بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِ على محمد وآل محمد
ورد عن الإمام علي بن موسى الرضا : «مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ رَبِحَ، وَمَنْ غَفَلَ عَنْهَا خَسِرَ».
يدرك الإنسان بوجدانه أنّ لِذاتهِ وشخصيته بعدين في هذه الحياة، بعدًا ظاهريًّا ماديًّا يتمثل في جسمه، بصورته وحواسّه وأعضائه، وبعدًا داخليًّا نفسيًّا يتمثل في رؤاه وتصوراته ومشاعره وأحاسيسه.
عناية الإنسان بظاهره
عادة ما يفرض الاهتمام بالبعد الظاهري (وهو الجسم) نفسه على الإنسان، فالحاجات البيولوجية شديدة الإلحاح على الإنسان، كالحاجة إلى الطعام والشراب والملبس والمأوى، والرعاية الصحية، وتحقيق الرغبات العاطفية.
لذلك ينشغل الإنسان بتلبية هذه الحاجات، ويهتم بالعناية بجسمه، بتحصينه من العلل والأمراض، والحفاظ على صحته، وجمال وأناقة مظهره، وتوفير الرغبات ومتطلّبات الراحة.
كما يهتمّ بكسب وتحصيل الإمكانات والمصالح المادية، ويحرص على حماية ممتلكاته وتنميتها ومراكمتها.
إغفال الاهتمام بالنفس
لكنّ الإنسان غالبًا ما يغفل عن الاهتمام بالبعد الآخر من ذاته وشخصيته، وهو البعد الداخلي النفسي. وهو البعد الأهم والأكثر تأثيرًا على حياته ومستقبله.
إنّ النفس هي التي تقود الجسم وتحركه، وهي التي ترسم مسار حياة الإنسان، وتشكل شخصيته، وتحدّد سلوكه.
ولو توفرت للإنسان كلّ مقوّمات الصحة الجسمية والأناقة الجمالية، وحاز مختلف الإمكانات المادية، لكنه كان مريض النفس، فإنه سيعيش القلق والاضطراب، ويفقد الطمأنينة والتوازن في حياته وسلوكه.
خطر الأزمات النفسية
إنّ كثيرًا ممن يعانون الأزمات النفسية، ويصيبهم القلق والاكتئاب، لا تنقصهم القدرات الجسمية ولا الإمكانات المادية، لكنّ أزماتهم النفسية تكدّر صفو حياتهم، وتمنعهم من التمتع بها، وقد يلجأ بعضهم إلى الانتحار، أو الانكفاء والعزلة والانطواء.
وحسب تقارير منظمة الصحة العالمية، فإنّ نسبة من حالات الانتحار تحدث في بلدان مرتفعة الدخل، وهناك تزايد في إقبال النجوم والمشاهير على الانتحار.
أما قائمة الأثرياء الذين انتهت حياتهم بالانتحار فهي طويلة جدا
وكذلك هو حال من يقع في براثن الإدمان على المخدّرات، أو يتورط في ممارسات الإجرام، فيدفع حياته وراحته ثمنًا لانحرافه واجرامه.
وعلى صعيد آخر نجد مَن تدفعه المعاناة في علاقاته العائلية والاجتماعية، إلى مستوى من التأزّم النفسي، يحوّل حياته إلى جحيم لا يطاق، ولا يعوّضه توفر الإمكانات والقدرات المادية.
سلامة ونقاء داخل الذات
إنّ سلامة ونقاء داخل الذات، هو الذي يوجه الإنسان للاستقامة والتوازن في حياته الفردية والاجتماعية، ويمنحه الشعور بالسعادة والراحة والاطمئنان، حتى وإن عانى من بعض الصعوبات المادية والجسمية.
ومهمّة الدين، ووظيفة القيادات الدينية، هي إثارة اهتمام الإنسان بداخل ذاته وعدم الغفلة عنه.
وفي هذا السياق يأتي توجيه الإمام علي بن موسى الرضا : «مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ رَبِحَ، وَمَنْ غَفَلَ عَنْهَا خَسِرَ».
إنّ من يهتم بداخل ذاته، فينمّي فيها النزعات الخيّرة، ويكبح جماح الأهواء والشهوات، ويقوّم تصوراته وانطباعاته، ويحاكم سلوكه وتصرفاته، ويستحضر الله في قلبه، ويفكّر في وقوفه بين يديه، فسيكون رابحًا في حياته، وفائزًا في آخرته.
أما من يغفل عن نفسه، ويطلق العنان لشهواته وأهوائه، فسيخسر دنياه وآخرته.
الانشغال الأكبر للأنبياء والأئمة
إنّ الاهتمام بداخل الذات يجب أن يكون هو الشغل الشاغل للإنسان طوال حياته، ومهما كانت منزلته ومقامه.
لذلك نجد أنّ الأنبياء والأئمة والأولياء الذين يوجهون الناس للاهتمام بدواخل ذواتهم، هم أنفسهم الأكثر اهتمامًا بذلك، فهم يواظبون على العبادة والتهجد وذكر الله سبحانه، ومحاسبة أنفسهم أمام الله تعالى، كما نقرأ في سيرتهم وأدعيتهم ومناجاتهم.
فأقرب الخلق إلى الله، وأحبّهم إليه، نبيّنا محمد ، ورد عنه : «إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ».
