بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وال محمد وعجل فرجهم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
النشاط الفكري للامام الصادق (عليه السلام)
إذا راجعنا حوارات واحتجاجات الإمام الصادق عليه السلام في كتب الاحتجاج أو السيرة الخاصّة به، لاحظنا عدّة ظواهر ملفتة للنظر:
1- إنّ أكبر نسبة من الاحتجاجات هي مع رموز الملاحدة والزنادقة في عصره مثل الديصانيّ وابن أبي العوجاء.
2- يأتي الاحتجاج مع أصحاب الرأي والقياس في الدرجة الثانية من مجموعة الاحتجاجات المأثورة عنه.
3- تتنوّع أطراف الحوار مع الإمام عليه السلام إلى أنواع المعتقدات بدءاً من الإنكار لوجود الله تعالى وانتهاءً بالسلوكيّات المنحرفة وأصحاب الفهم الخاطئ لمسيرة الشريعة.
ويُمكن تقسيم مجموعة هذه الظواهر الّتي تكشف عن تنوّع الاتجاهات والتيّارات في عصره إلى ما يلي:
أ - التيّارات الّتي تنكر المبدأ والرسالة، ويُعدّ أصحابها خارجين عن دين الإسلام، وتتمثّل في تيّار الزندقة وتيّار الغلوّ وما شاكلها.
ب - التيّارات الّتي تُشكّل انحرافات داخل المسلمين، وهي تيّارات: الاعتزال والتفويض والإرجاء والتصوّف والرأي والقياس.
وتنقسم هذه التيّارات بدورها إلى تيّارات عقائديّة وأخرى فقهيّة.
4- ونلاحظ أيضاً أنّ الإمام عليه السلام في حواره مع الزنادقة والملحدين يُمثّل العالِم الحليم الهادئ المسيطر على كلّ نواحي المعرفة، ممّا أدّى إلى رجوع بعض الملحدين وإيمانهم بالله على يديه.
بينما نجده، في مواجهته لتيّار الغلوّ، ذلك القائد الهادر الّذي لا يقِرّ له قرار، وهو يكيل أنواع اللعن له ويتمنّى الإبادة التامّة للغلاة.
وقد حفلت كتب السيرة والتاريخ بالحوارات والروايات الّتي نقلت لنا تصدّي الإمام الصادق عليه السلام ومواجهته لهذه التيّارات كافّة.
بناء جامعة أهل البيت عليهم السلام
واصل الإمام الصادق عليه السلام تطويره للمدرسة الّتي أسّسها آباؤه الطاهرون عليهم السلام من قبله وانتقل بها إلى آفاق أرحب، فاستقطبت الجماهير من مختلف البلاد الإسلاميّة, لأنّها استطاعت أن تُلبّي رغباتهم، وحاولت ملء الفراغ الّذي كانت تُعانيه الأمّة آنذاك.
مميّزات جامعة الإمام الصادق عليه السلام
1- تتميّز مدرسة الإمام الصادق عليه السلام عن غيرها في أنّها لم تنغلق في المعرفة على خصوص العناصر الموالية فحسب، وإنّما انفتحت لتضمّ طلّاب المعرفة والعلم من مختلف الاتّجاهات، فهذا أبو حنيفة الّذي كان يخالف الإمام عليه السلام في منهجه، روى وحدّث عنه عليه السلام، واتّصل به في المدينة مدّة من الزمن، وقد اشتهر قوله "لولا السنتان لهلك النعمان".
2- لم يقتصر علم الإمام عليه السلام على حقل واحد - كالفقه أو الكلام مثلاً ليكون سبباً لمخاطبة وجذب فئة محدودة من الناس - وإنّما تناولت جامعته العلميّّة مجموعة العلوم الدينيّّة وغير الدينيّّة, وتربّى فيها كبار العلماء في مختلف فروع المعرفة الإسلاميّة والبشريّة. والعلوم الّتي تناولتها جامعته عليه السلام بالبحث والتدريس هي علم الفلك والطبّ، والحيوان، والنبات، والكيمياء والفيزياء، فضلاً عن الفقه والأصول والكلام والفلسفة وعلم النفس والأخلاق.
3- تألّقت جامعة الإمام عليه السلام بمنهجها العلميّ السليم وعمقها الفكريّ واتجاهها العقائديّ التربويّ الإصلاحيّ، فقد خرّجت هذه الجامعة شخصيّّات كبرى ونماذج مُثلى بالعطاء السخيّ للأمّة، بحيث أصبح الانتماء إلى مدرسة الإمام عليه السلام وجامعته يعدّ من المفاخر، وقد جاوز عدد طلّابها أربعة آلاف طالب علم. واتّسعت فيما بعد لتُنشأ عدّة فروع لها في الكوفة والبصرة وقمّ ومصر.
