في الرؤية الفكرية، أو لقصور في دراية جوهر الرسالة الإلهيَّة (للمتديّنين)، أو لعجز عن فهم الواقع ومتطلَّباته، أو لأسباب وعوامل أُخرى ليس هنا محلُّ ذكرها.
في المحصَّلة قد يستوي الجميع في العجز عن تحقيق ذلك الهدف، سواء العلماني أو الديني (بعض الإسلاميّين، تجربة الكنيسة في القرون الوسطى...). في الإطار العلماني يمكن الحديث في الرأسمالية، التي قدَّمت الحرّية على العدالة في رؤيتها الفكرية، وأطاحت بها نظرياً، قبل أن تطيح بها عملياً. الاشتراكية في صورتها الأُولى، أرادت أن تنتصر لعدالة فئة، فظلمت أُخرى. الكنيسة في القرون الوسطى، تحالفت مع الإقطاع والسلطة السياسية. فساهمت في ظلم عموم الشعب، وحرمانه من حقوقه، فضلاً عن كثير من التجارب البشرية الأُخرى، التي لم تكن العدالة فيها جزءاً محورياً من مخزونها الفكري، أو لم تكن هدفاً أساسياً في مشروعها الاجتماعي والاقتصادي. وهو ما أدّى إلى إيصال قافلة البشرية إلى إرهاصات مرحلة الانسداد الحضاري، أو بداياتها. تلك المرحلة التي تنمُّ عن خلوِّ جعبة البشرية من كلِّ الأُطروحات الفكرية، التي يمكن أن تُشكِّل خشبة خلاص لها، من ذلك الانسداد الذي وصلت إليه. وهو ما يدلُّ على فشلها في تحقيق خلاصها الحضاري، بمعزل عن الهداية الإلهية الحقَّة (المهدوية).
في التاريخ الإسلامي، لم يكن الأمر أفضل حالاً (عدا مرحلة التطبيق النبوي والمعصوم للعدالة)، حيث يغلب على كتب السِّيَر والتاريخ الحديث عن أحوال السلاطين، وفتوحاتهم وبطولاتهم. لكن في الجانب الآخر، كم استطاعت هذه الدولة أو تلك أن تقيم العدالة، وكم كانت نسبة الفقراء لديها، وكيف كانت توزع ثرواتها، وهل كانت تستخدم تلك الثروات لتحقيق مصالح عموم الناس، أم لمصالح السلطان وأعوانه...؟
إنَّ الأسئلة الأُخرى التي لا يصحُّ طمسها، ينبغي أن تدور حول العدالة الاقتصادية، والعدالة الاجتماعية، والعدالة في السياسات الضرائبية، وفي الأعطيات (الأُجور)، وفي توزيع الثروات، وإيجاد الفرص، وتحقيق التنمية العادلة في مختلف المجالات الاجتماعية...
إنَّ هذا الأمر ليس مقتصراً على تاريخنا المعاصر، أو هذا التاريخ وذاك، بل يشمل مجمل مراحل التاريخ البشري، حيث استطاعت البشرية اكتشاف قوانين المادَّة، وتقدَّمت في مدنيتها، وحقَّقت تنمية ما... لكنَّها فشلت في تحقيق العدالة، وتسبَّبت فئاتها المتحكِّمة بالمال والسلطة (المترفون) بكثير من المآسي، والمظالم، والحروب، والويلات، والمجاعات، والفقر، لكثير من أبناء البشر ومجتمعاتهم.
وهكذا كلَّما كانت تتقدَّم البشرية في عمرها، فالذي كان يحصل، مزيد من العلم، ومزيد من القدرة، ومزيد من الرفاهية. لكن في المقابل، قليل من العدالة، وقليل من القسط، وقليل من القيم الأخلاقية والإنسانية. أي كثيراً من الظلم، والجور، والفقر، والجوع، والأُمّية، والمرض، واحتكار الثروات، والفوارق المالية والاجتماعية، وزيادة الهوة بين قلَّة من الأغنياء المترفين، وكثير من الفقراء المستضعفين.
