بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِ على محمد واله الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قال تعالى (وَقَضَيْنَا إِلَىَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنّ فِي الأرْضِ مَرّتَيْنِ وَلَتَعْلُنّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مّفْعُولاً ثُمّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوّلَ مَرّةٍ وَلِيُتَبّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً عَسَىَ رَبّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً) [سورة الإسراء:4-8].
بعد هذه الإشارة تدخل الآيات إلى تاريخ بني إسرائيل الملئ بالأحداث، فتقول: وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا.
كلمة " قضاء " لها عدة معان، إلا أنها استخدمت هنا بمعنى " إعلام " أما المقصود من " الأرض " في الآية - بقرينة الآيات الأخرى هي ارض فلسطين المقدسة التي يقع المسجد الأقصى المبارك في ربوعها.
الآية التي تليها تفصل ما أجملته من إشارة إلى الإفسادين الكبيرين لبني إسرائيل والحوادث التي تلي ذلك على أنها عقوبة إلهية فتقول: فإذا جاء وعد أولاهما وارتكبتم ألوان الفساد والظلم والعدوان بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد.
وهؤلاء القوم المحاربون الشجعان يدخلون دياركم للبحث عنكم:
فجاسوا خلال الديار.
وهذا الأمر لا مناص منه: وكان وعدا مفعولا.
ثم تشير بعد ذلك إلى أن الإلطاف الإلهية ستعود لتشملكم، وسوف تعينكم في النصر على أعدائكم، فتقول: ثم رددنا لكم الكرة عليكم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا (1).
وهذه المنة واللطف الإلهي بكم على أمل أن تعودوا إلى أنفسكم وتصلحوا أعمالكم وتتركوا القبائح والذنوب لأنه: إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها.
إن الآية تعبر عن سنة ثابتة، إذ أن محصلة ما يعمله الإنسان من سوء أو خير تعود إليه نفسه، فالإنسان عندما يلحق أذى أو سوءا بالآخرين، فهو في الواقع يلحقه بنفسه، وإذا عمل للآخرين، فإنما فعل الخير لنفسه، أما بنو إسرائيل، فهم مع الأسف لم توقظهم العقوبة الأولى، ولا نبهتهم عودة النعم الإلهية مجددا، بل تحركوا باتجاه الإفساد الثاني في الأرض وسلكوا طريق الظلم والجور والغرور والتكبر.
تقول الآية في وصف المشهد الثاني أنه حين يحين الوعد الإلهي سوف تغطيكم جحافل من المحاربين ويحيق بكم البلاء إلى درجة أن آثار الحزن والغم تظهر على وجوهكم: فإذا جاء وعد الآخرة ليسؤوا وجوهكم.
بل ويأخذون منكم حتى بيت المقدس: وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة.
وهم لا يكتفون بذلك، بل سيحتلون جميع بلادكم ويدمرونها عن آخرها:
وليتبروا ما علوا تتبيرا وفي هذه الحالة فإن أبواب التوبة الإلهية مفتوحة:
عسى ربكم أن يرحمكم.
وإن عدتم عدنا أي إن عدتم لنا بالتوبة فسوف نعود عليكم بالرحمة، وإن عدتم للإفساد عدنا عليكم بالعقوبة. وإذا كان هذا جزاؤكم في الدنيا ففي الآخرة مصيركم جهنم: وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا (2).
* * * 2 ملاحظات 3 الأولى: الإفسادان التأريخيان لبني إسرائيل:
تحدثت الآيات أعلاه عن فسادين اجتماعيين كبيرين لبني إسرائيل، يقود كل منهما إلى الطغيان والعلو، وقد لاحظنا أن الله سلط على بني إسرائيل عقب كل فساد رجال أشداء شجعانا يذيقونهم جزاء فسادهم وعلوهم وطغيانهم، هذا مع استثناء الجزاء الأخروي الذي أعده الله لهم.
