بسم الله الرحمن الرحيم
لله سبحانه صفات كثيرة وقد ذكر في دعاء الجوشن الكبير ألف اسم وصفة من أسماء وصفات الله سبحانه وتعالى. فلماذا تمّ في هذا الشعار القرآني (البسملة) اختيار هاتين الصفتين بالذات؟ ثُمَّ إنّ (الرحمة) من (صفات الفعل) ولا شكّ أن (صفات الذات) أشرف من صفات الفعل. فلماذا تمّ انتخاب...
يذهب بعض المفسّرين إلى أنَّ (الرحمن) هو ذو الرحمة الشاملة، فتعمُّ المؤمنين والكافرين، والمحسنين والمسيئين، وكلّ موجود في هذه الحياة الدنيا. بينما (الرحيم) هو: ذو الرحمة الدائمة. وذلك ما يختصُّ بالمؤمنين وحدهم.
ومن هنا قسّموا الرحمة إلى (رحمة رحمانية) تعمُّ الجميع و(رحمة رحيمية) تختصُّ بالمؤمنين فقط.
ويستدلّون على ذلك:
أوّلاً: إنّ كلمة (رحمن) على وزن (فعلان) وهذه الصيغة تدلُّ على الكثرة والمبالغة(1).
بينما كلمة (رحيم) على وزن (فعيل) وهي صفة مشبهة، فتدلُّ على الثبات والدوام(2).
ثانياً: ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام)، حيث قال: (الرحمن بجميع خلقه، الرحيم بالمؤمنين خاصّة)(3).
وروي عنه ـ أيضاً ـ أنه قال: (الرحمن اسم خاص لصفة عامّة، والرحيم اسم عامّ لصفة خاصّة)(4).
وقد فُسّر ذلك بأنّ {الرَّحْمَانِ} اسم مختصٌّ بالله سبحانه، فلا يطلق على غيره، لكنّه يعبّر عن صفة عامّة وهي الرحمة الشاملة التي وسعت كلّ شيء.
و {الرَّحِيمُ} اسم عامٌّ لأنّه يطلق على غير الله تعالى ـ أيضاً ـ لكنّه يعبّر عن صفة خاصّة وهي الرحمة الثابتة الخاصّة بالمؤمنين فقط.
وعن النبي (صلى الله عليه وآله) أن عيسى بن مريم (عليه السلام)، قال: «رحمان رحمن الدنيا، والرحيم رحيم الآخرة»(5).
ولعلّنا نجد في بعض الآيات تلميحاً إلى هذه الحقيقة.
فقد قال سبحانه: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}(6).
وقال سبحانه: {إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}(7).
وقال تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلاَلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَانُ مَدًّا}(8).
وقال تعالى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}(9).
الرحمة الخاصّة والرحمة العامّة
وسواء تمّ هذا الفرق أو لم يتمّ من الناحيتين: اللُّغوية والاصطلاحية، فالذي يهمُّنا أنّ الرحمة الإلهية على نوعين:
النوع الأوّل: رحمة عامّة، تشمل كلَّ الموجودات بلا استثناء، من الجماد والنبات والحيوان والإنسان، والمؤمن والكافر والمنافق والصالح والطالح.
فلولا هذه الرحمة لم يفض الوجود على هذه الماهيّات (الحقائق)، ولم تنتقل من ظلمات (العدم) إلى نور (الوجود)، ولم يتعهدها الله سبحانه بالإمداد المستمر والعناية الدائمة.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة حيث قال: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}(10).
وقال أيضاً: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً}(11).
وقال: {فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ}(12).
وقال: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ}(13).
ونجد في الأحاديث الشريفة عيّنات تكشف عن جوانب من هذه الرحمة.
فقد روي عن الإمام العسكري (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إنّ إبراهيم (عليه السلام) لمّا رُفع في الملكوت، وذلك قول ربي: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} قوّى الله بصره لمّا رفعه دون السماء، حتّى أبصر الأرض ومن عليها ظاهرين متسترّين، فرأى رجلاً وامرأة على فاحشة، فدعا الله عليهما بالهلاك فهلكا! ثمّ رأى آخرين فدعا عليهم بالهلاك، فهلكا! ثمّ رأى آخرين فدعا عليهما بالهلاك، فهلكا!