تاريخياً، وفي الواقع المعاصر، لم تكن المشكلة لدى المجتمع البشري- اقتصادياً واجتماعياً- في قلَّة الموارد، بل كانت في لا عدالة التوزيع. ولعلَّ العامل الأساس، الذي أدّى ويؤدّي إلى الوقوع في تلك المشكلة، هو البعد القيمي والأخلاقي، في الأنانيات المجتمعية على اختلافها، وفي مدى القدرة على لجم نوازع النفس البشرية إلى الاستئثار، والطمع، والجشع، وحبِّ الاستزادة، فضلاً عن الأُطروحة الفكرية، التي يجب أن ترتكز عليها مقولة العدالة، ومدى قدرة هذه الأُطروحة على إنتاج معايير واقعية وشفافة واضحة لإقامة العدالة، وفي القدرة على تسييل قيمها في الاستراتيجيات الاقتصادية، والرؤى الاجتماعية، وفي السياسات، والقوانين، والقرارات ذات الصلة.
إذن هذه هي الأزمة الأساس التي يعاني منها الاجتماع البشري في مجمل مراحله التاريخية، وهي الأزمة التي يعاني منها اجتماعنا المعاصر، والتي تنتج مجمل الأزمات الأُخرى، إنَّها أزمة اللاعدالة التي انتشرت وتحكَّمت، ولم تبق مجرَّد فعل سلطة يحكي نهمها وتغوّلها، أو تراث سلطاني أنتجه فقهاء السلطان، أو مجرَّد وعي سياسي عُمِلَ على إفساده، أو ثقافة مجتمعية عُمِلَ على تشويهها، أو فكر عقيم يُنظِّر للطغيان واللاعدالة؛ بل تحوَّلت تلك الأزمة إلى نظام عالمي يتحكَّم بالعالم بأسره، وبجميع مرافقه ومجالاته، إنَّه نظام من اللاعدالة، الذي يتحكَّم بالاقتصاد، والمال، والسياسة، والثروات، والوعي، وبكلِّ شيء يمكن أن يصل إليه سلطانه.
إنَّ ما هو قائم في هذا العالم هو نظام بنيوي من اللاعدالة.
أزمة اللاعدالة أصبحت أزمة بنيوية.
لقد عُمِلَ على عولمة اللاعدالة، وإحكام سلطانها على هذا العالم. فشملت جميع أوجه الحياة البشرية على هذه البسيطة.
هذه هي الأزمة التي تريد المهدوية التغلُّب عليها، واستئصالها، وعلاج تداعياتها، وهدم سلطانها، وكنس جميع آثارها.
بل هي الأزمة التي لا يمكن تجاوزها إلَّا بالمهدوية ومشروعها.
المهدوية في فلسفتها مشروع لهدم بنية اللاعدالة ونظامها المعوْلَم، بهدف إعادة تشكيل بنية عالمية، تقوم على العدالة وقيمها في الثقافة، والسلوك، والاقتصاد، والسياسة، والحقوق، وفي جميع مظاهر الحياة البشرية على هذه البسيطة.
ومن هنا يمكن القول: إنَّ المهدوية هي مشروع التغيير إلى العدالة في بنى الاقتصاد والمال والسياسة، وفي منظومات الوعي والفكر والثقافة، وفي أكثر من فهم سائد ينسب إلى الدين، بل في معايير صناعة الهويات والانتماءات، وفي طبيعة الانقسامات الأُممية والمجتمعية وتمايزها(١).
وبناءً على هذه الثقافة المهدوية يمكن القول: إنَّه إذا كانت الشعارات السابقة التي رفعت، تدور بين (يا عمّال العالم اتَّحدوا) أو (يا رأسماليي العالم تحالفوا)؛ فإنَّ نداء المهدوية هو: (يا مظلومي العالم اتَّحدوا، وتعاونوا على رفع الظلم عن كاهل البشرية، لأنَّ الإرادة الإلهيَّة ستكون حليفتكم ومعكم، وأنَّه سيخرج قائد إلهي (المهدي (عليه السلام))، ليقود جموع المظلومين والمستضعفين، لتحقيق العدل على هذه الأرض، بعد أن مُلئت ظلماً وجوراً).
إنَّ جوهر ما جاء به الدين في رسالاته السماوية، هو ثنائية الإيمان والعدل. الإيمان في المفهوم الديني، ليس مقولة تجريدية، أو فردية. بل هي مقولة عملية، ذات أبعاد مختلفة فردية، واجتماعية. هو ارتباط بالله تعالى، ذي الكمال المطلق، وصفات الجمال والجلال، بما فيها صفة العدل. والعدل هو من أهمّ تجلّيات الإيمان بالله تعالى والقرب منه، في المجالين الفردي والاجتماعي. فمن كان مؤمناً بالله تعالى حقيقة الإيمان، لا يمكن إلَّا أن يكون عادلاً في سلوكه الفردي والاجتماعي. ومن يفعل عدلاً، لا يمكن لفعله هذا، إلَّا أن يكون ذا قيمة دينية مهمَّة، وسبب قرب من الله تعالى، أو قرب من تقواه ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى﴾ (المائدة: ٨).