وبالرغم من اتساع تاريخ بني إسرائيل، وتنوع الأحداث والمواقف فيه، إلا أن المفسرين يختلفون في كل المرات التي يتحدث القرآن فيها عن حدث أو موقف من تاريخ بني إسرائيل وعلى سبيل التدليل على هذه الحقيقة تتعرض فيما يلي للنماذج الآتية:
أولا: يستفاد من تاريخ بني إسرائيل بأن أول من هجم على بيت المقدس
وخربه هو ملك بابل " نبوخذ نصر " حيث بقي الخراب ضاربا فيه لسبعين عاما، إلى أن نهض اليهود بعد ذلك لإعماره وبنائه. أما الهجوم الثاني الذي تعرض له، فقد كان من قبل قيصر الروم " أسييانوس " الذي أمر وزيره " طرطوز " بتخريب بيت المقدس وقتل بني إسرائيل. وقد تم ذلك في حدود مائة سنة قبل الميلاد.
وبذلك يحتمل أن تكون الحادثتان اللتان أشارت إليهما الآيات أعلاه هما نفس حادثتي " نبوخذ نصر " و " أسييانوس " لأن الأحداث الأخرى في تاريخ بني إسرائيل لم تفن جمعهم، ولم تذهب بملكهم واستقلالهم بالمرة، ولكن نازلة (نبوخذ نصر) ذهبت بجمعهم وسؤددهم إلى زمن " كورش " حيث اجتمع شملهم مجددا وحررهم من أسر بابل وأعادهم إلى بلادهم وأعانهم في تعمير بيت المقدس، إلى أن غلبتهم الروم وظهرت عليهم، وذهبت قوتهم وشوكتهم (3).
لقد استمر بنو إسرائيل في مرحلة الشتات والتشرد إلى أن أعانتهم القوى الدولية الاستعمارية المعاصرة في بناء كيان سياسي لهم من جديد.
ثانيا: أما " الطبري " فينقل في تفسيره عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن المراد في الفساد الأول هو قتل بني إسرائيل لزكريا (عليه السلام) ومجموعة أخرى من الأنبياء (عليهم السلام)، وأن المقصود من الوعد الأول، هو الانتقام الإلهي من بني إسرائيل بواسطة (نبوخذ نصر) وأما المراد من الفساد الثاني فهو الفوضى والاضطراب الذي قام به " بنو إسرائيل " بعد تحريرهم من بابل بمساعدة أحد ملوك فارس، وما قاموا به من فساد. أما الوعد الثاني، فهو هجوم " أنطياخوس " ملك الروم عليهم.
وبالرغم من انطباق بعض جوانب هذا التفسير مع التفسير الأول، إلا أن راوي الحديث الذي يعتمد عليه " الطبري " غير ثقة، بالإضافة إلى عدم تطابق تاريخ " زكريا " و " يحيى " مع تاريخ " نبوخذ نصر " و " أسييانوس أو أنطياخوس " إذا
يلاحظ أن " نبوخذ نصر " عاصر " أرميا " أو " دانيال " النبي كما يرى بعض المؤرخين، وقيامه قد تم في حدود (600) سنة قبل زمان يحيى (عليه السلام)، لذلك كيف يقال: إن قيام نبوخذ نصر كان للانتقام من دم يحيى (عليه السلام)؟!
ثالثا: وقال آخرون: إن بيت المقدس شيد في زمن داود وسليمان (عليهما السلام)، وقد هدمه " نبوخذ نصر " وهذا هو المقصود من إشارة القرآن إلى الوعد الأول. أما المرة الثانية، فقد بني فيها بيت المقدس على عهد ملوك الأخمنيين ليقوم بعد ذلك " طيطوس " الرومي بهدمه وخرابه (الملاحظ أن " طيطوس " يطابق " طرطوز " الذي ذكر في التفسير السابق) وقد بقي على خرابه إلى عصر الخليفة الثاني عندما فتح المسلمون فلسطين (4). والملاحظ في هذا التفسير أنه لا يفترق كثيرا عما ورد في مضمون التفسيرين أعلاه.