ثمّ رأى آخرين فَهَمَّ بالدعاء عليهما بالهلاك، فأوحى الله إليه: يا إبراهيم اكفف دعوتك عن عبادي وإمائي، فإنّي أنا الغفور الرحيم الجبّار العليم، لا تضرّني ذنوب عبادي، كما لا تنفعني طاعتهم، ولست أسوسهم بشفاء الغيظ كسياستك، فاكفف دعوتك عن عبادي، فإنّما أنت عبد نذير، لا شريك في المملكة ولا مهيمن عليَّ ولا على عبادي، وعبادي معي بين خلال ثلاث: إمّا تابوا إليَّ فتبتُ عليهم وغفرتُ ذنوبهم وسترتُ عيوبهم.
وإمّا كففت عنهم عذابي لعلمي بأنه سيخرج من أصلابهم ذريّات مؤمنون، فأرفق بالآباء الكافرين، وأتأنّى بالأُمهّات الكافرات، وأرفع عنهم عذابي ليخرج أُولئك المؤمنون من أصلابهم، فإذا تزايلوا حقّ بهم عذابي وحاق بهم بلائي. وإن لم يكن هذا ولا هذا فإن الذي أعددته لهم من عذابي أعظم ممّا تريدهم به»(14).
ونقل أيضاً ـ ما مضمونه ـ أن ضيفاً جاء إلى إبراهيم (عليه السلام) فلمّا مدّت المائدة لم يقل الرجل: (بسم الله).
فسأله إبراهيم (عليه السلام) عن ذلك؟
فقال الرجل: إنّني لا أُؤمن أصلاً بوجود الله!
فلم يرضَ إبراهيم (عليه السلام) أن يؤاكل الرجل، فقام الرجل وخرج.
فأوحى الله إليه: يا إبراهيم، إنّني لم أقطع رزقي ورحمتي عن هذا الرجل منذ أن خلقته، ولم يمنعني كفره عن ذلك، أفلم تستطع أن تضيفه يوماً واحداً؟
فقام إبراهيم (عليه السلام)، وذهب خلف الرجل، ليرجعه. فسأله الرجل عن السبب؟
فذكر له إبراهيم (عليه السلام) ما أوحى به الله سبحانه إليه.
وكانت لحظات عاد فيها الرجل إلى وجدانه، ليسلم على يدي إبراهيم (عليه السلام) لله ربّ العالمين.
ومن هنا نقرأ في الدعاء: «يا من يعطي من سأله، يا من يُعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه تحنُّناً منه ورحمة»(15).
وأمّا النوع الثاني: فهي الرحمة الخاصّة، وهي ـ كما سبق ـ تختصُّ بالمؤمنين فقط.
مقوّمات الرحمة الخاصّة
لكي تتحقّق ظاهرة مّا، لا بدّ من وجود مقوِّمين:
1 ـ تماميّة فاعلية الفاعل: إذ الفاعل (معطي الوجود، أو معطي الحركة) لو لم يكن تامّ الفاعلية، فلا يستطيع أن يحقّق المطلوب. فالمشلول مثلاً لا يستطيع أن يصنع سريراً، أو ينحت تمثالاً ـ مثالاً ـ .
2 ـ تمامية قابلية القابل: فربّما يكون الفاعل تامَّ الفاعليّة، إلا أنّ القابل غير مؤهّل لتلقّي الفيض من (الفاعل).
فالرياضي القدير ربّما لا يستطيع أن يُفهِمَ الرجل البدويَّ الجاهل معادلات الجبر والمقابلة لا لقلّة بضاعته العلمية، وإنّما لضعف استعداد البدوي.
ومن هنا قال الشاعر:
والنجم تَسْتَصْغر الأبْصارُ رؤيته
والذَّنْبُ للعينِ لا للنجمِ في الصِغَرِ
والله سبحانه تام الفاعليّة؛ إذ لا عجز ولا بخلَ ولا شحّ في ساحة لطفه ورحمته.
ولهذا فإنّ قدر الرحمة المفاضة يرتهن بقابلية القابل، فكّلما زدنا من القابلية في ذواتنا زادت الرحمة الإلهية المفاضة علينا.
وقد قال سبحانه: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا}(16).
وفي آية أخرى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}(17).
وفي آية ثالثة: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}(18).
وقال سبحانه: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ}(19).
ومن هنا نجد: أنّ رحمة الله لمحمّد (صلى الله عليه وآله) ولآله ـ عليهم أفضل الصلاة والسلام ـ أكثر ممَّن عداهم.
وقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ}..
قال (عليه السلام): «المختصّ بالرحمة نبيُّ الله ووصيُّه صلوات الله عليهما وآلهما، إن الله خلق مئةَ رحمة، تسعة وتسعون رحمة عنده مذخورة لمحمَّد وعليّ وعترتهما (عليهم السلام)، ورحمة واحدة مبسوطة على سائر الموجودين»(20).