لكن، في الوقت الذي تُستَمدُّ فيه مقولتا الإيمان والعدالة من حقيقة واحدة، وتنطويان على علاقة جدلية في غاية العمق والجمالية؛ توجد بينهما مفارقة جوهرية، وهي أنَّ مقولة الإيمان (والكفر) تدخل في إطار الاختيار الفردي، أي في الشأن الخاصِّ: ﴿مَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ (الكهف: ٢٩). حيث: ﴿لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ﴾ (البقرة: ٢٥٦).
أمَّا مقولة العدل والظلم ببعدها العامِّ، فلا تدخل في الاختيار الفردي، ليس بمعنى الجبر وسلب الاختيار، بل بمعنى أنَّها ليست أمراً قابلاً لأن يحبس في الشأن الفردي، ولا يصحُّ فيها القول: (لا إكراه في العدل)، بل هنا يجب أن تُفرَض العدالة، في حين لا يصحُّ فرض الإيمان. هنا يجب إقامة العدل، سواء على من قبل به أم لم يقبل، في حين لا يمكن فرض الإيمان على من لم يعتقد به.
صحيح أنَّ القرآن ربط ما بين فلسفة الخلق والعبادة: ﴿وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: ٥٦)، لكنَّه ربط أيضاً ما بين فلسفة الرسالة الإلهيَّة، وما بين العدالة: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد: ٢٥)، حيث بيَّن أنَّ القسط وإقامة العدل، هو هدف أساس وجوهري لرسالة الأنبياء، على مدار التاريخ.
هذا من ناحية النصِّ الديني، ودلالاته الأصيلة، ومعانيه الصافية؛ لكن ماذا لو أتينا إلى الواقع الديني وتجربة الاجتماع الإنساني، فما الذي يمكن أن نجده في هذا السياق؟
للأسف لا بدَّ من القول: إنَّ أكثر من خطاب ديني يطمس مقولة العدالة، ويقتصر على مقولة الإيمان. بل لعلَّ أكثر من فهم ديني، لم يُدرِك جوهرية العلاقة بين العدل والإيمان، وتجلّياتها المجتمعية والاقتصادية والتربوية والثقافية... لذلك تراه ينجح (بمعنى ما) في صياغة مشروع ذي مضمون عبادي- إيماني، ولكنَّه يفشل في صوغ مشروع يُحقِّق مقولة العدالة الشاملة والبنيوية، في مختلف المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ينجح في سوق الناس إلى المساجد، لكنَّه يفشل في توزيع الثروة وتحقيق التنمية بشكل عادل.
إنَّ أكثر من جماعة دينية قد نجحت في إقامة الصلاة، لكنَّها فشلت في إقامة العدالة في أكثر من ميدان. مع أنَّ حقيقة الصلاة تكمن في إقامة العدالة، بل لم يُقِمِ الصلاة من يكسل في إقامة العدالة. أو قد يحصل أن تنجح تلك الجماعة في إقامة شعائرها وتقاليدها الدينية، لكنَّها تفشل في بثِّ مقولة العدالة بشكل فاعل في مختلف المجالات العملية، فضلاً عن حلِّ المشكلات الاجتماعية والاقتصادية لمجتمعاتها.
ولعلَّ من أسباب ما تقدَّم، أنَّ فهم تلك الجماعة للعبادة التي تؤدّيها، قد جنح بها إلى نوع من الطقوسية، التي أخرجت عبادتها عن حقيقتها، وحرفتها عن أهدافها، وأفرغتها من مضمونها، والتي هي (أي العبادة) في جوهرها إقامة العدل، لأنَّ السجود للعادل المطلق (الله تعالى)، لا يعني إلَّا إقامة العدل في هذه البسيطة، وبين الناس.
كما أنَّ تلك الجماعات قد تجنح إلى البعد الدعوي في فهمها للدين وتطبيقها له، مع أنَّ ذلك في مجمله-كما يمارس- ينضوي في الفعل الاستقطابي واللفظي ليس إلَّا، في حين أنَّها تنكفئ عن إقامة العدل، حيث تختبر حقيقة إيمانها، وصحَّة فهمها للدين، ومدى التزامها به، وبقيمه الأخلاقية والإيمانية.
