بسم اللّه الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الطاهرين
قال اللّه العظيم في محكم كتابه الحكيم.
بسم اللّه الرحمن الرحيم ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾[سورة الأنفال:الآية 63] صدق اللّه العلي العظيم.
طبيعة الحياة البشرية تحصل فيها شوائب وموانع تكدِّر صفو العلاقات بين الناس، وهذا ليس شيئًا خاصًا بالحياة البشرية، حتى بقية أنواع الحياة تجد فيها أشياء مشابهة، فمثلا: من يقرأ في مجال الزراعة يجد أن هناك جهدًا كبيرًا يُصرف، ونظريات كثيرة تُطرح، حول الوجودات والأشياء الضارة في عالم الزراعة، هناك نباتات غير مرغوبة للناس، وتسبب أضرارًا في بعض الأحيان للنباتات المرغوبة، ويطلق عليها الخبراء الزراعيون الأعشاب الضارة، هذه تنتشر في المساحات المزروعة، وحتى في الطرقات، ومختلف الأماكن، تنتشر بعض النباتات يطلق عليها الأعشاب الضارة، ورغم أن الناس لا يرغبون في وجودها إلا أنها تنتشر من دون قصد من الناس.
لذلك صرف الإنسان منذ بداية انشغاله بالزراعة جهودًا كبيرة للقضاء على العشب الضار والمؤذي والسام .
الزراعة تنبت فيها هذه الأعشاب الضارة، وقد تكون لها جانب منفعة لكنها غير واضحة، حيث تكون بعض الأعشاب ضارة في مكان لكنها نافعة في مكان آخر.
وفي عالم الإنسان تنشأ شوائب في نفس الإنسان، وفي العلاقات الاجتماعية، لسبب أو آخر، هذه الشوائب تكون لها بذور (بذور الحسد ـ بذور التنافر ـ بذور الأنانية) هذه البذور التي تنتقل بنفسها، وهي موجودة في أعماق الإنسان، بسبب طبيعة خلقته، وتحتاج إلى مكافحة، وإذا لم تكافح هذه الشوائب فإن الحياة الاجتماعية لا تطاق، تمامًا كالأعشاب الضارة ، إذا لم تكافح في عالم الزراعة، تسبب أضرارًا على حساب النباتات الصالحة، وتكون سامة في كثير الأحيان، لذلك يصرف جهد في مقاومتها، كذلك في الحياة الاجتماعية لا بدّ وأن يصرف جهد في مقاومة الأعشاب الضارة في ساحة العلاقات الاجتماعية.
وتمامًا كما أن الخبراء الزراعيين يطورون جهودهم لمواجهة العشب الضار، ولمواجهة الطفيليات السامة والضارة، كذلك في المجتمع الإنساني لا بدّ من مقاومة ما يضر الحياة الاجتماعية، ولكن كيف يمكن مقاومة العشب الضار والطفيليات في ساحة العلاقات الاجتماعية؟
يقول اللّه تعالى: ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾[سورة الأنفال، الآية:63]، والسؤال قلوب من؟ إنها قلوب العرب الذين استجابوا لدعوة رسول اللّه ، وكانوا من قبائل شتى، ففي مكة كان هناك حالة من التمايز القبلي، وكانت كل قبيلة تفتخر على القبيلة الأخرى، وكذلك في المدينة المنورة كان هنالك حروب بين الأوس والخزرج امتدت سنين طويلة، والحياة القبلية التي كان يعيشها العرب كانت تعطي فرصة للكثير من الأعشاب الضارة، والفطريات السامة، التي كانت تشوب العلاقات بين الناس، حيث كانت الحروب تحصل بين القبائل، والعلاقات كانت متوترة ومتشنجة.. فلما جاء الإسلام، أراد رسول اللّه أن يوحّد هؤلاء الناس، ولكن كيف؟ هل بالوسائل المادية؟ لو استخدمت الوسائل المادية لتنقية العلاقات بين أبناء المجتمع البشري لما استطاعت أن تصل إلى المستوى المطلوب، هناك حاجة إلى وسائل أخرى.. إلى وسائل روحية، تغسل ما في القلوب، تصحح مسار العواطف والمشاعر التي في أعماق النفوس. وهذا هو عمق رسالة الإسلام، وجوهر الدور الذي قام به رسول ، اللّه تعالى يخاطبه: ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ المسالة ليست تأليفًا بين الأجسام وبين المصالح، وإنما بين القلوب ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾، إن استخدام المسائل المادية فقط لإيجاد علاقات سليمة داخل أي مجتمع إنساني، أو بين المجتمعات الإنسانية، لا تحقق المطلوب إذا اقتصرنا عليها، ﴿لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾
ويمكننا الإشارة إلى أربعة برامج كانت في رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم هي التي أنتجت هذه الوحدة العجيبة في التاريخ:
أولًا: تحقيق العدالة والمساواة بين الناس:
لأن الناس إذا حصل تمييز بينهم، يوغر القلوب بالعداوة، أنت لا تستطيع بين جمع يؤلب بعضهم على بعض أن تحقق المحبة فيما بينهم، ونجد ذلك في حال التمييز بين الأبناء، لذا يجب المساواة بينهم، وهذا ما تشير إليه مضامين النصوص الكريمة، إن مما يؤلب صدور الأبناء تجاه بعضهم هو التمييز بينهم.