وقد ذكرت في الأحاديث الشريفة أُمور توجب الرحمة الإلهية الخاصّة، نذكر منها:
1 ـ عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «بذكر الله تستنزل الرحمة»(21).
2 ـ وعنه (عليه السلام): «ببذل الرحمة تستنزل الرحمة»(22).
3 ـ وعنه (عليه السلام): «أبلغ ما تستدرُّ به الرحمة، أن تضمر لجميع الناس الرحمة»(23).
4 ـ وعن النبي (صلى الله عليه وآله): «تعرضوا لرحمة الله بما أمركم به من طاعته»(24). إلى غيرها من الأحاديث الكريمة.
لماذا هاتان الصفتان؟
لله سبحانه صفات كثيرة وقد ذكر في دعاء الجوشن الكبير(25) ألف اسم وصفة من أسماء وصفات الله سبحانه وتعالى. فلماذا تمّ في هذا الشعار القرآني (البسملة) اختيار هاتين الصفتين بالذات؟.
ثُمَّ إنّ (الرحمة) من (صفات الفعل)(26).
ولا شكّ أن (صفات الذات) أشرف من صفات الفعل.
فلماذا تمّ انتخاب صفة من صفات الفعل دون صفة من صفات الذات ـ كالعلم مثلاً ـ؟
ويمكن الإجابة على هذا السؤال:
أوّلاً: إنّ الرحمة الإلهية ذات صلة مباشرة بحياة الإنسان، بل بوجود الكون كلِّه ـ فلولا الرحمة لم يكن الإنسان موجوداً، ولا كانت كمالاته الوجوديّة متحقّقة، فلم يكن هنالك علم ولا قدرة ولا نحوهما.
وارتهان الإنسان بكلّ وجوده بالرحمة الإلهية لا يقتصر على (الحدوث) فقط، بل يشمل (الحدوث) و(البقاء) معاً. فكلُّ فكرة تختلج في ذهنك، وكلّ نَفَسٍ تتنفّسه، وكلّ نبضة قلب و..، تتوقّف على إمدادٍ مباشر من الله سبحانه، ولو انقطع الفيض الإلهي لحظة لتوقّف كلُّ شيء، بل انتهى كل شيء.
وبعبارة أُخرى: ليست العلاقة بين الله سبحانه وبين مخلوقاته كالعلاقة بين البناء والبنّاء، حيث إنّ البيت الذي يشيّده البنّاء يتوقّف عليه في الإيجاد فقط. أمّا في البقاء فلا، وقد يموت البنّاء ويتحوّل في رمسه إلى رفات بينما يظلّ البيت الذي شيّده قائماً على أركانه، فالبنّاء (علّة مُحدِثة) فقط ـ وليس (علّة مبقية) أبداً (هذا مع الغض عن تطرّق احتمال كونه «معدّاً» فحسب).
بل العلاقة بينه ـ سبحانه ـ وبين مخلوقاته كالعلاقة بين المولّد الكهربائي وبين الضوء، حيث إنّه بمجرّد أن تنقطع علاقة المصباح بالمولِّد ينتهي الضوء.
أو كالعلاقة بين الإنسان و(صوره الذهنّية) حيث إنّك عندما تصرف النظر عن الصورة التي خلقتها في ذهنك فإنّها تنعدم فوراً، ولا يبقى منها عين ولا أثر، فبقاؤها في ذهنك يتوقّف على توجُّهك بشكل مستمرّ نحوها(27).
ونجد في القرآن الكريم إشارات إلى هذه الحقيقة.
يقول الله سبحانه: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}(28).
ويقول تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}(29).
ويقول جلّ وعلا: {مَا مِنْ دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا}(30).
وقد بُرهن على هذه الحقيقة في (علم الكلام) والفلسفة الإسلاميّة.
ثانياً: لولا الرحمة الإلهية لم تكن السماء تمنّ على الأُمة ببعث الرسل، ولولاها لم يكن هذا القرآن.
{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}(31).
فكما أنّ الرحمة الإلهية ذات صلة مباشرة بكتاب الله التكوينّي ـ أي الكون بما فيه من إنسان وحيوان ونبات وغيرها ـ كذلك هي ذات صلة مباشرة بكتاب الله التدويني ـ أي القرآن الكريم ـ .
فلم يكن إنزال القرآن الكريم وتشريع القوانين، منبعثاً عن حاجة الله ـ سبحانه وتعالى ـ فهو الغنيُّ المطلق، لا تنفعه عبادة من عبده، ولا تضرّه معصية من عصاه، وإنّما هي الرحمة الإلهية وراء ذلك كلّه.
