الباحث مرتضى علي الحلي
بحث مشارك في مسابقة خاتم الأوصياء (عجّل الله فرجه) للإبداع الفكري وحاز على المركز التاسع
مدخل تمهيدي:
إنَّ هذا البحث يهدف إلى تقديم قراءة ورؤية واقعية، موضوعية، تنهض من الواقع الراهن إلى الحدث المرتقب للظهور الشريف للإمام المهدي (عليه السلام) والقيام بالحقِّ، وعلى أساس ما هو متوفِّرٌ فعلاً من مقوِّمات الدولة المرتقبة، أو ما يمكن أن تقوم عليه على كلِّ حالٍ راهن، وأشُدَّه الظلم والفساد بمختلف ألوانه، حكماً وإدارةً واقتصاداً وعقيدةً وغيرها، وما ينبغي أن نكون عليه نحن المؤمنين فيما لو ظهر الإمام بغتةً، وقام بالأمر على ما هو عليه، ولقد أكَّدت الروايات المعتبرة أنَّ ظهور الإمام المهدي (عليه السلام)، سيكون فجأةً وبغتةً، ممَّا يتطلَّب ذلك الاستعداد الراهن على كلِّ حالٍ، استعداداً عقائدياً ونفسياً ومعرفياً واجتماعياً وعسكرياً وثقافياً، فعن أبي جعفر الإمام الباقر (عليه السلام) في قوله: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾ (الزخرف: ٦٦)، قال: «هي ساعة القائم (عليه السلام) تأتيهم بغتةً»(١)، أي: فجأةً وبسرعة. وهذا ما اختزنته الروايات، قيمةً وغرضاً وإعداداً في عقيدة الانتظار الواعي والصالح والمنتج، قال أبو عبد الله الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): «أقرب ما يكون العباد من الله تعالى، وأرضى ما يكون عنهم، إذا افتقدوا حجَّة الله، فلم يظهر لهم، ولم يعلموا بمكانه، وهم في ذلك يعلمون أنَّه لم تبطل حجَّة الله ولا ميثاقه، فعندها توقَّعوا الفرج صباحاً ومساءً...»(٢).
إنَّ عنصر المفاجأة ممَّا ينبغي عدم الغفلة عنه، وما منع الأئمَّة المعصومين من التوقيت(٣) للظهور الشريف إلَّا أحد الأدلَّة دليل على إرادة الأخذ برهانات الواقع المتاحة والممكنة، وتحقيقاً للغرض الأسمى من عبادية الانتظار، وهو جعل المؤمن المعتقد بإمامة الإمام المهدي (عليه السلام)، على شدٍّ وارتباط وتعلُّق مكين، يراقب فيه نفسه ومجتمعه ووظيفته، تقوىً وإصلاحاً، فالانتظار هو توقُّع واقعي وقوَّة وإرادة وبناء ونصرة وتضحية وإيثار وإيمان وطاعة(٤). عن أبي الحسن الثالث (عليه السلام) قال: «إذا رُفِعَ علمكم من بين أظهركم، فتوقَّعوا الفرج من تحت أقدامكم»(٥).
إنَّ الاستعدادات الراهنة لا تنحصر بجانب دون آخر، كونها منظومة مترابطة بعضها ببعض، بدءاً من الجانب العقدي وضرورة أخذه باليقين، والجانب المعرفي والنفسي المتمثِّل بالقدرة على الطاعة، والتضحية بين يدي إمام الزمان (عليه السلام) فيما لو ظهر فجأةً، وحتَّى الجانب العسكري والدفاعي، إذ إنَّ الروايات المأثورة تُؤكِّد أنَّ الإمام سيتعرَّض لهجمة شرسة من السفياني، تستهدف شيعته وعاصمته في العراق(٦)، وقد ورد هذا المضمون في العلامات الحتمية. وإنَّ من سمات الاستعداد هي التوقُّع للظهور على كلِّ حالٍ، تُحسَب فيه متطلِّبات الظروف النفسية والموضوعية، وأغراض الحكمة الإلهية، والتي يجب أن يعرفها المؤمن المنتظر معرفة تامَّة وهادفة، لأنَّ الانتظار هو تعبُّد عقدي، وطريقة عقلانية منتظمة، تُؤمِّن للإمام المهدي (عليه السلام) إمكانية الظهور بالمتاح والممكن من الإيمان به، والقدرات والخبرات كمّاً وكيفاً، والقيام وتأسيس الدولة الموعودة.
والكلام سيكون بوجهة الاستعدادات في نظرية أنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) سيعتمد على إمكانات الواقع الراهن في وقت ظهوره بغضِّ النظر عن سمة الغيب والتأييد الإلهي، والنصر المحفوظ له، واقعاً واعتقاداً، ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ﴾ (غافر: ٥١).