رابعا: في مقابل التفاسير الآنفة والتفاسير الأخرى التي تتشابه في مضمون آرائها مع هذه التفاسير، نلاحظ أن هناك تفسيرا آخر يورده " سيد قطب " في تفسيره " في ظلال القرآن " يختلف فيه مع كل ما ورد، حيث يرى أن الحادثتين لم تقعا في الماضي، بل تتعلقان في المستقبل، فيقول: " فأما إذا عاد بنو إسرائيل إلى الإفساد في الأرض فالجزاء حاضر والسنة ماضية وإن عدتم عدنا ثم يقول:
" ولقد عادوا إلى الإفساد فسلط الله عليهم المسلمين فأخرجوهم من الجزيرة كلها. ثم عادوا إلى الإفساد وسلط الله عليهم عبادا آخرين، حتى كان العصر الحديث فسلط عليهم " هتلر " ولقد عادوا اليوم إلى الإفساد في صورة " إسرائيل " التي أذاقت العرب أصحاب الأرض الويلات. وليسلطن الله عليهم من يسومهم سوء العذاب، تصديقا لوعد الله القاطع، وفاقا لسنته التي لا تتخلف... وإن غدا لناظره قريب!) (5).
ولكن الاعتراض الأساسي الذي يرد على هذا التفسير، هو أن أيا منهما لم ينته بدخول القوم المنتصرين (على اليهود) إلى بيت المقدس حتى يخربوه؟
خامسا: الاحتمال الأخير الذي ورده البعض في تفسير الإفسادين الكبيرين لبني إسرائيل، يرتبط بأحداث ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث يقول هؤلاء: إن قيام الحزب الصهيوني وتشكيل دولة لليهود باسم " إسرائيل " في قلب العالم الإسلامي مثل الإفساد والطغيان والعلو الأول لهم، وبذلك فإن وعي البلاد الإسلامية لخطر هؤلاء الشعوب الإسلامية في ذلك الوقت إلى التوحد وتطهير بيت المقدس وقسما آخر من مدن وقرى فلسطين، حتى أصبح المسجد الأقصى خارج نطاق احتلالهم بشكل كامل.
أما المقصود من الإفساد الثاني حسب هذا التفسير، فهو احتلال اليهود مجددا للمسجد الأقصى بعد أن حشدت " إسرائيل " قواها واستعانت بالقوى الدولية الاستعمارية في شن هجومها الغادر (عام 1967).
وبهذا الشكل يكون المسلمون اليوم في انتظار النصر الثاني على بني إسرائيل، ليخلصوا المسجد الأقصى من دنس هؤلاء ويقطعوا دابرهم عن كل الأرض الإسلامية. وهذا ما وعد به المسلمون من فتح ونصر آت بلا ريب ).
بالطبع هناك تفاسير وآراء أخرى في الموضوع صرفنا النظر عنها، ولكن ينبغي أن يلاحظ أن في حال اعتماد التفسيرين الرابع والخامس، ينبغي أن نحمل الأفعال الماضية في الآية على معنى الفعل المضارع. وهذا ممكن في أدب اللغة العربية، وذلك إذا جاء الفعل بعد حرف من حروف الشرط.
ولكن يستفاد من ظاهر قوله تعالى: ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا إن الإفساد الأول على الأقل -
والانتقام الإلهي من بني إسرائيل كان قد وقع في الماضي.
وإذا أردنا أن نتجاوز كل ذلك، فينبغي أن نلتفت إلى أن قوله تعالى: بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد تفيد في أن الرجال الذين سيؤدبون " بني إسرائيل " على فسادهم وعلوهم وطغيانهم، هم رجال مؤمنون، شجعان حتى استحقوا لقب العبودية. ومما يؤكد هذا المعنى الذي غفلت عنه معظم التفاسير، هو كلمة " وبعثنا " و " لنا ".
ولكنا مع ذلك، لا نستطيع الادعاء أن كلمة " بعث " تستخدم فقط في مورد خطاب الأنبياء والمؤمنين، بل هي تستخدم في غير هذه الموارد أيضا، ففي قصة هابيل وقابيل يقول القرآن الكريم: فبعث الله غرابا يبحث في الأرض .
وكذلك الحال في كلمة " عباد " أو " عبد " فهي تطلق في بعض الأحيان على الأفراد غير الصالحين من المذنبين وغيرهم، كما في الآية (58) من الفرقان في قوله تعالى: وكفى به بذنوب عباده خبيرا والآية (27) من سورة الشورى، حيث يقول تعالى: ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض وفي خصوص المخطئين والمنحرفين نقرأ في الآية (118) من سورة المائدة قوله تعالى: إن تعذبهم فإنهم عبادك.
ولكنا مع ذلك لا نستطيع أن ننكر - وإن لم تقم قرينة خلاف ذلك - أن العباد الذين بعثهم الله للانتقام من بني إسرائيل هم من العباد المؤمنين الصالحين.