فكان من الحريّ أن تبدأ كلُّ سورة في هذا الكتاب بصفة (الرحمة).
ثالثاً: اتّسم الحكّام ـ غالباً على مرِّ التاريخ ـ بالقسوة والظلم والجبروت والطغيان، فـ {كَلاَّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى *أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}(32).
ليس فقط في دائرة (المجتمع الكبير) ـ أي الدولة ـ بل حتى في إطار (المجتمع الصغير) ـ أي العائلة ونحوها ـ فكلُّ شخص ملك أزِمَّة الأُمور في إطار ـ ولو صغير ـ يتعدّى ويظلم ولا يراعي موازين العدل والإنصاف ـ غالباً ـ.والتركيز على صفة (الرحمة) في هذا الشعار القرآني إلفات إلى أنّ الله سبحانه ـ رغم كون كلّ شيء بيده ـ ليس كسائر الملوك والحكَّام، بل هو منبع اللُّطف والرحمة، ومعدن الكرم والجود.
وفي ذلك أيضاً ردّ على تلك التصوُّرات البشريّة الخاطئة التي تناولت طبيعة العلاقة بين الربّ والمربوبين.
فالله سبحانه من منظار الإسلام: لا يطارد عباده مطاردة الخصوم والأعداء كآلهة الأولمب في نزواتها وثوراتها كما تُصوّرُها أساطير الإغريق، ولا يدبّر لهم المكائد الانتقامية كما تزعم الأساطير المزوّرة في (العهد القديم) كالذي جاء في أُسطورة برج بابل في الإصحاح الحادي عشر من سفر التكوين: [حيث يقول]: «وكانت الأرض كلُّها لغة واحدة وكلاماً واحداً، وكان أنّهم لمّا رحلوا من المشرق وجدوا بقعة في أرض شعار فأقاموا هناك، وقال بعضهم لبعض: تعالوا نصنع لبناً وننضجه طَبْخاً، فكان لهم اللّبن بدل الحجارة، والخمر كان لهم بدل الطين، وقالوا: تعالوا نبنِ لنا مدينة وبرجاً رأسه إلى السماء، ونُقِم لنا اسماً كي لا نتبدّد على وجه الأرض كلّها. فنزل الربّ لينظر المدينة والبرج اللَّذين كان بنو آدم يبنونها.
وقال الرب: هُوذا، هم شعب واحد لجميعهم لغة واحدة، وهذا ما أخذوا يفعلونه، والآن لا يكفّون عمّا همُّوا به حتّى يصنعوه، هلّم نهبط ونبلبل هناك لغتهم حتى لا يفهم بعضهم لغة بعض! فبدَّدهم الربُّ من هناك على وجه الأرض كلّها، وكفّوا عن بناء المدينة، ولذلك سميّت (بابل) لأن الربّ هناك بلبل لغة الأرض كلِّها، ومن هناك شتتّهم الربُّ على كلّ وجهها»!(33).
* مقتطف من كتاب: (التدبر في القرآن) لمؤلفه آية الله السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي
.............................................
(1) وذلك نحو (غضبان) الذي يقال لمن امتلأ غضباً.
(2) مثل (كريم) ونحوه.
(3) بحار الأنوار 89: 229. وروي نظيره في نور الثقلين 1: 12؛ البرهان 1: 45.
(4) مواهب الرحمن 1: 23؛ مجمع البيان 1: 21؛ نور الثقلين 1: 14.
(5) التبيان 1: 29.
(6) الأحزاب: 43.
(7) التوبة: 117.
(8) مريم: 75.
(9) طه: 5.
(10) الأعراف: 156.
(11) غافر: 7.
(12) الأنعام: 147.
(13) لقمان: 27.
(14) بحار الأنوار 12: 60؛ النور المبين: 131.
(15) مفاتيح الجنان، الدعاء الثامن من الأدعية العامة لشهر رجب.
(16) الرعد: 17.
(17) الأعراف: 56.
(18) محمد: 17.
(19) النساء: 175.
(20) سفينة البحار 1: 517.
(21) غرر الحکم: 188.
(22) غرر الحکم: 305.
(23) غرر الحکم: 216.
(24) تنبيه الخواطر: 360.
(25) راجع: مفاتيح الجنان للمحدث القمي.
(26) صفات الفعل هي تلك الصفات التي تنتزع من مقام الفعل، ولذا يصحّ إثباتها للذات تارة، وسلبها عن الذات تارة أُخرى، كالخالقية والرازقية ونحوهما، حيث نستطيع أن نقول مثلاً: كان الله ولم يكن معه شيء ثم (خلق) الأشياء، أمّا صفات الذات فهي تنتزع من مقام الذات ولا يصحُّ سلبها من الذات مطلقاً، كالعلم والقدرة ونحوهما.
