بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
﴿فَمَنْ يَعْمَل مِثْقَال ذَرَّة خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَل مِثْقَال ذَرَّة شَرًّا يَرَهُ﴾
إن صدور الناس أشتاتا يوم القيامة تابع لما ورد في آية اُخرى ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى﴾ ومن المعلوم أن تشتت الناس يوم القيامة لا يعني أنهم جميعا في حالة واحدة ، لوضوح أنه ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾ فلا مانع من خروجهم متفرقين ، ولكن تحت رايات مختلفة بحسب مَن تولوا في الحياة الدنيا ؛ فإن مَن تولى حجرا حشره الله تعالى معه .
ولا يخفى ما في التعبير بـ ﴿يَصْدُرُ﴾ من اللطف ، وهو الذي يُطلق على انصراف الإبل عن الماء بعد وروده ، فكأنهم في دار الدنيا كانوا على غدير ماء ، والآن تركوا هذا الغدير ، ليُعلم مَن ارتوى من ذلك الغدير ممّن مكث عنده عاطشا ، وهذا يُؤيد بما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : «أيها الناس! . . إن اليوم عمل ولا حساب ، وغداً حساب ولا عمل».
حذف الجواب أو القسم
إن الشرط عند البيان يُساق لبيان جوابه ، وللتأكيد على ذلك الجواب في بعض الحالات ، فيكون وزانه وزن القَسَم في ذلك ، وقد يُحذف الجواب والقَسَم لإثارة التأمّل ثم البحث عنهما لعناية المتكلم بمورد القَسَم والشرط ، وهذا واقع في القرآن الكريم وفي هذه السورة أيضا .
فهناك مَن يقول بحذف جواب الشرط في ﴿إِذا زُلْزِلَتِ﴾ وقد دل عليه السياق يعني ﴿وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ﴾ مثلا ، وبين مَن يقول : إن الجواب هو ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً﴾ وبين مَن يقول أنه ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها﴾ .
الآية الجامعة
إن آية ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَل ْمِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ فيها من صور التخويف والردع ما لا يخفى على المتأمّل ، وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه عَبّر عن هذه الآية بالجامعة ، فالآية فيها :
إطلاق يشمل جميع المكلفين حتى الأنبياء ؛ لأن الموضوع فيه (مَنْ) الموصولة المنطبقة على كل مكلف .
جعلت الموضوع في العمل ما تناهى في الدقة وهي الذرة ، وهو ما يُرى في شعاع الشمس من الهباء ، وتقال لصغار النمل أيضا .
جعلت المداقة في جانب الخير والشر معا ، وكرم الكريم وصفحه لا ينافي تلك المداقة ، وذلك لئلا يتجرأ المتجرؤون على المعصية .
جعلت النتيجة رؤية العمل إما بنفسه ـ بناء على تجسّم الأعمال ـ أو بجزائه ، فعدل عن التعبير بالإعلام إلى الإراءة في هذه الآية ، كما عدل عن التعبير بالعلم إلى الوجدان والرؤية في قوله تعالى ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوء﴾
الحبط والتكفير
لا منافاة بين هذه الآية الناطقة بمطابقة الجزاء للعمل ولو كان بمقدار مثقال ذرة ، وبين ما يدل على حبط العمل في جانب محو الحسنات ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ وكذلك ما يدل على التكفير في جانب محو السيئات ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ وذلك لأن الآية تذكُر القانون العام في محاسبة الخلق ، ولا ينافيه جعْل قانون آخر يتحقق به الاستثناء ، فهو ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾.
ومن الممكن القول كتوجيه آخر في المقام : إن مَن أحبط الله تعالى عمله في الآخرة ، كان هذا الإحباط كاشفا على أنه لم يفعل الخير أصلا ؛ لأن الخير هو ما استقر في خيريته إلى يوم الجزاء ، لا ما كانت فيه صورة الخير بنظر القاصرين من العباد!
رادعية هذه السورة
إن تذكّر أهوال يوم القيامة ، يكفي للردع عن المعصية لمن كان له كمال اليقين بغيب الآخرة ، ومن هنا عُبّر عن الموت بـ (هادم اللذات)
فكيف بما هو أعظم من الموت؟! . . وقد روي : «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلى النَّبِيّ ‘ فَقَالَ : عَلِّمْنِي ممّا عَلَّمَك اللَّه . فَدَفَعَهُ إلى رَجُل يُعَلّمهُ ؛ فَعَلَّمَهُ ﴿إِذَا زُلْزِلَتْ﴾ ـ حَتَّى إِذَا بَلَغَ ـ ﴿فَمَنْ يَعْمَل مِثْقَال ذَرَّة خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَل مِثْقَال ذَرَّة شَرًّا يَرَهُ﴾ قَالَ : حَسْبِي! . . فَأُخْبِرَ النَّبِيّ ‘ فَقَالَ : دَعُوهُ فَإِنَّهُ قَدْ فَقِهَ».
تعليق