وخلاصة البحث: إن هذه الآيات تتحدث عن فسادين كبيرين لبني إسرائيل، وكيف أن الله تبارك وتعالى لم يهمل هؤلاء، بل أذاقهم جزاءهم في الدنيا، وبقي عليهم جزاء الآخرة وحسابها، والدرس الذي نستفيده والإنسانية جمعاء هو أن الله تعالى لا يهمل الظالمين ولا يسكت على ظلمهم بل علينا أن نعتبر ونتعظ من
إنهم بعلوهم وفسادهم عليهم أن ينتظروا أولئك الذين وصفهم القرآن بقوله:
عبادا لنا أولي بأس شديد حيث ينالون جزاءهم، وهو وعد إلهي قاطع في قرآنه الكريم.
3 الثالثة: تطبيق الآيات على أحداث التاريخ الإسلامي:
وبعضها تشير إلى أن المقصود من قوله تعالى: بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد هو الإشارة إلى الإمام المهدي (عليه السلام) وأصحابه.6
المصادر
1 - " نفير " اسم جمع وهي بمعنى مجموعة من الرجال، وقال بعض: هي من " نفر ". و " نفر " في الأصل على وزن " عفو " تعني الارتحال والإقبال على شئ. ولذلك يطلق على الجماعة المستعدة للتحرك باتجاه شئ بأنها في حالة " نفير ".
2 - " حصير " مشتقة من " حصر " بمعنى الحبس، وكل شئ ليس له منفذ للخروج يطلق عليه اسم " حصير ". ويقال للحصير العادية حصيرا لأن خيوطها وموادها نسجت إلى بعضها البعض.
(٤٠٥)
3 - يراجع تفسير الميزان، ج 13، ص 44 فما فوق.
4 - تفسير أبو الفتوح الرازي، ج ٧، ص ٢٠٩.
5 - سيد قطب، في ظلال القرآن، ج 4، ص 2214 الطبعة العاشرة.
6- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - الشيخ ناصر مكارم الشيرازي - ج ٨ - الصفحة ٤١٠
اللهم صلِ على محمد واله الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قال تعالى (وَقَضَيْنَا إِلَىَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنّ فِي الأرْضِ مَرّتَيْنِ وَلَتَعْلُنّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مّفْعُولاً ثُمّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوّلَ مَرّةٍ وَلِيُتَبّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً عَسَىَ رَبّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً) [سورة الإسراء:4-8].
بعد هذه الإشارة تدخل الآيات إلى تاريخ بني إسرائيل الملئ بالأحداث، فتقول: وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا.
كلمة " قضاء " لها عدة معان، إلا أنها استخدمت هنا بمعنى " إعلام " أما المقصود من " الأرض " في الآية - بقرينة الآيات الأخرى هي ارض فلسطين المقدسة التي يقع المسجد الأقصى المبارك في ربوعها.
الآية التي تليها تفصل ما أجملته من إشارة إلى الإفسادين الكبيرين لبني إسرائيل والحوادث التي تلي ذلك على أنها عقوبة إلهية فتقول: فإذا جاء وعد أولاهما وارتكبتم ألوان الفساد والظلم والعدوان بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد.
وهؤلاء القوم المحاربون الشجعان يدخلون دياركم للبحث عنكم:
فجاسوا خلال الديار.
وهذا الأمر لا مناص منه: وكان وعدا مفعولا.
ثم تشير بعد ذلك إلى أن الإلطاف الإلهية ستعود لتشملكم، وسوف تعينكم في النصر على أعدائكم، فتقول: ثم رددنا لكم الكرة عليكم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا (1).
وهذه المنة واللطف الإلهي بكم على أمل أن تعودوا إلى أنفسكم وتصلحوا أعمالكم وتتركوا القبائح والذنوب لأنه: إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها.
إن الآية تعبر عن سنة ثابتة، إذ أن محصلة ما يعمله الإنسان من سوء أو خير تعود إليه نفسه، فالإنسان عندما يلحق أذى أو سوءا بالآخرين، فهو في الواقع يلحقه بنفسه، وإذا عمل للآخرين، فإنما فعل الخير لنفسه، أما بنو إسرائيل، فهم مع الأسف لم توقظهم العقوبة الأولى، ولا نبهتهم عودة النعم الإلهية مجددا، بل تحركوا باتجاه الإفساد الثاني في الأرض وسلكوا طريق الظلم والجور والغرور والتكبر.