4- لم يجعل الإمام عليه السلام من الجامعة والجهد المبذول فيها نشاطاً منفصلاً عن حركته وأنشطته الأخرى، بل كانت جزءاً لا ينفصل عن برنامجه التغييريّ بحيث ساهمت في خلق مناخ يمهّد لبناء الفرد الصالح ومن ثمّ المجتمع الصالح.
5- حقّقت مدرسة الإمام عليه السلام إنجازاً في خصوص تدوين الحديث والحفاظ على مضمونه، بعد أن كان قد تعرّض في وقت سابق للضياع والتحريف والتوظيف السياسيّ، بسبب المنع من تدوينه.
يقول عليه السلام: "إنّ عندنا ما لا نحتاج معه إلى الناس وإنّ الناس ليحتاجون إلينا، وإنّ عندنا كتاباً بإملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخطّ عليّ عليه السلام, صحيفة فيها كلّ حلال وحرام".
وجاء عنه عليه السلام أنّه قال: "علمنا غابر، ومزبور، ونكتٌ في القلوب ونقرٌ في الأسماع. وإنّ عندنا الجفر الأحمر، والجفر الأبيض، ومصحف فاطمة. وإنّ عندنا الجامعة فيها جميع ما يحتاج الناس إليه..."1.
وكان عليه السلام يأمر طلّابه ويؤكّد لهم ضرورة التدوين والكتابة كما نجد ذلك في قوله عليه السلام: "احتفظوا بكتبكم فإنّكم سوف تحتاجون إليها". وكان عليه السلام يشير إلى نشاط زرارة في مجال الحديث ويقول: "رحم الله زرارة، لولا زرارة لاندرست أحاديث أبي"2.
6- اعتنى الإمام عليه السلام بالتخصّص العلميّ في تلك المرحلة لأنّ للاختصاص دوراً كبيراً في تنمية الفكر الإسلاميّ وتطويره، وبالتخصّص تتميّز العطاءات، ويكون الإبداع وعمق الإنتاج، لذا وجّه الإمام عليه السلام التخصّص العلميّ، وتصدّى للإشراف على كلّ التخصّصات.
ففي الفلسفة وعلم الكلام ومباحث الإمامة تخصّص كلٌّ من: هشام بن الحكم وهشام بن سالم، ومؤمن الطاق وغيرهم، وفي الفقه وأصوله وتفسير القرآن الكريم تخصَّص كلٌّ من: زرارة بن أعين، ومحمّد بن مسلم، وجميل بن درّاج، وبريد بن معاوية، وإسحاق بن عمّار، وأبو بصير، وأبان بن تغلب والفضيل بن يسار، وأبو حنيفة ومالك بن أنس، وسفيان بن عُيينة، وسفيان الثوريّ. كما تخصَّص في الكيمياء جابر بن حيّان الكوفيّ، وفي حكمة الوجود المفضّل بن عمر الّذي أملى عليه الإمام الصادق عليه السلام كتابه المشهور المعروف بـ (توحيد المفضّل).
7- خطّط الإمام عليه السلام في مدرسته لتنشيط حركة الاجتهاد وتخريج
الفقهاء والمجتهدين، والاجتهاد المشروع هو: طريق الاستنباط الصحيح للحكم الشرعيّ كما رسمه أهل البيت عليهم السلام. وقد سأل رجلٌ أبا عبد الله الصادق عليه السلام عن مسألة فأجابه فيها، فقال الرجل: إن كان كذا وكذا ما كان القول فيها؟ فقال عليه السلام: "مهما أجبتك فيه بشيء فهو عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لسنا نقول برأينا من شيء"3.
و عليه فالاجتهاد في مذهب أهل البيت عليهم السلامهو اجتهاد في دائرة النصّ الشرعيّ. ومن هنا رسم الإمام عليه السلام منهج الاجتهاد في فهم النصّ وحارب اجتهاد الرأي المتمثّل في القياس والاستحسان كما حاربه القرآن وسائر الأئمّة عليهم السلام.
--------------------------------------
* بحوث في الحياة السياسية لأهل البيت عليهم السلام, سلسلة المعارف الإسلامية , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
1- المناقب، م.س: 396، وبحار الأنوار، م.س: 47/26.
2- وسائل الشيعة، م.س: 8/57 ـ 59.
3- بحار الأنوار، م.س: 2/172.