(27) سقنا هذين المثالين لمجرّد تقريب الذهن.
(28) البقرة: 254.
(29) الرعد: 33.
(30) هود: 56.
(31) آل عمران: 164.
(32) العلق: 7.
(33) في ظلال القرآن: 24.
ومن هنا قسّموا الرحمة إلى (رحمة رحمانية) تعمُّ الجميع و(رحمة رحيمية) تختصُّ بالمؤمنين فقط.
ويستدلّون على ذلك:
أوّلاً: إنّ كلمة (رحمن) على وزن (فعلان) وهذه الصيغة تدلُّ على الكثرة والمبالغة(1).
بينما كلمة (رحيم) على وزن (فعيل) وهي صفة مشبهة، فتدلُّ على الثبات والدوام(2).
ثانياً: ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام)، حيث قال: (الرحمن بجميع خلقه، الرحيم بالمؤمنين خاصّة)(3).
وروي عنه ـ أيضاً ـ أنه قال: (الرحمن اسم خاص لصفة عامّة، والرحيم اسم عامّ لصفة خاصّة)(4).
وقد فُسّر ذلك بأنّ {الرَّحْمَانِ} اسم مختصٌّ بالله سبحانه، فلا يطلق على غيره، لكنّه يعبّر عن صفة عامّة وهي الرحمة الشاملة التي وسعت كلّ شيء.
و {الرَّحِيمُ} اسم عامٌّ لأنّه يطلق على غير الله تعالى ـ أيضاً ـ لكنّه يعبّر عن صفة خاصّة وهي الرحمة الثابتة الخاصّة بالمؤمنين فقط.
وعن النبي (صلى الله عليه وآله) أن عيسى بن مريم (عليه السلام)، قال: «رحمان رحمن الدنيا، والرحيم رحيم الآخرة»(5).
ولعلّنا نجد في بعض الآيات تلميحاً إلى هذه الحقيقة.
فقد قال سبحانه: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}(6).
وقال سبحانه: {إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}(7).
وقال تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلاَلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَانُ مَدًّا}(8).
وقال تعالى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}(9).
الرحمة الخاصّة والرحمة العامّة
وسواء تمّ هذا الفرق أو لم يتمّ من الناحيتين: اللُّغوية والاصطلاحية، فالذي يهمُّنا أنّ الرحمة الإلهية على نوعين:
النوع الأوّل: رحمة عامّة، تشمل كلَّ الموجودات بلا استثناء، من الجماد والنبات والحيوان والإنسان، والمؤمن والكافر والمنافق والصالح والطالح.
فلولا هذه الرحمة لم يفض الوجود على هذه الماهيّات (الحقائق)، ولم تنتقل من ظلمات (العدم) إلى نور (الوجود)، ولم يتعهدها الله سبحانه بالإمداد المستمر والعناية الدائمة.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة حيث قال: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}(10).
وقال أيضاً: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً}(11).
وقال: {فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ}(12).
وقال: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ}(13).
ونجد في الأحاديث الشريفة عيّنات تكشف عن جوانب من هذه الرحمة.
فقد روي عن الإمام العسكري (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إنّ إبراهيم (عليه السلام) لمّا رُفع في الملكوت، وذلك قول ربي: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} قوّى الله بصره لمّا رفعه دون السماء، حتّى أبصر الأرض ومن عليها ظاهرين متسترّين، فرأى رجلاً وامرأة على فاحشة، فدعا الله عليهما بالهلاك فهلكا! ثمّ رأى آخرين فدعا عليهم بالهلاك، فهلكا! ثمّ رأى آخرين فدعا عليهما بالهلاك، فهلكا!
ثمّ رأى آخرين فَهَمَّ بالدعاء عليهما بالهلاك، فأوحى الله إليه: يا إبراهيم اكفف دعوتك عن عبادي وإمائي، فإنّي أنا الغفور الرحيم الجبّار العليم، لا تضرّني ذنوب عبادي، كما لا تنفعني طاعتهم، ولست أسوسهم بشفاء الغيظ كسياستك، فاكفف دعوتك عن عبادي، فإنّما أنت عبد نذير، لا شريك في المملكة ولا مهيمن عليَّ ولا على عبادي، وعبادي معي بين خلال ثلاث: إمّا تابوا إليَّ فتبتُ عليهم وغفرتُ ذنوبهم وسترتُ عيوبهم.