تقول الآية في وصف المشهد الثاني أنه حين يحين الوعد الإلهي سوف تغطيكم جحافل من المحاربين ويحيق بكم البلاء إلى درجة أن آثار الحزن والغم تظهر على وجوهكم: فإذا جاء وعد الآخرة ليسؤوا وجوهكم.
بل ويأخذون منكم حتى بيت المقدس: وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة.
وهم لا يكتفون بذلك، بل سيحتلون جميع بلادكم ويدمرونها عن آخرها:
وليتبروا ما علوا تتبيرا وفي هذه الحالة فإن أبواب التوبة الإلهية مفتوحة:
عسى ربكم أن يرحمكم.
وإن عدتم عدنا أي إن عدتم لنا بالتوبة فسوف نعود عليكم بالرحمة، وإن عدتم للإفساد عدنا عليكم بالعقوبة. وإذا كان هذا جزاؤكم في الدنيا ففي الآخرة مصيركم جهنم: وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا (2).
* * * 2 ملاحظات 3 الأولى: الإفسادان التأريخيان لبني إسرائيل:
تحدثت الآيات أعلاه عن فسادين اجتماعيين كبيرين لبني إسرائيل، يقود كل منهما إلى الطغيان والعلو، وقد لاحظنا أن الله سلط على بني إسرائيل عقب كل فساد رجال أشداء شجعانا يذيقونهم جزاء فسادهم وعلوهم وطغيانهم، هذا مع استثناء الجزاء الأخروي الذي أعده الله لهم.
وبالرغم من اتساع تاريخ بني إسرائيل، وتنوع الأحداث والمواقف فيه، إلا أن المفسرين يختلفون في كل المرات التي يتحدث القرآن فيها عن حدث أو موقف من تاريخ بني إسرائيل وعلى سبيل التدليل على هذه الحقيقة تتعرض فيما يلي للنماذج الآتية:
أولا: يستفاد من تاريخ بني إسرائيل بأن أول من هجم على بيت المقدس
وخربه هو ملك بابل " نبوخذ نصر " حيث بقي الخراب ضاربا فيه لسبعين عاما، إلى أن نهض اليهود بعد ذلك لإعماره وبنائه. أما الهجوم الثاني الذي تعرض له، فقد كان من قبل قيصر الروم " أسييانوس " الذي أمر وزيره " طرطوز " بتخريب بيت المقدس وقتل بني إسرائيل. وقد تم ذلك في حدود مائة سنة قبل الميلاد.
وبذلك يحتمل أن تكون الحادثتان اللتان أشارت إليهما الآيات أعلاه هما نفس حادثتي " نبوخذ نصر " و " أسييانوس " لأن الأحداث الأخرى في تاريخ بني إسرائيل لم تفن جمعهم، ولم تذهب بملكهم واستقلالهم بالمرة، ولكن نازلة (نبوخذ نصر) ذهبت بجمعهم وسؤددهم إلى زمن " كورش " حيث اجتمع شملهم مجددا وحررهم من أسر بابل وأعادهم إلى بلادهم وأعانهم في تعمير بيت المقدس، إلى أن غلبتهم الروم وظهرت عليهم، وذهبت قوتهم وشوكتهم (3).
لقد استمر بنو إسرائيل في مرحلة الشتات والتشرد إلى أن أعانتهم القوى الدولية الاستعمارية المعاصرة في بناء كيان سياسي لهم من جديد.
ثانيا: أما " الطبري " فينقل في تفسيره عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن المراد في الفساد الأول هو قتل بني إسرائيل لزكريا (عليه السلام) ومجموعة أخرى من الأنبياء (عليهم السلام)، وأن المقصود من الوعد الأول، هو الانتقام الإلهي من بني إسرائيل بواسطة (نبوخذ نصر) وأما المراد من الفساد الثاني فهو الفوضى والاضطراب الذي قام به " بنو إسرائيل " بعد تحريرهم من بابل بمساعدة أحد ملوك فارس، وما قاموا به من فساد. أما الوعد الثاني، فهو هجوم " أنطياخوس " ملك الروم عليهم.
