بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِ على محمد وآل محمد
يتمتّع الجيل الجديد من الفتيان والفتيات، بميزات كبيرة لم تكن متاحة لمن قبلهم من الأجيال، فقد توفرت لهم فرص التعليم حتى أعلى مستوياته، وانفتحوا على المجتمعات والثقافات، وأصبحت بين أيديهم أدوات المعرفة، عبر الوسائل الإلكترونية المتطورة، ليتمكّنوا من الاطّلاع على مختلف مجالات الحياة.
ويتنعّم هذا الجيل بمستوًى من الرفاهية وجودة الحياة لم يتوفر للأجيال السابقة.
وفي المقابل هناك تحدّيات خطيرة يواجهها هذا الجيل، على صعيد بناء شخصيته الإنسانية، وتحديد مسار سلوكه الاجتماعي.
تنمية الشعور بالمسؤولية
نركز الحديث هنا على بُعْدٍ مهم في هذا المجال، يرتبط بمدى شعور أبناء هذا الجيل بالمسؤولية في الحياة، واستعدادهم لتحمّل أعبائها.
كانت طبيعة الحياة في الماضي، تدفع الإنسان لتحمّل المسؤولية في وقتٍ مبكرٍ من عمره، فصعوبات الحياة وقسوتها، كانت تفرض على الفتيان والفتيات، مشاركة عوائلهم في القيام بأعباء الحياة.
فالولد حين يتخطّى العقد الأول من عمره، وربما قبل ذلك، يساعد أباه في عمله، في الفلاحة أو التجارة أو المهن والحرف المختلفة، وفي توفير لوازم المعيشة، وحاجات المنزل.
والبنت تساعد أمها في الخدمات المنزلية، ورعاية أخوتها الأصغر منها سنًّا، ومتابعة شؤونهم.
كما ينخرط الفتيان والفتيات في أداء المهام والواجبات الاجتماعية برفقة الآباء والأمهات، يحضرون معهم مجالسهم، ويشاركونهم في المناسبات العامة، ويستقبلون الضيوف، ويقومون بخدمتهم.
ومن خلال هذه التنشئة يتعرّف الفتيان والفتيات على قضايا الحياة، وإدارة شؤونها، ويترسّخ في نفوسهم الشعور بالمسؤولية، ويتدرّبون على تحمّل أعبائها. كما يكتسبون المهارات والخبرات في مجال تسيير أمور الحياة، وأساليب التعامل الاجتماعي.
ضمور الإحساس بالمسؤولية
أما الجيل الجديد فإنّهم ينشؤون في نمط مختلف من الحياة، حيث تطوّرت أساليب العيش، وتوفّرت الإمكانات ووسائل الرفاه، فلم يَعُدْ مطلوبًا من الفتيان والفتيات أكثر من الانتظام في صفوف التعليم، وهم ضيوف كرام على أهاليهم، وعلى المؤسسة التعليمية.
فقد لا يعرف الولد شيئًا عن طبيعة عمل أبيه، ولا يشاركه فيه، كما لا تتحمّل الفتاة شيئًا من أعباء الخدمة المنزلية.
وعلى الصعيد الاجتماعي، حصل تباعد ومسافة بين عالم جيل الآباء والأمهات، وعالم جيل الفتيان والفتيات. ولكلٍّ من العالمين برامجه واهتماماته، فقلّ أن ترى الفتيان والفتيات في استقبال ضيوف الوالدين، أو في صحبتهم.
وقد يُنتج هذا النمط من التنشئة ضعفًا وضمورًا في الشعور بالمسؤولية لدى أبناء هذا الجيل.
نتاج الثقافة المادية
والأمر الأشدّ خطرًا أنّ الثقافة التي يعيش في ظلّها فتيان وفتيات هذا الجيل، هي في الغالب ثقافة مادية استهلاكية، ترسّخ في نفوسهم الأنانية والتّمحور حول الذات، والسَّعي خلف تحقيق الرغبات الذاتية، والانفلات من القيود الأخلاقية، وتمجيد الحرية المطلقة، وعدم المبالاة بما هو خارج الذات. أو الاهتمام بالآخرين حتى الوالدين.
وهذا هو الإفراز الطبيعي للثقافة المادية الغربية، التي تضخ إلى نفوس وأذهان أبناء الشعوب، عبر مختلف وسائل الثقافة والإعلام، بدءًا من الألعاب الإلكترونية الموجهة للأطفال، وانتهاءً بمواقع التواصل الاجتماعي، وسائر برامج الفنّ والترفيه.
