بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
من أئمة أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا الإمام الباقر سلام الله عليه، نقل عنه ابنه الإمام الصادق: قال لي أبي الباقر : ”إنّي لقيتُ جابر بن عبد الله الأنصاري بعدما كفّ بصره، فسلمتُ عليه، فردّ عليّ السلام وقال: من أنت؟ قلتُ: أنا محمد بن علي الباقر، قال: ادنُ مني، فدنوتُ منه، فقبّل يديّ، وأراد أن يقبّل رجليّ فتنحيتُ عنه، فقال لي: يا بني إن رسول الله يقرئك السلام، قلتُ: وعلى رسول الله السلام، وما ذاك؟ قال: لقد كنتُ مع رسول الله يومًا من الأيام فقال لي: يا جابر إنك تبقى وتعمّر إلى أن تلقى رجلاً من ذريتي وهو محمد بن علي يبقر العلمَ بقرًا، فإذا لقيته فأقرئه مني السلام“.
الإمام الباقر أسّس جامعة علمية في المدينة المنورة وتتلمذ على يديه كثيرٌ من علماء المذاهب الإسلامية الأخرى، كالزهري، وربيعة، وأبي إسحاق، وعمرو بن دينار، وغيرهم، وروى عنه البخاريُ في صحيحه، وروى عنه مسلمُ في صحيحه، وقال عنه ابنُ العماد الحنبلي، وقال عنه محيي الدين النووي، وقال عنه ابنُ عطاء المكّي، وهم من علماء المذهب الحنبلي والمالكي: «محمد بن علي إمامٌ بارعٌ مُجْمَعٌ على جلالته ووفور علمه، روى عنه الكثيرُ، ولقب بالباقر لأنه بقر العلمَ بقرًا».
الإمام الباقر كسائر آبائه كان غارقًا في ملكوت الله متعلقًا بالسماء، هناك رواية وردت عن الامام الباقر عليه السلام في مجال العبادة يقول : ”اجتهدتُ في العبادة وأنا شابٌ - يعني: صرتُ أصلي كثيرًا - فنظر إليّ أبي الإمام الباقر وقال: هوّن عليك، إنّ الله إذا أحبّ عبدًا رضي منه باليسير“، هذه الرواية ربّما يتساءل الإنسان: كيف يحثّ الباقر على اليسير من العبادة مع أن النصوص الكثيرة تؤكد على استحباب الكثرة من الصلاة والكثرة من النافلة؟ فقد ورد في الحديث: ”الصلاة خير موضوع، من شاء استقل، ومن شاء استكثر“، هذا الحديث ينقلنا إلى مفهوم من المفاهيم الإسلامية، وهو أن المناط في العبادة على الكيف وليس على الكم، العبادة الحقيقية بمضمونها لا بحجمها ومقدارها، لماذا؟
نحن إذا تأملنا في العبادة نجد أن العبادة صيغة ثابتة لجميع العصور، منذ زمن النبي محمّدٍ إلى زماننا هذا العبادة لها شكلٌ واحدٌ، صلاة الفجر، صلاة العصر، صلاة المغرب، العبادة لها شكلٌ واحدٌ لجميع الأزمنة، لجميع العصور، للإنسان في جميع المجتمعات، هذا يدل على ماذا؟ هذا يدل على أن الإنسان يحتاج إلى العبادة حاجة ثابتة وليست حاجة متغيرة، لأن العبادة لها شكلٌ ثابتٌ، بما أن لها شكلاً ثابتًا إذن معناه أن العبادة تعالج حاجة ثابتة، هذه الحاجة ثبتت للإنسان وهو في عصر الطاحونة اليدوية وثبتت للإنسان وهو في عصر المركبة الفضائية، هناك حاجة ثابتة للعبادة لذلك للعبادة صيغة ثابتة، ما هي هذه الحاجة؟
الإنسان يحتاج إلى العبادة من منطلقين:
1. منطلق الأمن.
2. ومنطلق التحرر من الشهوة.