ولو أنَّنا أخذنا بهذا الوجه فما المطلوب منّا في تقديم ما هو ممكن للإمام حتَّى ينهض بوظيفته الإلهيَّة الموعودة بحساب فرضية القيام على ركام الظلم والفساد لبسط العدل والإصلاح(٧)؟
إنَّ هذه القراءة المعرفية المتبصِّرة ستبتعد عن سمة الغيبية والمثالية في التأسيس للدولة المهدوية وقيامها، لا أنَّها لا تؤمن بذلك، لا، بل هي محاولة للأخذ برهانات وإمكانات وحاجات الواقع الموضوعي إيماناً ومعرفةً وسلوكاً، وكما حدث ذلك مع الإمام عليٍّ (عليه السلام) حينما أقام دولته العادلة على بقايا دولة ظالمة وفاسدة، وتمكَّن من إحياء الحقِّ والعدل بين الناس بما هو موجود، حتَّى إنَّه قال: «أمَا والذي فلق الحبَّة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجَّة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارُّوا على كظَّة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها...»(٨)،(٩). وهذه إشارة قيِّمة وسديدة منه (عليه السلام) إلى أنَّ متطلِّبات الواقع الاجتماعي الراهن وضروراته غالباً ما تفرض نفسها بالأخذ بها تغييراً ونهوضاً، وخياراً وعلاجاً، وتقدُّماً.
وقد بيَّن السيِّد الشهيد محمّد باقر الصدر في بحثه حول المهدي، هذه الفرضية والمقاربة الموضوعية والواقعية بإجابة عن الأسئلة المفترضة في هذا الباب، وقال:
(إنَّ كلَّ عملية تغيير اجتماعي يرتبط نجاحها بشروط وظروف موضوعية(١٠)، لا يتأتّى لها أن تُحقِّق هدفها إلَّا عندما تتوفَّر تلك الشروط والظروف، وتتميَّز عمليات التغيير الاجتماعي، التي تُفجِّرها السماء على الأرض، بأنَّها لا ترتبط في جانبها الرسالي بالظروف الموضوعية، لأنَّ الرسالة التي تعتمدها عملية التغيير هنا ربّانية، ومن صنع السماء، لا من صنع الظروف الموضوعية، ولكنَّها في جانبها التنفيذي تعتمد الظروف الموضوعية، ويرتبط نجاحها وتوقيتها بتلك الظروف، ومن أجل ذلك انتظرت السماء مرور خمسة قرون من الجاهلية حتَّى أنزلت آخر رسالاتها على يد النبيِّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، لأنَّ الارتباط بالظروف الموضوعية للتنفيذ، كان يفرض تأخُّرها على الرغم من حاجة العالم إليها منذ فترة طويلة قبل ذلك، والظروف الموضوعية التي لها أثر في الجانب التنفيذي من عملية التغيير، منها ما يُشكِّل المناخ المناسب والجوّ العامّ للتغيير المستهدف، ومنها ما يُشكِّل بعض التفاصيل التي تتطلَّبها حركة التغيير من خلال منعطفاتها التفصيلية، ... وقد جرت سُنَّة الله تعالى، التي لا تجد لها تحويلاً في عمليات التغيير الربّاني على التقيد من الناحية التنفيذية بالظروف الموضوعية، التي تُحقِّق المناخ المناسب والجوّ العامّ لإنجاح عملية التغيير، ومن هنا لم يأتِ الإسلام إلَّا بعد فترة من الرُّسُل وفراغ مرير استمرَّ قروناً من الزمن، فعلى الرغم من قدرة الله سبحانه وتعالى، على تذليل كلِّ العقبات والصعاب في وجه الرسالة الربّانية، وخلق المناخ المناسب لها خلقاً بالإعجاز، لم يشأ أن يستعمل هذا الأُسلوب(١١)، لأنَّ الامتحان والابتلاء والمعاناة، التي من خلالها يتكامل الإنسان يفرض على العمل التغييري الربّاني أن يكون طبيعياً وموضوعياً من هذه الناحية، وهذا لا يمنع من تدخُّل الله سبحانه وتعالى أحياناً فيما يخصُّ بعض التفاصيل، التي لا تكون المناخ المناسب، وإنَّما قد يتطلَّبها أحياناً التحرُّك ضمن ذلك المناخ المناسب، ومن ذلك الإمدادات والعنايات الغيبية، التي يمنحها الله تعالى لأوليائه في لحظات حرجة فيحمي بها الرسالة)(١٢).