وبالرغم من انطباق بعض جوانب هذا التفسير مع التفسير الأول، إلا أن راوي الحديث الذي يعتمد عليه " الطبري " غير ثقة، بالإضافة إلى عدم تطابق تاريخ " زكريا " و " يحيى " مع تاريخ " نبوخذ نصر " و " أسييانوس أو أنطياخوس " إذا
يلاحظ أن " نبوخذ نصر " عاصر " أرميا " أو " دانيال " النبي كما يرى بعض المؤرخين، وقيامه قد تم في حدود (600) سنة قبل زمان يحيى (عليه السلام)، لذلك كيف يقال: إن قيام نبوخذ نصر كان للانتقام من دم يحيى (عليه السلام)؟!
ثالثا: وقال آخرون: إن بيت المقدس شيد في زمن داود وسليمان (عليهما السلام)، وقد هدمه " نبوخذ نصر " وهذا هو المقصود من إشارة القرآن إلى الوعد الأول. أما المرة الثانية، فقد بني فيها بيت المقدس على عهد ملوك الأخمنيين ليقوم بعد ذلك " طيطوس " الرومي بهدمه وخرابه (الملاحظ أن " طيطوس " يطابق " طرطوز " الذي ذكر في التفسير السابق) وقد بقي على خرابه إلى عصر الخليفة الثاني عندما فتح المسلمون فلسطين (4). والملاحظ في هذا التفسير أنه لا يفترق كثيرا عما ورد في مضمون التفسيرين أعلاه.
رابعا: في مقابل التفاسير الآنفة والتفاسير الأخرى التي تتشابه في مضمون آرائها مع هذه التفاسير، نلاحظ أن هناك تفسيرا آخر يورده " سيد قطب " في تفسيره " في ظلال القرآن " يختلف فيه مع كل ما ورد، حيث يرى أن الحادثتين لم تقعا في الماضي، بل تتعلقان في المستقبل، فيقول: " فأما إذا عاد بنو إسرائيل إلى الإفساد في الأرض فالجزاء حاضر والسنة ماضية وإن عدتم عدنا ثم يقول:
" ولقد عادوا إلى الإفساد فسلط الله عليهم المسلمين فأخرجوهم من الجزيرة كلها. ثم عادوا إلى الإفساد وسلط الله عليهم عبادا آخرين، حتى كان العصر الحديث فسلط عليهم " هتلر " ولقد عادوا اليوم إلى الإفساد في صورة " إسرائيل " التي أذاقت العرب أصحاب الأرض الويلات. وليسلطن الله عليهم من يسومهم سوء العذاب، تصديقا لوعد الله القاطع، وفاقا لسنته التي لا تتخلف... وإن غدا لناظره قريب!) (5).
ولكن الاعتراض الأساسي الذي يرد على هذا التفسير، هو أن أيا منهما لم ينته بدخول القوم المنتصرين (على اليهود) إلى بيت المقدس حتى يخربوه؟
خامسا: الاحتمال الأخير الذي ورده البعض في تفسير الإفسادين الكبيرين لبني إسرائيل، يرتبط بأحداث ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث يقول هؤلاء: إن قيام الحزب الصهيوني وتشكيل دولة لليهود باسم " إسرائيل " في قلب العالم الإسلامي مثل الإفساد والطغيان والعلو الأول لهم، وبذلك فإن وعي البلاد الإسلامية لخطر هؤلاء الشعوب الإسلامية في ذلك الوقت إلى التوحد وتطهير بيت المقدس وقسما آخر من مدن وقرى فلسطين، حتى أصبح المسجد الأقصى خارج نطاق احتلالهم بشكل كامل.
أما المقصود من الإفساد الثاني حسب هذا التفسير، فهو احتلال اليهود مجددا للمسجد الأقصى بعد أن حشدت " إسرائيل " قواها واستعانت بالقوى الدولية الاستعمارية في شن هجومها الغادر (عام 1967).
وبهذا الشكل يكون المسلمون اليوم في انتظار النصر الثاني على بني إسرائيل، ليخلصوا المسجد الأقصى من دنس هؤلاء ويقطعوا دابرهم عن كل الأرض الإسلامية. وهذا ما وعد به المسلمون من فتح ونصر آت بلا ريب ).