1. منطلق الأمن:
كل إنسان سواء كان يعيش في الأعشاش أو كان يعيش في القصر الضخم، كل إنسان يحتاج إلى الأمن حاجة أساسية، الحاجات الأساسية: الحاجة إلى الغذاء، الحاجة إلى الحب «الإنسان يحتاج أن يُحِبَّ وأن يُحَبَّ»، الحاجة إلى الأمن، الإنسان بطبعه يخاف مهما كان شجاعًا، مهما كان جريئًا، الإنسان بطبعه قلق، يخاف، ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾ الإنسان يخاف، خصوصًا إنسان هذا العصر يخاف من الكوارث الطبيعية، يخاف من تسونامي، يخاف من الأوبئة المنتشرة، يخاف من أسلحة الدمار الشامل، الإنسان يعيش قلقًا، يعيش خوفًا، ولا مؤمّن لهذا الإنسان إلا العبادة، العبادة هي التي تزيل عنك الخوف والقلق وتعطيك الأمن النفسي والاستقرار النفسي، ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ ولا هم يقلقون، ولا هم يجزعون، العبادة تعطينا أمانًا نفسيًا، الإنسان إذا دخل الصلاة وتفاعل مع الصلاة يشعر بأجواء من الهدوء والسكينة تصبغ على نفسه جوًا من الاطمئنان والهدوء، فالعبادة تعالج في الإنسان حاجة ثابتة وهي الحاجة إلى الأمن، لذلك بقيت العبادة ثابتة منذ إنسان عصر النبي إلى إنسان هذا اليوم.
المنطلق الآخر: التحرر من الشهوات.
الإنسان مجموعة من الغرائز: غريزة الجنس، غريزة الطعام والشراب... أي غرائز أخرى، لا يمكن للإنسان أن يصبح إنسانًا بمعنى الكلمة إلا إذا تحرر من الشهوة، إلا إذا تحرر من الغريزة، الإنسان الذي ينقاد إلى غريزته وشهوته لا فرق بينه وبين الحيوان، إذن أي فرق بين الإنسان والحيوان؟! ليس هناك مائزٌ بين الإنسان والحيوان إلا التحرر من الشهوة، الإنسان هو القادر على أن يتحرر من الغريزة ومن الشهوة وأن ينتصر عليها كما ورد عن الإمام أمير المؤمنين : ”خلق الله الملائكة عقلاً بلا شهوة، وخلق البهائم شهوة بلا عقل، وركّب في الإنسان عقلاً وشهوة، فمن غلبت شهوته عقلَه فهو أدنى من البهائم، ومن غلب عقلُه شهوتَه فهو خيرٌ من الملائكة“ التحرر من الشهوة، أن يتحرر الإنسان من أسر الشهوة، هذا إنسان حقيقي، وهذا إنما يتحقق بالعبادة، الصلاة تتحرر فيها من الشهوات لبضع دقائق، الصوم تتحرر فيه من الشهوات عشر ساعات، الحج تتحرر فيه من الشهوات لمدة أيام، العبادة الصور للتحرر من الشهوة، والتحرر من الشهوة حاجة ثابتة للإنسان.
بما أن العبادة تعالج حاجة ثابتة - وهي الحاجة إلى الأمن والحاجة إلى التحرر من الشهوة - إذن العبادة الحقيقية هي التي تحقق لنا هذه الحاجات وليست العبادة الفارغة، العبادة الحقيقية هي التي تعطينا أمنًا وتعطينا تحررًا من الشهوات، ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ ولا يمكن للعبادة أن تعطينا تحررًا من الشهوات إلا إذا كانت عبادة خضوع وخشوع ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ فلذلك عرفنا أن العبادة الحقيقية بمضمونها وليس بمقدارها وكمها، لو أن الإنسان قرأ «إنا أنزلناه في ليلة القدر» ألف مرة في ليلة القدر لأنه يستحب قراءتها ألف مرة لكنه كان إنسانًا عاصيًا، إنسانًا عازمًا على أن يعود للمعصية، فلو قرأها مليون مليار مرة يحصل على الثواب لكنه لم يحصل على عبادة حقيقية، لأنه ركز على الكم ولم يركز على الكيف، ولم يركز على المضمون.
لذلك قال الإمام الباقر للصادق: ”بني، إنّ الله إذا أحب عبدًا - يعني: كان العبد خاضعًا خاشعًا يحقق مضمون العبادة - رضي منه باليسير“، اليسير الذي يحقق العبادة خيرٌ من الكثير اللغو، ولذلك ورد عن النبي محمد : ”ركعتان يصليهما عالمٌ - لأن العالم يفترض فيه أن يكون خاشعًا ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ - ركعتان يصليهما عالمٌ خيرٌ من سبعين ركعة يصليها جاهلٌ“.
تعليق