وإمّا كففت عنهم عذابي لعلمي بأنه سيخرج من أصلابهم ذريّات مؤمنون، فأرفق بالآباء الكافرين، وأتأنّى بالأُمهّات الكافرات، وأرفع عنهم عذابي ليخرج أُولئك المؤمنون من أصلابهم، فإذا تزايلوا حقّ بهم عذابي وحاق بهم بلائي. وإن لم يكن هذا ولا هذا فإن الذي أعددته لهم من عذابي أعظم ممّا تريدهم به»(14).
ونقل أيضاً ـ ما مضمونه ـ أن ضيفاً جاء إلى إبراهيم (عليه السلام) فلمّا مدّت المائدة لم يقل الرجل: (بسم الله).
فسأله إبراهيم (عليه السلام) عن ذلك؟
فقال الرجل: إنّني لا أُؤمن أصلاً بوجود الله!
فلم يرضَ إبراهيم (عليه السلام) أن يؤاكل الرجل، فقام الرجل وخرج.
فأوحى الله إليه: يا إبراهيم، إنّني لم أقطع رزقي ورحمتي عن هذا الرجل منذ أن خلقته، ولم يمنعني كفره عن ذلك، أفلم تستطع أن تضيفه يوماً واحداً؟
فقام إبراهيم (عليه السلام)، وذهب خلف الرجل، ليرجعه. فسأله الرجل عن السبب؟
فذكر له إبراهيم (عليه السلام) ما أوحى به الله سبحانه إليه.
وكانت لحظات عاد فيها الرجل إلى وجدانه، ليسلم على يدي إبراهيم (عليه السلام) لله ربّ العالمين.
ومن هنا نقرأ في الدعاء: «يا من يعطي من سأله، يا من يُعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه تحنُّناً منه ورحمة»(15).
وأمّا النوع الثاني: فهي الرحمة الخاصّة، وهي ـ كما سبق ـ تختصُّ بالمؤمنين فقط.
مقوّمات الرحمة الخاصّة
لكي تتحقّق ظاهرة مّا، لا بدّ من وجود مقوِّمين:
1 ـ تماميّة فاعلية الفاعل: إذ الفاعل (معطي الوجود، أو معطي الحركة) لو لم يكن تامّ الفاعلية، فلا يستطيع أن يحقّق المطلوب. فالمشلول مثلاً لا يستطيع أن يصنع سريراً، أو ينحت تمثالاً ـ مثالاً ـ .
2 ـ تمامية قابلية القابل: فربّما يكون الفاعل تامَّ الفاعليّة، إلا أنّ القابل غير مؤهّل لتلقّي الفيض من (الفاعل).
فالرياضي القدير ربّما لا يستطيع أن يُفهِمَ الرجل البدويَّ الجاهل معادلات الجبر والمقابلة لا لقلّة بضاعته العلمية، وإنّما لضعف استعداد البدوي.
ومن هنا قال الشاعر:
والنجم تَسْتَصْغر الأبْصارُ رؤيته
والذَّنْبُ للعينِ لا للنجمِ في الصِغَرِ
والله سبحانه تام الفاعليّة؛ إذ لا عجز ولا بخلَ ولا شحّ في ساحة لطفه ورحمته.
ولهذا فإنّ قدر الرحمة المفاضة يرتهن بقابلية القابل، فكّلما زدنا من القابلية في ذواتنا زادت الرحمة الإلهية المفاضة علينا.
وقد قال سبحانه: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا}(16).
وفي آية أخرى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}(17).
وفي آية ثالثة: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}(18).
وقال سبحانه: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ}(19).
ومن هنا نجد: أنّ رحمة الله لمحمّد (صلى الله عليه وآله) ولآله ـ عليهم أفضل الصلاة والسلام ـ أكثر ممَّن عداهم.
وقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ}..
قال (عليه السلام): «المختصّ بالرحمة نبيُّ الله ووصيُّه صلوات الله عليهما وآلهما، إن الله خلق مئةَ رحمة، تسعة وتسعون رحمة عنده مذخورة لمحمَّد وعليّ وعترتهما (عليهم السلام)، ورحمة واحدة مبسوطة على سائر الموجودين»(20).
وقد ذكرت في الأحاديث الشريفة أُمور توجب الرحمة الإلهية الخاصّة، نذكر منها:
1 ـ عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «بذكر الله تستنزل الرحمة»(21).
2 ـ وعنه (عليه السلام): «ببذل الرحمة تستنزل الرحمة»(22).
3 ـ وعنه (عليه السلام): «أبلغ ما تستدرُّ به الرحمة، أن تضمر لجميع الناس الرحمة»(23).
