بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِ على محمد وآل محمد
مما ورد عن مولانا زين العابدين علي أبن الحسين أنه قال: ”إلهي اَدْعُوكَ يا سَيِّدي بِلِسانٍ قَدْ اَخْرَسَهُ ذَنْبُهُ، رَبِّ اُناجيكَ بِقَلْبٍ قَدْ اَوْبَقَهُ جُرْمُهُ، اَدْعوُكَ يا رَبِّ راهِباً راغِباً، راجِياً خائِفاً، اِذا رَاَيْتُ مَوْلايَ ذُنُوبي فَزِعْتُ، وَاِذا رَاَيْتُ كَرَمَكَ طَمِعْتُ، فَاِنْ عَفَوْتَ فَخَيْرُ راحِم وَاِنْ عَذَّبْتَ فَغَيْرُ ظالِم“.
هذه الفقرات النورانية التي تنبض خشوع وابتهال إذا تأملنا فيها وجدنا الخير الوفير ”إلهي اَدْعُوكَ يا سَيِّدي بِلِسانٍ قَدْ اَخْرَسَهُ ذَنْبُهُ“ كيف يكون اللسان مذنب؟ كيف ينعكس الذنب وتنعكس المعصية على اللسان كي يقال ”بِلِسانٍ قَدْ اَخْرَسَهُ ذَنْبُهُ“؟
أن أهل المعرفة يقولون كل ذنب معه كذب لا ينفك الذنب عن الكذب سواء كانت المعصية غيبة أم عقوق والدين أم شرب المسكر أم أم.. كل معصية فمعها كذب ولأجل ذالك فبمجرد أن يدعوا الإنسان ربه يخرس هذا اللسان الكذب الملازم للذنوب، وكيف يكون مع المعصية كذب؟
جاء رجل إلى أحد الأولياء فقال: عضني موعظة تمنعني عن المعصية قال: لا تكذب فخرج من عنده وهو يفكر لماذا نهاه عن خصوص الكذب؟ فقال: له لا تكذب، فبعد فترة لما أراد أن يزاول المعصية ويرتكب الرذيلة خرج يريد المعصية فرآه شخص فقاله له: إلى أين فطر إلى أن يكذب من أجل أن يستمر في المعصية فقال: إلى المكان الفلاني مع أنه كان قاصد للمعصية فعرف أن الإمعان في المعصية لا يجتمع مع الصدق لا يمكن الاستمرار والإصرار على المعصية إلا بالكذب لأن الإنسان يتستر بمعصيته فيكذب على الناس لأنه يظهر لهم وجه وهو يبطن وجه آخر يظهر للناس الصلاح والاعتدال وهو يبطن الفساد والانحراف فهو يكذب في فعله ويكذب في قوله أيضاً.
لذا وقف الإنسان أمام ربه في الصلاة وقال ”استغفر الله ربي أتوب إليه“ وهو ملتف إلى أنه لا يستغفر الله استغفار حقيقي لأنه سيعود للذنب مرة أخرى إنما يقول أستغفر الله لتمشية الصلاة هو يرفع يديه في القنوت ويقول ”ربي أغفر ليّ وأرحمني“ لكنه يدري في قرارت نفسه أنه سيعود للذنب والمعصية إذن هو يكذب، يكذب عل الناس لأنه مصر على أن يتعامل مع الناس بوجهين وجه الصلاح وهو يبطن وجه الفساد ويكذب في دعائه ويكذب في مناجاته لأنه يطلب المغفرة يطلب الرحمة وهو يعلم أن لا جدوه من هذا لأنه سيعود للذنب مرة أخرى، إذن كيف أدعوك يا إلهي؟
أدعوك بهذا اللسان! بهذه القطعة من اللحم! وهي مملوءة كذب استغفرك استغفار كاذب أتوب إليك توبة كاذبة أتوسل وأتذلل إليك تذلل كاذب فأنا مصر أن أعود إلى المعصية مصر أن أعوذ إلى الذنب ”إلهي اَدْعُوكَ يا سَيِّدي بِلِسانٍ قَدْ اَخْرَسَهُ ذَنْبُهُ“ لا مجال ليّ أن أدعوك بلسان طلق لألق لا مجال ليّ لأن لساني أخسره الكذب أخسره الذنب ذنب التظاهر ذنب أنني أظهر أنني على صلاح وأنا على فساد ”اَدْعُوكَ يا سَيِّدي بِلِسانٍ قَدْ اَخْرَسَهُ ذَنْبُهُ، رَبِّ اُناجيكَ بِقَلْبٍ قَدْ اَوْبَقَهُ جُرْمُهُ“ لغة السان هي الدعاء لأنه لغة صوتيه، ولغة القلب هي المناجاة لأنها لغة شعورية فرق بين الفظ والشعور اللسان يفرغ الألفاظ وهذا دعاء لكن القلب يفرغ المشاعر وهذه مناجاة الإنسان إذا وقف بين يدي ربه تحرك قلبه أما أن يتحرك القلب خوف فهذه مشاعر الخوف مناجاة، أما أن يتحرك القلب حب فهذه مشاعر الحب مناجاة ”رَبِّ اُناجيكَ“ لم يقل أدعوك لأن لغة القلب لغة مشاعر ”رَبِّ اُناجيكَ بِقَلْبٍ قَدْ اَوْبَقَهُ جُرْمُهُ“ القلب يأثم يقول القرآن الكريم: ﴿وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾[1] القلب يعمى ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾[2] القلب يطمئن﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾[3] القلب يمرض﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾[4] .