و من الطبيعي أن السياسة التي لا تساعد على إيجاد جو من المحبة والوئام، فالذي يحصل على الامتيازات سيشعر بالتعالي، ويريد أن يحافظ على تلك الامتيازات، ومن يفقد تلك الامتيازات يشعر بالغبن، ويريد أن ينتقم لظلامته سياسة فاشلة
الإسلام مبادئه جاءت لترسي العدالة والمساواة بين الناس، وقد طبقها رسول اللّه فغرس المحبة، وجعل النظام هو الحاكم، مثلًا: المستحب شرعًا أن الرجل إذا شرب الماء يعرض على من حوله، فيبدأ بمن على يمينه، ثم من على شماله، كائنًا من كان، الرواية تقول إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان جالسًا وجيء له بماء ليشرب منه، وكان على يمينه صبي صغير، وعلى شماله شيوخ الصحابة ـ ووفقًا للاستحباب الشرعي أراد أن يبدأ بمن على يمينه، ولكن وفقًا للحالة الاجتماعية التي تراعي موقعية الشخصيات الكبيرة، تقول الرواية: «التفت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى الصبي الذي على يمينه وسأل الصبي إن كان يأذن أن يبدأ كبار وشيوخ الصحابة بشرب الماء.
إن هذا التصرف من رسول اللّه تحقيق وتطبيق لمبادئ العدل والمساواة، وهي تعد عاملًا أساسًا من عوامل توفير المحبة والوئام في نفوس الناس.
ثانيًا: التهذيب الروحي والأخلاقي
الناس إنما يتنافرون ويتعادون فيما بينهم بسبب حالات الأنانية المفرطة، والحسد والأحقاد، إن الحضارة المادية تفتقد إلى تهذيب النفس والروح، وساعدهم على ذلك أن أساليب وخطاب التهذيب الروحي والنفسي عند المتدينين لم تتطور، كما يقتضي تطور الحياة الفكرية والاجتماعية، لذلك تجدون أن دور التوجيه المعنوي والروحي والتهذيب الأخلاقي في الحياة الإنسانية محدود.
ثالثًا: التوجيه للأهداف العليا المشتركة
أي جماعة يكون لديها هدف جماعي رفيع، لا بدّ وأن يشغلها عن الصغائر والقضايا الجانبية، الإسلام أعطى أولئك الناس ـ الذين كانوا يعيشون حياة الصحراء والتقاتل على المرعى والتفاخر بالأشياء الثانوية ـ منحهم هدفًا كبيرًا وتطلعًا آخر، فجمع عقولهم وقلوبهم على هدف سامٍ كبير.
رابعًا: نشر ثقافة المحبة
هناك الثقافة التي تجعل الناس يحبون بعضهم بعضًا،و هناك ثقافة تؤلب الناس بعضهم على بعض، تبرز لكل طرف الجانب السلبي عن الآخر، هذه ثقافة تحرض على الكراهية.
إن الإسلام يهتم بإنتاج ونشر ثقافة المحبة بين الناس، أن يحبوا بعضهم بعضًا وهنا نذكر بعض النصوص التي تؤكد جانب المحبة :
عن إبراهيم بن شعيب قال إنه سمع الإمام جعفر بن محمد الصادق يقول: «سأل داوود النبي ابنه سليمان ـ ليعلم ما بلغ من الحكمة ـ قال له: بني أيّ شيء أحلى؟ فأجابه نبي اللّه سليمان : «المحبة هي روح اللّه بين عباده».
ورد في رواية أخرى عن الإمام الباقر : «وهل الدين إلا الحب» ، الدين في عمقه الحب، للحياة وللناس، وروي عن النبي : «لا تزال أمتي بخير ما تحابوا»،
وعن النبي : «رأس العقل ـ بعد الإيمان باللّه ـ التحبب إلى الناس»، وعن النبي : «رأس العقل بعد الإيمان باللّه ـ التودد إلى الناس واصطناع الخير إلى كل بر وفاجر» حتى لا يتوهّم الإنسان أن التودد إلى المؤمنين فقط، بل اصطناع الخير لكل بر وفاجر، وعنه : «التودد نصف الدين» ،
وعنه في وصف شر الناس، قال: «الذي يبغض الناس ويبغضونه»، وعنه : «جبلت القلوب على حبّ من أحسن إليها وبغض من أساء إليها»،
وعنه : «لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا»، وفي وصية جميلة للنبي أوصاها لعلي : «يا علي، إذا أردت مدينة أو قرية، فقل حينما تعاينها: اللّهم إني أسألك خيرها وأعوذ بك من شرِّها. اللّهم حببنا إلى أهلها، وحبب صالحي أهلها إلينا».
وهناك نصوص كثيرة جدًا جدًا على هذا الصعيد ـ أن تكون نفس الإنسان ـ عامرة بالحب تجاه الآخرين وليس بالحقد عليهم، فإذا قال هذا أكرهه لأنه يختلف معي في الدين، أو لأنه يختلف في المذهب، أو يختلف معي في المرجع أو الفئة التي أنتمي لها، وأكره ذاك لأنه يختلف معي في الرأي، إذن من يبقى له من الناس؟
تعليق