بالطبع هناك تفاسير وآراء أخرى في الموضوع صرفنا النظر عنها، ولكن ينبغي أن يلاحظ أن في حال اعتماد التفسيرين الرابع والخامس، ينبغي أن نحمل الأفعال الماضية في الآية على معنى الفعل المضارع. وهذا ممكن في أدب اللغة العربية، وذلك إذا جاء الفعل بعد حرف من حروف الشرط.
ولكن يستفاد من ظاهر قوله تعالى: ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا إن الإفساد الأول على الأقل -
والانتقام الإلهي من بني إسرائيل كان قد وقع في الماضي.
وإذا أردنا أن نتجاوز كل ذلك، فينبغي أن نلتفت إلى أن قوله تعالى: بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد تفيد في أن الرجال الذين سيؤدبون " بني إسرائيل " على فسادهم وعلوهم وطغيانهم، هم رجال مؤمنون، شجعان حتى استحقوا لقب العبودية. ومما يؤكد هذا المعنى الذي غفلت عنه معظم التفاسير، هو كلمة " وبعثنا " و " لنا ".
ولكنا مع ذلك، لا نستطيع الادعاء أن كلمة " بعث " تستخدم فقط في مورد خطاب الأنبياء والمؤمنين، بل هي تستخدم في غير هذه الموارد أيضا، ففي قصة هابيل وقابيل يقول القرآن الكريم: فبعث الله غرابا يبحث في الأرض .
وكذلك الحال في كلمة " عباد " أو " عبد " فهي تطلق في بعض الأحيان على الأفراد غير الصالحين من المذنبين وغيرهم، كما في الآية (58) من الفرقان في قوله تعالى: وكفى به بذنوب عباده خبيرا والآية (27) من سورة الشورى، حيث يقول تعالى: ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض وفي خصوص المخطئين والمنحرفين نقرأ في الآية (118) من سورة المائدة قوله تعالى: إن تعذبهم فإنهم عبادك.
ولكنا مع ذلك لا نستطيع أن ننكر - وإن لم تقم قرينة خلاف ذلك - أن العباد الذين بعثهم الله للانتقام من بني إسرائيل هم من العباد المؤمنين الصالحين.
وخلاصة البحث: إن هذه الآيات تتحدث عن فسادين كبيرين لبني إسرائيل، وكيف أن الله تبارك وتعالى لم يهمل هؤلاء، بل أذاقهم جزاءهم في الدنيا، وبقي عليهم جزاء الآخرة وحسابها، والدرس الذي نستفيده والإنسانية جمعاء هو أن الله تعالى لا يهمل الظالمين ولا يسكت على ظلمهم بل علينا أن نعتبر ونتعظ من
إنهم بعلوهم وفسادهم عليهم أن ينتظروا أولئك الذين وصفهم القرآن بقوله:
عبادا لنا أولي بأس شديد حيث ينالون جزاءهم، وهو وعد إلهي قاطع في قرآنه الكريم.
3 الثالثة: تطبيق الآيات على أحداث التاريخ الإسلامي:
وبعضها تشير إلى أن المقصود من قوله تعالى: بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد هو الإشارة إلى الإمام المهدي (عليه السلام) وأصحابه.6
المصادر
1 - " نفير " اسم جمع وهي بمعنى مجموعة من الرجال، وقال بعض: هي من " نفر ". و " نفر " في الأصل على وزن " عفو " تعني الارتحال والإقبال على شئ. ولذلك يطلق على الجماعة المستعدة للتحرك باتجاه شئ بأنها في حالة " نفير ".
2 - " حصير " مشتقة من " حصر " بمعنى الحبس، وكل شئ ليس له منفذ للخروج يطلق عليه اسم " حصير ". ويقال للحصير العادية حصيرا لأن خيوطها وموادها نسجت إلى بعضها البعض.
(٤٠٥)
3 - يراجع تفسير الميزان، ج 13، ص 44 فما فوق.
4 - تفسير أبو الفتوح الرازي، ج ٧، ص ٢٠٩.
5 - سيد قطب، في ظلال القرآن، ج 4، ص 2214 الطبعة العاشرة.
6- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - الشيخ ناصر مكارم الشيرازي - ج ٨ - الصفحة ٤١٠
تعليق