صناعة الوعي بالمسؤولية
إنّ علينا أن نحصّن أبناءنا وبناتنا عن الإصابة بالضعف والضمور في الإحساس بالمسؤولية، وذلك عبر الاهتمام بالنقاط التالية:
أولًا: ترشيد أساليب التربية، باعتماد نهج التنشئة على تحمّل المسؤولية تجاه الذات والعائلة، وترك الدلال المفرط، والتوجيه للاعتماد على الذات، وإشراكهم في أداء بعض المهام المرتبطة بإدارة شؤون الحياة العائلية.
ثانيًا: تنمية الاهتمام الاجتماعي في نفوس الأبناء والبنات، ومصاحبتهم في البرامج الاجتماعية، وتشجيعهم على العطاء للآخرين، والاهتمام بهم، واحترامهم.
جاء في رواية عن الإمام جعفر الصادق : «دَعِ اِبْنَكَ يَلْعَبْ سَبْعَ سِنِينَ، وَيُؤَدَّبْ سَبْعَ سِنِينَ، وَأَلْزِمْهُ نَفْسَكَ سَبْعَ سِنِينَ».[من لا يحضره الفقيه، ج3، ص492، ح 4743]
ثالثًا: أن يُظهر الوالدان أمام أبنائهم وبناتهم قيمة الشعور بالمسؤولية، بالحديث والممارسة الفعلية، ليكونا قدوة لهم، فإنّ مشاهدة الأبناء مثلًا لاهتمام الوالدين وخدمتهما لوالديهم، يدفعهم لتبنّي مسلك البرّ بالوالدين، وهذا هو أحد الآثار التي أشارت إليها الرواية الواردة عن الإمام جعفر الصادق : «بَرُّوا آبَاءَكُمْ يَبَرَّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ».[الكافي، ج5، ص554، ح5]
كذلك فإنّ ممارسة الوالدين للأعمال التطوعية في المجال الديني والاجتماعي، يهيّئ نفوس الأبناء والبنات للإقبال على مثل هذه المبادرات.
وكما قال الشاعر:
وَيَنْشَأُ نَاشِئُ الْفِتْيَانِ مِنَّا عَلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ أبُوهُ
رابعًا: استحضار ثقافة المسؤولية في الأجواء الاجتماعية العامة، عبر وسائل الإعلام، ومناهج التعليم، والخطاب الديني.
إنّ الشعور بالمسؤولية ينطلق من إحساس الإنسان بقيمته وبدوره في هذه الحياة، ويُعزّز ثقته بنفسه، ويدفعه لاستنهاض قدراته وتنمية طاقاته.
المسؤولية قيمة دينية إنسانية
والشعور بالمسؤولية قيمة دينية إنسانية يؤكّد عليها الدين، فالإنسان في الرؤية الدينية كائن مسؤول، وهو محاسب أمام ربه عن مسيرته وممارساته.
يقول تعالى: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴿٩٢﴾ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. [سورة الحجر، الآية: 92].
ويقول تعالى: ﴿وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ﴾. [سورة الصافات، الآية: 24].
ويشير أمير المؤمنين علي إلى أنَّ مَنْ يفقد الشعور بالمسؤولية يتخلّى عن إنسانيته، وينحدر إلى مستوى البهائم. يقول : «فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا».[نهج البلاغة، كتاب رقم: 45]
تجلّيات روح المسؤولية
إنّ من أبرز تجلّيات الشعور بالمسؤولية تجاه النفس، هو إصلاحها وتزكيتها، لضمان الخلاص والنجاة في الآخرة، واستقامة السلوك في الدنيا، وكذلك السعي لتطوير الذات واكتساب المعارف والخبرات، والعناية بالصحة الجسمية، واستثمار الوقت والإمكانات المتاحة فيما ينفع الإنسان في دنياه وآخرته.
وحين لا يتحمّل المرء المسؤولية تجاه نفسه يظلم نفسه، كما يُعبّر القرآن الكريم في أكثر من آية، كقوله تعالى: ﴿وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾. [سورة الطلاق، الآية: 1].
ويقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾. [سورة آل عمران، الآية: 135].
ومن تجلّيات الشعور بالمسؤولية تجاه العائلة، البرّ بالوالدين، وحسن التربية والإدارة، وإغداق العطف والحنان، والتوسعة عليهم في المعيشة.
فقد ورد عن رسول الله : «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْماً أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُولُهُ».[الكافي، ج4، ص12، ح8]
وورد عن الإمام علي بن الحسين السجاد : «أَرْضَاكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَسْبَغُكُمْ عَلَى عِيَالِهِ».[الكافي، ج4، ص11، ح1]
ومن تجلّيات الشعور بالمسؤولية تجاه المجتمع: ممارسة دور الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وخدمة المصالح العامة، ومساعدة الفقراء والمحتاجين، والانخراط في العمل التطوعي.