4 ـ وعن النبي (صلى الله عليه وآله): «تعرضوا لرحمة الله بما أمركم به من طاعته»(24). إلى غيرها من الأحاديث الكريمة.
لماذا هاتان الصفتان؟
لله سبحانه صفات كثيرة وقد ذكر في دعاء الجوشن الكبير(25) ألف اسم وصفة من أسماء وصفات الله سبحانه وتعالى. فلماذا تمّ في هذا الشعار القرآني (البسملة) اختيار هاتين الصفتين بالذات؟.
ثُمَّ إنّ (الرحمة) من (صفات الفعل)(26).
ولا شكّ أن (صفات الذات) أشرف من صفات الفعل.
فلماذا تمّ انتخاب صفة من صفات الفعل دون صفة من صفات الذات ـ كالعلم مثلاً ـ؟
ويمكن الإجابة على هذا السؤال:
أوّلاً: إنّ الرحمة الإلهية ذات صلة مباشرة بحياة الإنسان، بل بوجود الكون كلِّه ـ فلولا الرحمة لم يكن الإنسان موجوداً، ولا كانت كمالاته الوجوديّة متحقّقة، فلم يكن هنالك علم ولا قدرة ولا نحوهما.
وارتهان الإنسان بكلّ وجوده بالرحمة الإلهية لا يقتصر على (الحدوث) فقط، بل يشمل (الحدوث) و(البقاء) معاً. فكلُّ فكرة تختلج في ذهنك، وكلّ نَفَسٍ تتنفّسه، وكلّ نبضة قلب و..، تتوقّف على إمدادٍ مباشر من الله سبحانه، ولو انقطع الفيض الإلهي لحظة لتوقّف كلُّ شيء، بل انتهى كل شيء.
وبعبارة أُخرى: ليست العلاقة بين الله سبحانه وبين مخلوقاته كالعلاقة بين البناء والبنّاء، حيث إنّ البيت الذي يشيّده البنّاء يتوقّف عليه في الإيجاد فقط. أمّا في البقاء فلا، وقد يموت البنّاء ويتحوّل في رمسه إلى رفات بينما يظلّ البيت الذي شيّده قائماً على أركانه، فالبنّاء (علّة مُحدِثة) فقط ـ وليس (علّة مبقية) أبداً (هذا مع الغض عن تطرّق احتمال كونه «معدّاً» فحسب).
بل العلاقة بينه ـ سبحانه ـ وبين مخلوقاته كالعلاقة بين المولّد الكهربائي وبين الضوء، حيث إنّه بمجرّد أن تنقطع علاقة المصباح بالمولِّد ينتهي الضوء.
أو كالعلاقة بين الإنسان و(صوره الذهنّية) حيث إنّك عندما تصرف النظر عن الصورة التي خلقتها في ذهنك فإنّها تنعدم فوراً، ولا يبقى منها عين ولا أثر، فبقاؤها في ذهنك يتوقّف على توجُّهك بشكل مستمرّ نحوها(27).
ونجد في القرآن الكريم إشارات إلى هذه الحقيقة.
يقول الله سبحانه: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}(28).
ويقول تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}(29).
ويقول جلّ وعلا: {مَا مِنْ دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا}(30).
وقد بُرهن على هذه الحقيقة في (علم الكلام) والفلسفة الإسلاميّة.
ثانياً: لولا الرحمة الإلهية لم تكن السماء تمنّ على الأُمة ببعث الرسل، ولولاها لم يكن هذا القرآن.
{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}(31).
فكما أنّ الرحمة الإلهية ذات صلة مباشرة بكتاب الله التكوينّي ـ أي الكون بما فيه من إنسان وحيوان ونبات وغيرها ـ كذلك هي ذات صلة مباشرة بكتاب الله التدويني ـ أي القرآن الكريم ـ .
فلم يكن إنزال القرآن الكريم وتشريع القوانين، منبعثاً عن حاجة الله ـ سبحانه وتعالى ـ فهو الغنيُّ المطلق، لا تنفعه عبادة من عبده، ولا تضرّه معصية من عصاه، وإنّما هي الرحمة الإلهية وراء ذلك كلّه.
فكان من الحريّ أن تبدأ كلُّ سورة في هذا الكتاب بصفة (الرحمة).
ثالثاً: اتّسم الحكّام ـ غالباً على مرِّ التاريخ ـ بالقسوة والظلم والجبروت والطغيان، فـ {كَلاَّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى *أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}(32).