إذن القلب منطقة خطيرة جدا أخطر منطقة في شخصية الإنسان القلب منطقة خطرة منطقة تحتاج إلى رقابة دائمة وإلى حيطة مستمرة هو أخطر منطقة هذا القلب أن كان سليم سلمت الجوارح سلم السلوك وأن كان مريض أصبحت شخصية مريضة لأن قلبي مريض القلب منطلق شخصيتي مفتاح شخصيتي أن سلم سلمت وأن مرض مرضت﴿فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾[5] .
إذن قوله "رَبِّ اُناجيكَ بِقَلْبٍ قَدْ اَوْبَقَهُ «ما معنى أوبقه؟ يعني أمرضه» جُرْمُهُ «الجرم يحول القلب من سليم إلى مريض» اَوْبَقَهُ جُرْمُهُ «حوله إلى قلب مريض» ما هو المرض؟ ما هو مرض القلب أتدري ما هو مرض القلب؟ مرض القلب اللهث وراء الشهوة اللهث وراء الدنيا هذا هو مرض القلب هناك قسمان من القلوب:
1 - قلب مطمئن: لا يلهث لا يركض هذا القلب المطمئن رضي بقضاء الله رضي بقدر الله فهو في حالة مستقرة.
2 - القلب المريض: هو القلب الذي يجري يجري يجري وراء الشهوة بمجرد أن يرى إثارة في التلفزيون في الطريق تراها يجري وراء الآثاره بمجرد أن يتعرض إلى أغراء تراه يستجيب للأغراء القلب المريض هو المهتز الذي ليس فيه ثقل ليس فيه استقرار ليس فيه ركود قلب متهرئ قلب يسترسل وراء شهوات ووراء غرائزه أنها قلوبنا حتى نعرف أن قلوبنا مريضه أو أن فقلوبنا سليمة للنظر اليوم الذي نقطعه من الفجر إلى الفجر كم ساعة مع القلب السليم؟ وكم ساعة مع القلب المريض؟
نحن نعيش أربع وعشرون ساعة لو جمعت صلاتي ونافلتي وقراءتي للقرآن ودعائي كم ساعة سيكون؟ ساعتين بقي أثنان وعشرون ساعة كم ساعة مع الشهوات؟ كم ساعة مع الغرائز؟ كم ساعة مع الأكل مع الشرب مع العلاقة العاطفية مع المعاصي مع التلفزيون مع المسلسلات مع الجلسات الفارعة كم ساعة؟
خمس ساعات ثمان ساعات إذن القلب مريض وليس القلب سليم لو كان قلبي مستقر مطمئن لما أنس إلا بذكر الله، لو كان قلبي مستقر مطمئن لما ضيع فرصة من النهار إلا في ذكر الله لكن قلبي مريض والقلب المريض يلهث ويجري وراء ما تشتهيه النفس أين الشهوة؟ أين الأكل اللذيذ؟ أين مجلس الضحك؟ أين النزهة؟ أين الترفيه؟ أين الراحة؟ أين الأنس؟ هذا هو الذي يبحث عنه قلبي فقلبي مريض ”اَوْبَقَهُ جُرْمُهُ“ حوله إلى قلب مريض، فكيف الخلاص من هذا القلب المريض؟ إلهي أريد الخلاص أريد النجاة ”اَدْعوُكَ يا رَبِّ راهِباً راغِباً، راجِياً خائِفاً“ أريد الخلاص من مرض القلب.
”إلهي اِذا رَاَيْتُ مَوْلايَ ذُنُوبي فَزِعْتُ“ فالنفكر في ذنوبنا كما نفكر في تجارتنا كما نفكر في أعمالنا كما نفكر في شؤون أسرنا فالنفكر شيئا قليلا في ذنوبنا، القلب بيت أنا الآن دخلت البيت بيت القلب فلما دخلت البيت وجدت النيرات تستعر في كل جدار من البيت وجدت البيت يسقط في لهب النيران تأكل النيران أرضه وسقفه وجدرانه نيران الذنوب ”اذا رَاَيْتُ مَوْلايَ ذُنُوبي فَزِعْتُ“ لأنه نيران، نيران تأكلني نيران تشتعل في جسمي نيران تستعر في داخل روحي إذا فكرت في الذنوب فزعت ما لذي يخلصني من هذه النيران؟ كم سنة أنا عشت وأنا على هذه الذنوب؟ منذ بلوغي إلى الآن كم سنة؟ هذه السنين كم يوم؟ هذه الأيام كم ذنب؟ إذا مررت على ذنوبي الماضية كم مئة آلف كم ذنب؟ من الذي يخلصني منها؟ نيران تستعر في البيت وتأكل جدرانه وسقفه بيت القلب ”اِذا رَاَيْتُ مَوْلايَ ذُنُوبي فَزِعْتُ“.