ولا يمكن الشكُّ في أنَّ قيام الدولة المهدوية المرتقبة سينطلق من رهانات وإمكانات الواقع المعاش بحسب الفرض، ذلك لأنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) سيعتمد على ما هو متوفِّر من قدرات إيمانية ومعرفية، وخبرات تدبيرية، وأفراد صالحين، فضلاً عن الكفاءات المؤمنة والمنتظرة والواعية لقيام دولة الحقِّ والعدل، وقد ورد هذا المعنى الموضوعي والإعدادي عن الإمام محمّد الجواد (عليه السلام) في قوله: «يجتمع إليه من أصحابه عدَّة أهل بدر، ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، من أقاصي الأرض، وذلك قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: ١٤٨]، فإذا اجتمعت له هذه العدَّة من أهل الإخلاص أظهر الله أمره، فإذا كمل له العقد وهو عشرة آلاف رجل خرج بإذن الله (عزَّ وجلَّ)»(١٣)، وإنَّ هذا المعنى الإعدادي يُقدِّم لنا انطباعاً واقعياً عن أهمّية وجود القدرات والخبرات أفراداً ومعرفةً وسلوكاً، ووسائلاً وقيماً، تدخل كلُّها مجتمعة في تحقيق الشروط والظروف الموضوعية في البعد التنفيذي للظهور المهدوي الشريف والقيام بالعدل والحقِّ المرتقب بإذن الله تعالى، ولما لإعداد وتجهيز النخبة المؤمنة به، عقيدةً وعلماً ومنهاجاً وجهاداً وقتالاً، من الأثر الكبير في التمكين الواقعي لقيام الدولة المهدوية(١٤)، وقد نصَّ القرآن الكريم على واقعية وموضوعية الإعداد والاستعداد وبشكل مطلق، إعداداً في المعارف والقدرات والخبرات والكفاءات والوسائل والأفراد والأموال والنفقات، بما يضمن سمة القوَّة في وجه التحدّيات العقدية والوجودية المعاصرة والمتوقَّعة على كلِّ حالٍ، وبحسب المقدور والمستطاع، كما في قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ﴾ (الأنفال: ٦٠)، ﴿قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ (هود: ٨٠)، ﴿قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً﴾ (الكهف: ٩٥).
وممَّا تقدَّم يظهر أنَّ قيام الدولة المهدوية الشريفة معقود بمقوِّمات راهنة وموضوعية، مرتبطة بالواقع المعاش ارتباطاً وثيقاً يتوقَّف عليها التطبيق والتحقيق، وتتكفَّل هذه المقوِّمات بتقديم ما هو ممكن ومقدور بين يدي الإمام المهدي (عليه السلام) ليتمكَّن من تأسيس دولته العادلة والحقَّة. وتعالج هذه المقوِّمات الممكنة والراهنة مشكلات الحكم والإدارة والنظام والمعرفة، والأخلاق والدين، والحقوق والأمن والاقتصاد، والتنمية البنائية والاجتماعية، بكلِّ ألوانها الإنسانية والعمرانية والقيمية. وثَمَّة مقوِّم آخر مهمٌّ جدّاً ربَّما يكون هو الأهمّ أساساً ونتاجاً، وهو المقوِّم العقدي إيماناً ومرتكزاً في بنية ونفسية المؤمن المنتظر، والذي ينبغي به أن يرى الواقع في غيبة الإمام المهدي (عليه السلام) بمنزلة العيان، ولو تمثُّلاً على أقلّ قدر، وتوظيف هذه الرؤية العقدية في التمهيد والإعداد للمقوِّمات الأُخرى والرئيسة في الحراك الفردي والاجتماعي انتظاراً، ذلك لأنَّ الإيمان حقّاً وصدقاً هو سبيل النجاة والخلاص، وهو الموصل إلى المطلوب في أولويات الإصلاح والتغيير الموعود، قال الله تعالى: ﴿فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ * ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (يونس: ١٠٢ و١٠٣). وروي هذا المعنى البنيوي العقدي والمعرفي عن الإمام عليِّ بن الحسين (عليه السلام) أنَّه قال: «يا أبا خالد - الكابلي-، إنَّ أهل زمان غيبته القائلين بإمامته والمنتظرين لظهوره أفضل من أهل كلِّ زمانٍ، لأنَّ الله تبارك وتعالى أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالسيف، أُولئك المخلِصون حقّاً وشيعتنا صدقاً، والدعاة إلى دين الله (عزَّ وجلَّ) سرّاً وجهراً».
وقال عليُّ بن الحسين (عليه السلام): «انتظار الفرج من أعظم الفرج»(١٥).
تعليق