ليس فقط في دائرة (المجتمع الكبير) ـ أي الدولة ـ بل حتى في إطار (المجتمع الصغير) ـ أي العائلة ونحوها ـ فكلُّ شخص ملك أزِمَّة الأُمور في إطار ـ ولو صغير ـ يتعدّى ويظلم ولا يراعي موازين العدل والإنصاف ـ غالباً ـ.والتركيز على صفة (الرحمة) في هذا الشعار القرآني إلفات إلى أنّ الله سبحانه ـ رغم كون كلّ شيء بيده ـ ليس كسائر الملوك والحكَّام، بل هو منبع اللُّطف والرحمة، ومعدن الكرم والجود.
وفي ذلك أيضاً ردّ على تلك التصوُّرات البشريّة الخاطئة التي تناولت طبيعة العلاقة بين الربّ والمربوبين.
فالله سبحانه من منظار الإسلام: لا يطارد عباده مطاردة الخصوم والأعداء كآلهة الأولمب في نزواتها وثوراتها كما تُصوّرُها أساطير الإغريق، ولا يدبّر لهم المكائد الانتقامية كما تزعم الأساطير المزوّرة في (العهد القديم) كالذي جاء في أُسطورة برج بابل في الإصحاح الحادي عشر من سفر التكوين: [حيث يقول]: «وكانت الأرض كلُّها لغة واحدة وكلاماً واحداً، وكان أنّهم لمّا رحلوا من المشرق وجدوا بقعة في أرض شعار فأقاموا هناك، وقال بعضهم لبعض: تعالوا نصنع لبناً وننضجه طَبْخاً، فكان لهم اللّبن بدل الحجارة، والخمر كان لهم بدل الطين، وقالوا: تعالوا نبنِ لنا مدينة وبرجاً رأسه إلى السماء، ونُقِم لنا اسماً كي لا نتبدّد على وجه الأرض كلّها. فنزل الربّ لينظر المدينة والبرج اللَّذين كان بنو آدم يبنونها.
وقال الرب: هُوذا، هم شعب واحد لجميعهم لغة واحدة، وهذا ما أخذوا يفعلونه، والآن لا يكفّون عمّا همُّوا به حتّى يصنعوه، هلّم نهبط ونبلبل هناك لغتهم حتى لا يفهم بعضهم لغة بعض! فبدَّدهم الربُّ من هناك على وجه الأرض كلّها، وكفّوا عن بناء المدينة، ولذلك سميّت (بابل) لأن الربّ هناك بلبل لغة الأرض كلِّها، ومن هناك شتتّهم الربُّ على كلّ وجهها»!(33).
* مقتطف من كتاب: (التدبر في القرآن) لمؤلفه آية الله السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي
.............................................
(1) وذلك نحو (غضبان) الذي يقال لمن امتلأ غضباً.
(2) مثل (كريم) ونحوه.
(3) بحار الأنوار 89: 229. وروي نظيره في نور الثقلين 1: 12؛ البرهان 1: 45.
(4) مواهب الرحمن 1: 23؛ مجمع البيان 1: 21؛ نور الثقلين 1: 14.
(5) التبيان 1: 29.
(6) الأحزاب: 43.
(7) التوبة: 117.
(8) مريم: 75.
(9) طه: 5.
(10) الأعراف: 156.
(11) غافر: 7.
(12) الأنعام: 147.
(13) لقمان: 27.
(14) بحار الأنوار 12: 60؛ النور المبين: 131.
(15) مفاتيح الجنان، الدعاء الثامن من الأدعية العامة لشهر رجب.
(16) الرعد: 17.
(17) الأعراف: 56.
(18) محمد: 17.
(19) النساء: 175.
(20) سفينة البحار 1: 517.
(21) غرر الحکم: 188.
(22) غرر الحکم: 305.
(23) غرر الحکم: 216.
(24) تنبيه الخواطر: 360.
(25) راجع: مفاتيح الجنان للمحدث القمي.
(26) صفات الفعل هي تلك الصفات التي تنتزع من مقام الفعل، ولذا يصحّ إثباتها للذات تارة، وسلبها عن الذات تارة أُخرى، كالخالقية والرازقية ونحوهما، حيث نستطيع أن نقول مثلاً: كان الله ولم يكن معه شيء ثم (خلق) الأشياء، أمّا صفات الذات فهي تنتزع من مقام الذات ولا يصحُّ سلبها من الذات مطلقاً، كالعلم والقدرة ونحوهما.
(27) سقنا هذين المثالين لمجرّد تقريب الذهن.
(28) البقرة: 254.
(29) الرعد: 33.
(30) هود: 56.
(31) آل عمران: 164.
(32) العلق: 7.
(33) في ظلال القرآن: 24.
تعليق