ولكن من جهة أخرى أنظر من النافدة فأرى نور في الأفق وأرى سحابة تمطر ندى ناعم وأرى غمامة بيضاء تقطر صفاء وطهارة أن تلك الغمامة هي كرمك ورحمتك ”وَاِذا رَاَيْتُ كَرَمَكَ طَمِعْتُ، فَاِنْ عَفَوْتَ فَخَيْرُ راحِم“ أنت أرحم الراحمين يا أرحم الراحمين وأن تعذبني فبذنوبي بشقائي بأصراري على الذنب والمعصية ”فَغَيْرُ ظالِم“ ما ظلمتني أبداً أنا الذي أصررت على المعصية، أنا الذي تعمدت الرذيلة، أنا الذي أخطئت، أنا الذي جهلت، أنا الذي عملت، أنا الذي تعمدت ”وَاِنْ عَذَّبْتَ فَغَيْرُ ظالِم“.
وهل يقوى جسمي الضعيف على العذب؟ هل أستطيع أن أمسك بأصبعي عود كبريت؟ لا أستطيع لو أوتي لي بعود كبريت فيه نار هل أستطيع أن أمسكه بأصبعي هذا؟ أبدا لا أستطيع فكيف أتستطع أن أتي يوم القيامة وكل جسمي يشتعل نار كل جسمي تأكله النيران ”يا رَبِّ وَ اَنْتَ تَعْلَمُ ضَعْفي عَنْ قَليل مِنْ بَلاءِ الدُّنْيا“ تستطيع أن تتحمل السجن شهر سنة ”وَ اَنْتَ تَعْلَمُ ضَعْفي عَنْ قَليل مِنْ بَلاءِ الدُّنْيا وَ عُقُوباتِها وَما يَجْري فيها مِنَ الْمَكارِهِ عَلى اَهْلِها، عَلى اَنَّ ذلِكَ بَلاءٌ وَمَكْرُوهٌ قَليلٌ مَكْثُهُ، يَسيرٌ بَقاؤُهُ، قَصيرٌ مُدَّتُهُ فَكَيْفَ احْتِمالي لِبَلاءِ الاْخِرَةِ“ ألف سنة مليون سنة لا نهاية للعذاب.
”فَكَيْفَ احْتِمالي لِبَلاءِ الآخِرَةِ، وَ جَليلِ وُقُوعِ الْمَكارِهِ فيها، وَ هُوَ بَلاءٌ تَطُولُ مُدَّتُهُ، وَ يَدُومُ مَقامُهُ، وَ لا يُخَفَّفُ عَنْ اَهْلِهِ، لاَنَّهُ لا يَكُونُ إلاّ عَنْ غَضَبِكَ وَ اْنتِقامِكَ وَ سَخَطِكَ، وَ هذا ما لا تَقُومُ لَهُ السَّماواتُ وَ الأرْضُ، يا سَيِّدِي فَكَيْفَ لي وَ أنَا عَبْدُكَ الضَّعيفُ الذَّليلُ الْحَقيرُ الْمِسْكينُ الْمُسْتَكينُ، يا اِلهي وَ رَبّي وَ سَيِّدِي“ أتعذبني بالنار ”اَتُسَلِّطُ النّارَ عَلى وُجُوه خَرَّتْ لِعَظَمَتِكَ ساجِدَةً، وَ عَلى اَلْسُن نَطَقَتْ بِتَوْحيدِكَ صادِقَةً، وَ بِشُكْرِكَ مادِحَةً، وَ عَلى قُلُوبٍ اعْتَرَفَتْ بِإلهِيَّتِكَ مُحَقِّقَةً، وَ عَلى ضَمائِرَ حَوَتْ مِنَ الْعِلْمِ بِكَ حَتّى صارَتْ خاشِعَةً، وَ عَلى جَوارِحَ سَعَتْ إلى أوْطانِ تَعَبُّدِكَ طائِعَةً، وَ اَشارَتْ بِاسْتِغْفارِكَ مُذْعِنَةً، ما هكَذَا الظَّنُّ بِكَ، وَ لا اُخْبِرْنا بِفَضْلِكَ عَنْكَ“.
[1] سورة البقر، آية 283.
[2] سورة الحج، آية 46،
[3] سورة الرعد، آية 28.
[4] سورة البقرة، آية 10.
[5] سورة الأحزاب، آية 32.