ما ينبغي قوله هنا، هو: إنَّ هذه الإشكالية ليست خاصَّة بالاجتماع الديني، بل هي إشكالية ذات بعد عالمي. بمعنى أنَّ كلَّ الأُطروحات الفكرية تحمل بشكل أو آخر عنوان العدالة، لكنَّها تفشل في تحقيقها في الميدان الاجتماعي والاقتصادي. إمَّا لخلل في الرؤية الفكرية، أو لقصور في دراية جوهر الرسالة الإلهيَّة (للمتديّنين)، أو لعجز عن فهم الواقع ومتطلَّباته، أو لأسباب وعوامل أُخرى ليس هنا محلُّ ذكرها.
في المحصَّلة قد يستوي الجميع في العجز عن تحقيق ذلك الهدف، سواء العلماني أو الديني (بعض الإسلاميّين، تجربة الكنيسة في القرون الوسطى...). في الإطار العلماني يمكن الحديث في الرأسمالية، التي قدَّمت الحرّية على العدالة في رؤيتها الفكرية، وأطاحت بها نظرياً، قبل أن تطيح بها عملياً. الاشتراكية في صورتها الأُولى، أرادت أن تنتصر لعدالة فئة، فظلمت أُخرى. الكنيسة في القرون الوسطى، تحالفت مع الإقطاع والسلطة السياسية. فساهمت في ظلم عموم الشعب، وحرمانه من حقوقه، فضلاً عن كثير من التجارب البشرية الأُخرى، التي لم تكن العدالة فيها جزءاً محورياً من مخزونها الفكري، أو لم تكن هدفاً أساسياً في مشروعها الاجتماعي والاقتصادي. وهو ما أدّى إلى إيصال قافلة البشرية إلى إرهاصات مرحلة الانسداد الحضاري، أو بداياتها. تلك المرحلة التي تنمُّ عن خلوِّ جعبة البشرية من كلِّ الأُطروحات الفكرية، التي يمكن أن تُشكِّل خشبة خلاص لها، من ذلك الانسداد الذي وصلت إليه. وهو ما يدلُّ على فشلها في تحقيق خلاصها الحضاري، بمعزل عن الهداية الإلهية الحقَّة (المهدوية).
في التاريخ الإسلامي، لم يكن الأمر أفضل حالاً (عدا مرحلة التطبيق النبوي والمعصوم للعدالة)، حيث يغلب على كتب السِّيَر والتاريخ الحديث عن أحوال السلاطين، وفتوحاتهم وبطولاتهم. لكن في الجانب الآخر، كم استطاعت هذه الدولة أو تلك أن تقيم العدالة، وكم كانت نسبة الفقراء لديها، وكيف كانت توزع ثرواتها، وهل كانت تستخدم تلك الثروات لتحقيق مصالح عموم الناس، أم لمصالح السلطان وأعوانه...؟
إنَّ الأسئلة الأُخرى التي لا يصحُّ طمسها، ينبغي أن تدور حول العدالة الاقتصادية، والعدالة الاجتماعية، والعدالة في السياسات الضرائبية، وفي الأعطيات (الأُجور)، وفي توزيع الثروات، وإيجاد الفرص، وتحقيق التنمية العادلة في مختلف المجالات الاجتماعية...
إنَّ هذا الأمر ليس مقتصراً على تاريخنا المعاصر، أو هذا التاريخ وذاك، بل يشمل مجمل مراحل التاريخ البشري، حيث استطاعت البشرية اكتشاف قوانين المادَّة، وتقدَّمت في مدنيتها، وحقَّقت تنمية ما... لكنَّها فشلت في تحقيق العدالة، وتسبَّبت فئاتها المتحكِّمة بالمال والسلطة (المترفون) بكثير من المآسي، والمظالم، والحروب، والويلات، والمجاعات، والفقر، لكثير من أبناء البشر ومجتمعاتهم.
وهكذا كلَّما كانت تتقدَّم البشرية في عمرها، فالذي كان يحصل، مزيد من العلم، ومزيد من القدرة، ومزيد من الرفاهية. لكن في المقابل، قليل من العدالة، وقليل من القسط، وقليل من القيم الأخلاقية والإنسانية. أي كثيراً من الظلم، والجور، والفقر، والجوع، والأُمّية، والمرض، واحتكار الثروات، والفوارق المالية والاجتماعية، وزيادة الهوة بين قلَّة من الأغنياء المترفين، وكثير من الفقراء المستضعفين.