اللهم صل على محمد وال محمد وعجل فرجهم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
النشاط الفكري للامام الصادق (عليه السلام)
إذا راجعنا حوارات واحتجاجات الإمام الصادق عليه السلام في كتب الاحتجاج أو السيرة الخاصّة به، لاحظنا عدّة ظواهر ملفتة للنظر:
1- إنّ أكبر نسبة من الاحتجاجات هي مع رموز الملاحدة والزنادقة في عصره مثل الديصانيّ وابن أبي العوجاء.
2- يأتي الاحتجاج مع أصحاب الرأي والقياس في الدرجة الثانية من مجموعة الاحتجاجات المأثورة عنه.
3- تتنوّع أطراف الحوار مع الإمام عليه السلام إلى أنواع المعتقدات بدءاً من الإنكار لوجود الله تعالى وانتهاءً بالسلوكيّات المنحرفة وأصحاب الفهم الخاطئ لمسيرة الشريعة.
ويُمكن تقسيم مجموعة هذه الظواهر الّتي تكشف عن تنوّع الاتجاهات والتيّارات في عصره إلى ما يلي:
أ - التيّارات الّتي تنكر المبدأ والرسالة، ويُعدّ أصحابها خارجين عن دين الإسلام، وتتمثّل في تيّار الزندقة وتيّار الغلوّ وما شاكلها.
ب - التيّارات الّتي تُشكّل انحرافات داخل المسلمين، وهي تيّارات: الاعتزال والتفويض والإرجاء والتصوّف والرأي والقياس.
وتنقسم هذه التيّارات بدورها إلى تيّارات عقائديّة وأخرى فقهيّة.
4- ونلاحظ أيضاً أنّ الإمام عليه السلام في حواره مع الزنادقة والملحدين يُمثّل العالِم الحليم الهادئ المسيطر على كلّ نواحي المعرفة، ممّا أدّى إلى رجوع بعض الملحدين وإيمانهم بالله على يديه.
بينما نجده، في مواجهته لتيّار الغلوّ، ذلك القائد الهادر الّذي لا يقِرّ له قرار، وهو يكيل أنواع اللعن له ويتمنّى الإبادة التامّة للغلاة.
وقد حفلت كتب السيرة والتاريخ بالحوارات والروايات الّتي نقلت لنا تصدّي الإمام الصادق عليه السلام ومواجهته لهذه التيّارات كافّة.
بناء جامعة أهل البيت عليهم السلام
واصل الإمام الصادق عليه السلام تطويره للمدرسة الّتي أسّسها آباؤه الطاهرون عليهم السلام من قبله وانتقل بها إلى آفاق أرحب، فاستقطبت الجماهير من مختلف البلاد الإسلاميّة, لأنّها استطاعت أن تُلبّي رغباتهم، وحاولت ملء الفراغ الّذي كانت تُعانيه الأمّة آنذاك.
مميّزات جامعة الإمام الصادق عليه السلام
1- تتميّز مدرسة الإمام الصادق عليه السلام عن غيرها في أنّها لم تنغلق في المعرفة على خصوص العناصر الموالية فحسب، وإنّما انفتحت لتضمّ طلّاب المعرفة والعلم من مختلف الاتّجاهات، فهذا أبو حنيفة الّذي كان يخالف الإمام عليه السلام في منهجه، روى وحدّث عنه عليه السلام، واتّصل به في المدينة مدّة من الزمن، وقد اشتهر قوله "لولا السنتان لهلك النعمان".
2- لم يقتصر علم الإمام عليه السلام على حقل واحد - كالفقه أو الكلام مثلاً ليكون سبباً لمخاطبة وجذب فئة محدودة من الناس - وإنّما تناولت جامعته العلميّّة مجموعة العلوم الدينيّّة وغير الدينيّّة, وتربّى فيها كبار العلماء في مختلف فروع المعرفة الإسلاميّة والبشريّة. والعلوم الّتي تناولتها جامعته عليه السلام بالبحث والتدريس هي علم الفلك والطبّ، والحيوان، والنبات، والكيمياء والفيزياء، فضلاً عن الفقه والأصول والكلام والفلسفة وعلم النفس والأخلاق.
3- تألّقت جامعة الإمام عليه السلام بمنهجها العلميّ السليم وعمقها الفكريّ واتجاهها العقائديّ التربويّ الإصلاحيّ، فقد خرّجت هذه الجامعة شخصيّّات كبرى ونماذج مُثلى بالعطاء السخيّ للأمّة، بحيث أصبح الانتماء إلى مدرسة الإمام عليه السلام وجامعته يعدّ من المفاخر، وقد جاوز عدد طلّابها أربعة آلاف طالب علم. واتّسعت فيما بعد لتُنشأ عدّة فروع لها في الكوفة والبصرة وقمّ ومصر.