وفي رواية عن الإمام جعفر الصادق : «إِنَّ رَسُولَ اَللَّهِ كَانَ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ» .
ونقرأ في سيرة أمير المؤمنين علي مواقف تهجده، وعبارات مناجاته، التي تكشف عن عظيم تذلّلـه لله تعالى، واهتمامه بمحاسبة نفسه، وهو في المكانة السامية من القرب الإلهي.
وتكفي قراءة الدعاء المنسوب إليه والمعروف بدعاء كميل، الذي جاء في بعض فقراته: «اللَّهُمَّ لَا أَجِدُ لِذُنُوبِي غَافِرًا وَلَا لِقَبَائِحِي سَاتِرًا وَلَا لِشَيْءٍ مِنْ عَمَلِيَ الْقَبِيحِ بِالْحَسَنِ مُبَدِّلًا غَيْرَكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ ظَلَمْتُ نَفْسِي وَتَجَرَّأْتُ بِجَهْلِي وَسَكَنْتُ إِلَى قَدِيمِ ذِكْرِكَ لِي وَمَنِّكَ عَلَيَّ... اللَّهُمَّ عَظُمَ بَلَائِي وَأَفْرَطَ بِي سُوءُ حَالِي وَقَصُرَتْ بِي أَعْمَالِي وَقَعَدَتْ بِي أَغْلَالِي وَحَبَسَنِي عَنْ نَفْعِي بُعْدُ آمَالِي وَخَدَعَتْنِي الدُّنْيَا بِغُرُورِهَا وَنَفْسِي بِخِيَانَتِهَا» .
وفي الإمام علي بن موسى الرضا نموذج مشرق للاهتمام بداخل الذات، يتجلّى ذلك من خلال برامجه العبادية ومكارم أخلاقه.
يتحدّث رجاء بن الضحاك الذي كلّفه المأمون العباسي بمرافقة الإمام الرضا حين أمر بإشخاصه إليه من المدينة إلى مرو قال: (أَمَرَنِي أَنْ أَحْفَظَهُ بِنَفْسِي بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ حَتَّى أَقْدَمَ بِهِ عَلَيْهِ فَكُنْتُ مَعَهُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَرْوَ فَوَ اللَّهِ مَا رَأَيْتُ رَجُلًا كَانَ أَتْقَى لِلَّهِ تَعَالَى مِنْهُ وَلَا أَكْثَرَ ذِكْرًا لِلَّهِ فِي جَمِيعِ أَوْقَاتِهِ مِنْهُ وَلَا أَشَدَّ خَوْفًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُ.
وكان قنوته في جميع صلواته: «رَبِّ اِغْفِرْ وَاِرْحَمْ وَتَجَاوَزْ عَمَّا تَعْلَمُ إِنَّكَ أَنْتَ اَلْأَعَزُّ اَلْأَجَلُّ اَلْأَكْرَمُ».
وَكَانَ إِذَا أَقَامَ فِي بَلْدَةٍ عَشَرَةَ أَيَّامٍ صَائِمًا لاَ يُفْطِرُ.
وَكَانَ يُكْثِرُ بِاللَّيْلِ فِي فِرَاشِهِ مِنْ تِلاَوَةِ اَلْقُرْآنِ فَإِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا ذِكْرُ جَنَّةٍ أَوْ نَارٍ بَكَى وَسَأَلَ اَللَّهَ اَلْجَنَّةَ وَتَعَوَّذَ بِهِ مِنَ اَلنَّارِ.
فَلَمَّا وَرَدْتُ بِهِ عَلَى اَلْمَأْمُونِ سَأَلَنِي عَنْ حَالِهِ فِي طَرِيقِهِ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا شَاهَدْتُهُ مِنْهُ فِي لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ وَظَعْنِهِ وَإِقَامَتِهِ فَقَالَ لِي: يَا بْنَ أَبِي اَلضَّحَّاكِ، هَذَا خَيْرُ أَهْلِ اَلْأَرْضِ وَأَعْلَمُهُمْ وَأَعْبَدُهُمْ).
وروي عنه أنه قال: «الصَّغَائِرُ مِنَ الذُّنُوبِ طُرُقٌ إِلَى الْكَبَائِرِ، وَمَنْ لَمْ يَخَفِ اللَّهَ فِي الْقَلِيلِ لَمْ يَخَفْهُ فِي الْكَثِيرِ، وَلَوْ لَمْ يُخَوِّفِ اللَّهُ النَّاسَ بِجَنَّةٍ ونَارٍ، لَكَانَ الْوَاجِبَ أَنْ يُطِيعُوهُ، وَلَا يَعْصُوهُ لِتَفَضُّلِهِ عَلَيْهِمْ، وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، وَمَا بَدَأَهُمْ بِهِ مِنْ إِنْعَامِهِ الَّذِي مَا اسْتَحَقُّوهُ».
يريد الإمام الرضا بهذا التوجيه تعزيز المناعة والحصانة النفسية في أعماق الإنسان، تجاه الخطايا والذنوب، فلا يستهين بالقليل منها، فتضعف مناعته ويتجرأ حتى على الذنوب الكبيرة. كما يستثير الإمام فطرة الإنسان ووجدانه، التي يجب أن تدفعه إلى الالتزام بطاعة الله، واجتناب معصيته، شكرًا لنعمه وفضله.