تاريخياً، وفي الواقع المعاصر، لم تكن المشكلة لدى المجتمع البشري- اقتصادياً واجتماعياً- في قلَّة الموارد، بل كانت في لا عدالة التوزيع. ولعلَّ العامل الأساس، الذي أدّى ويؤدّي إلى الوقوع في تلك المشكلة، هو البعد القيمي والأخلاقي، في الأنانيات المجتمعية على اختلافها، وفي مدى القدرة على لجم نوازع النفس البشرية إلى الاستئثار، والطمع، والجشع، وحبِّ الاستزادة، فضلاً عن الأُطروحة الفكرية، التي يجب أن ترتكز عليها مقولة العدالة، ومدى قدرة هذه الأُطروحة على إنتاج معايير واقعية وشفافة واضحة لإقامة العدالة، وفي القدرة على تسييل قيمها في الاستراتيجيات الاقتصادية، والرؤى الاجتماعية، وفي السياسات، والقوانين، والقرارات ذات الصلة.
إذن هذه هي الأزمة الأساس التي يعاني منها الاجتماع البشري في مجمل مراحله التاريخية، وهي الأزمة التي يعاني منها اجتماعنا المعاصر، والتي تنتج مجمل الأزمات الأُخرى، إنَّها أزمة اللاعدالة التي انتشرت وتحكَّمت، ولم تبق مجرَّد فعل سلطة يحكي نهمها وتغوّلها، أو تراث سلطاني أنتجه فقهاء السلطان، أو مجرَّد وعي سياسي عُمِلَ على إفساده، أو ثقافة مجتمعية عُمِلَ على تشويهها، أو فكر عقيم يُنظِّر للطغيان واللاعدالة؛ بل تحوَّلت تلك الأزمة إلى نظام عالمي يتحكَّم بالعالم بأسره، وبجميع مرافقه ومجالاته، إنَّه نظام من اللاعدالة، الذي يتحكَّم بالاقتصاد، والمال، والسياسة، والثروات، والوعي، وبكلِّ شيء يمكن أن يصل إليه سلطانه.
إنَّ ما هو قائم في هذا العالم هو نظام بنيوي من اللاعدالة.
أزمة اللاعدالة أصبحت أزمة بنيوية.
لقد عُمِلَ على عولمة اللاعدالة، وإحكام سلطانها على هذا العالم. فشملت جميع أوجه الحياة البشرية على هذه البسيطة.
هذه هي الأزمة التي تريد المهدوية التغلُّب عليها، واستئصالها، وعلاج تداعياتها، وهدم سلطانها، وكنس جميع آثارها.
بل هي الأزمة التي لا يمكن تجاوزها إلَّا بالمهدوية ومشروعها.
المهدوية في فلسفتها مشروع لهدم بنية اللاعدالة ونظامها المعوْلَم، بهدف إعادة تشكيل بنية عالمية، تقوم على العدالة وقيمها في الثقافة، والسلوك، والاقتصاد، والسياسة، والحقوق، وفي جميع مظاهر الحياة البشرية على هذه البسيطة.
ومن هنا يمكن القول: إنَّ المهدوية هي مشروع التغيير إلى العدالة في بنى الاقتصاد والمال والسياسة، وفي منظومات الوعي والفكر والثقافة، وفي أكثر من فهم سائد ينسب إلى الدين، بل في معايير صناعة الهويات والانتماءات، وفي طبيعة الانقسامات الأُممية والمجتمعية وتمايزها(١).
وبناءً على هذه الثقافة المهدوية يمكن القول: إنَّه إذا كانت الشعارات السابقة التي رفعت، تدور بين (يا عمّال العالم اتَّحدوا) أو (يا رأسماليي العالم تحالفوا)؛ فإنَّ نداء المهدوية هو: (يا مظلومي العالم اتَّحدوا، وتعاونوا على رفع الظلم عن كاهل البشرية، لأنَّ الإرادة الإلهيَّة ستكون حليفتكم ومعكم، وأنَّه سيخرج قائد إلهي (المهدي (عليه السلام))، ليقود جموع المظلومين والمستضعفين، لتحقيق العدل على هذه الأرض، بعد أن مُلئت ظلماً وجوراً).
تعليق