4- لم يجعل الإمام عليه السلام من الجامعة والجهد المبذول فيها نشاطاً منفصلاً عن حركته وأنشطته الأخرى، بل كانت جزءاً لا ينفصل عن برنامجه التغييريّ بحيث ساهمت في خلق مناخ يمهّد لبناء الفرد الصالح ومن ثمّ المجتمع الصالح.
5- حقّقت مدرسة الإمام عليه السلام إنجازاً في خصوص تدوين الحديث والحفاظ على مضمونه، بعد أن كان قد تعرّض في وقت سابق للضياع والتحريف والتوظيف السياسيّ، بسبب المنع من تدوينه.
يقول عليه السلام: "إنّ عندنا ما لا نحتاج معه إلى الناس وإنّ الناس ليحتاجون إلينا، وإنّ عندنا كتاباً بإملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخطّ عليّ عليه السلام, صحيفة فيها كلّ حلال وحرام".
وجاء عنه عليه السلام أنّه قال: "علمنا غابر، ومزبور، ونكتٌ في القلوب ونقرٌ في الأسماع. وإنّ عندنا الجفر الأحمر، والجفر الأبيض، ومصحف فاطمة. وإنّ عندنا الجامعة فيها جميع ما يحتاج الناس إليه..."1.
وكان عليه السلام يأمر طلّابه ويؤكّد لهم ضرورة التدوين والكتابة كما نجد ذلك في قوله عليه السلام: "احتفظوا بكتبكم فإنّكم سوف تحتاجون إليها". وكان عليه السلام يشير إلى نشاط زرارة في مجال الحديث ويقول: "رحم الله زرارة، لولا زرارة لاندرست أحاديث أبي"2.
6- اعتنى الإمام عليه السلام بالتخصّص العلميّ في تلك المرحلة لأنّ للاختصاص دوراً كبيراً في تنمية الفكر الإسلاميّ وتطويره، وبالتخصّص تتميّز العطاءات، ويكون الإبداع وعمق الإنتاج، لذا وجّه الإمام عليه السلام التخصّص العلميّ، وتصدّى للإشراف على كلّ التخصّصات.
ففي الفلسفة وعلم الكلام ومباحث الإمامة تخصّص كلٌّ من: هشام بن الحكم وهشام بن سالم، ومؤمن الطاق وغيرهم، وفي الفقه وأصوله وتفسير القرآن الكريم تخصَّص كلٌّ من: زرارة بن أعين، ومحمّد بن مسلم، وجميل بن درّاج، وبريد بن معاوية، وإسحاق بن عمّار، وأبو بصير، وأبان بن تغلب والفضيل بن يسار، وأبو حنيفة ومالك بن أنس، وسفيان بن عُيينة، وسفيان الثوريّ. كما تخصَّص في الكيمياء جابر بن حيّان الكوفيّ، وفي حكمة الوجود المفضّل بن عمر الّذي أملى عليه الإمام الصادق عليه السلام كتابه المشهور المعروف بـ (توحيد المفضّل).
7- خطّط الإمام عليه السلام في مدرسته لتنشيط حركة الاجتهاد وتخريج
الفقهاء والمجتهدين، والاجتهاد المشروع هو: طريق الاستنباط الصحيح للحكم الشرعيّ كما رسمه أهل البيت عليهم السلام. وقد سأل رجلٌ أبا عبد الله الصادق عليه السلام عن مسألة فأجابه فيها، فقال الرجل: إن كان كذا وكذا ما كان القول فيها؟ فقال عليه السلام: "مهما أجبتك فيه بشيء فهو عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لسنا نقول برأينا من شيء"3.
و عليه فالاجتهاد في مذهب أهل البيت عليهم السلامهو اجتهاد في دائرة النصّ الشرعيّ. ومن هنا رسم الإمام عليه السلام منهج الاجتهاد في فهم النصّ وحارب اجتهاد الرأي المتمثّل في القياس والاستحسان كما حاربه القرآن وسائر الأئمّة عليهم السلام.
--------------------------------------
* بحوث في الحياة السياسية لأهل البيت عليهم السلام, سلسلة المعارف الإسلامية , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
1- المناقب، م.س: 396، وبحار الأنوار، م.س: 47/26.
2- وسائل الشيعة، م.س: 8/57 ـ 59.
3- بحار الأنوار، م.س: 2/172.
تعليق