حظي كلام أمير المؤمنين الإمام علي (ع) في نهج البلاغة بما لم يحظ به كلام غيره من البلغاء والعظماء من العناية التامة والاهتمام البالغ من قبل بقية الأدباء والشعراء على مر الأحقاب .
1
كن في الفتنة كابن اللبون لا ظهر فيركب، ولا ضرع فيحلب.
اللبون من الإبل والشاء هي ذات اللبن قل وكثر. وابن اللبون فصيل الناقة قبل أن يقوى ظهره للركوب، يصلح ضرعها للحليب، ظهر بالرفع اسم “ل” العاملة عمل ليس على مذهب الحجازيين، خبرها محذوف، التقدير لا ظهر صالحا للركوب، لا ضرع صالحا للحليب، الفعل المضارع هنا منصوب بأن مضمرة بعد الفاء لوقوعها بعد النفي المحض مثل ما أعرف دارك فأزورك أيكي أزورك.
والمراد بالفتنة هنا الباطل، المعنى إذا رأيت باطلا فلا تدخل فيه، احذر من أهله أن يخدعوك ويستغلوك في أغراضهم ومآربهم.. وسكت الإمام في حكمته هذه عن الحق وأهله، ليس معنى سكوته عنه وعنهم أنه ينهى عن الدخول فيشأن المحقين ومناصرتهم، انه يساوي بينهم وبين المبطلين..كلا، ألف كلا، لأن مثل هذا الكلام يقتصر فيه على دلالة المنطوق دون المفهوم..هذا، الى أن كلمات الإمام ووصاياه بنصرة الحق وأهله تجاوزت حد الإحصاء، من ذلك قوله لولديه الحسن والحسين “كونا للظالم خصم، للمظلوم عون”.كما جاء في الرسالة 46، ذمه للذين لم يحاربوا معه الناكثين بأنهم لم ينصروا الحق، لم يخذلوا الباطل.
2
أزرى بنفسه من استشعر الطمع، رضي بالذل من كشف عن ضره، هانت عليه نفسه من أمر عليه لسانه.
الطمع ضد القناعة، لكن كثر استعماله ضد المروءة والورع حتى صار حقيقة فيه، أما حكمه فيقاس بآثاره ونتائجه، ان خيرا فخير، ان شرا فشر.
وقول الإمام من استشعر الطمع معناه من اتخذه دينا له وديدنا بحيث لا يلتزم بشيء إلا على أساس منفعته الخاصة. ومن كان كذلك فقد حقر نفسه بنفسه، لأن الإنسان يقاس بأهدافه وأمانيه. ومن كانت همته بطنه كانت قيمته ما يخرج منها كما قال الإمام علي.
وقد يبتلى الإنسان بمرض وفقر وغيرهما من الآفات. وما من شك ان المرض بلاء، الفقر مصيبة، لكن الكشف والإعلان عنهما وعن أية آفة فضيحة.
وقديما قيل الشكوى لغير الله ذل.. وأية جدوى من الشكوى الى الناس ما دامت لا تدفع ضر، لا تجلب نفع، تسوء المحب، تسر المبغض؟
وأيضا لا جدوى من أمر المبتلى وحثه على الصبر وكتمان العلة إلا إذا كان ذا عقل رزين، لأن الصبر على قدر العقل.
والشكوى من مقولة الكلام وصفاته، لذا عقبها الإمام علي بالإشارة الى اللسان، مر الحديث عنه في شرح الخطبة 94 فقرة “السكوت” وغيره. وقال مجرب حكيم يتنازع لسانك عقلك وهواك، فإن غلب الأول فهو لك، ان غلب الثاني فهو عليك، فلا تطلق لسانك حتى تعلم ان كلامه لك لا عليك.
3
البخل عار. والجبن منقصة. والفقر يخرس الفطن عن حجته. والمقل غريب في بلدته. والعجز آفة، الصبر شجاعة. والزهد ثروة. والورع جنة.
البخل يخطط لصاحبه منهجا يسير عليه في تفكيره وسلوكه، لا يحيد عنه بحال، هذا المنهج يرفض بطبعه التعاون على الخير ومصلحة الفرد والجماعة، يهدي الى القسوة وعدم الاكتراث بالناس ومشاكلهم.. ومن لا يهتم بهموم الناس فليس منهم ولا من الانسانية في شيء.
ونعطف على ذلك ما جاء في الآثار من أن البخيل يعيش في الدنيا عيش الفقراء، يحاسب في الآخرة حساب الأغنياء، انه كالخنزير لا ينتفع به إلا بعد موته حيث تنهشه الكلاب، ان البخل يفسد الرأي، يمنع صاحبه عن رؤية الحقيقة، لأنه ينظر الى الأشياء من خلال ذاته الشحيحة الشاحبة.
واذا كان الإمساك رذيلة فالبذل والتضحية فضيلة في كل زمان ومكان، لكن إطعام الطعام قد بلغ الغاية والنهاية من التقديس عند القدامى، بخاصة العرب الذين اعتبروه سببا رئيسيا من أسباب السيادة والقيادة، ملأوا الدنيا في المديح و الثناء نظما ونثرا على صاحب الخوان، كنوا عنه بجبان الكلب وكثير الرماد والنيران.. ووضع الجاحظ كتابا في البخلاء، أفرد الكثير من المؤلفين بابا طويلا في كتبهم لذم البخل والبخلاء، مدح الجود والأجواد.
والسر العسر والمعيشة الضنكى في ذاك العصر حيث الجائعون من كل بلد بالآلاف أو بالمئات..هذا، الى ان المسافرين كانوا يسيرون أياما وأشهرا على الأقدام أو على الحيوان، لا مطاعم وفنادق، فلا بدع اذا كان لإطعام الطعام شأنه و وزنه، من هنا ساوى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينه وبين السلام في قوله “أفضل الأعمال إفشاء السلام، إطعام الطعام”.
حتى الماء كان لباذله أجر وفضل على قدر عطش الظمآن ولهفته، لتعذر الوصول الى مجرى الماء ومصدره..أما الآن، قد غير العلم الأرض ومن عليها وخطا بالبشرية خطوات يسرت لها العسير، قربت لها البعيد، حققت الكثير من مطالبه، أما الآن فلم يعد لإطعام الطعام ونحوه ذاك الوزن والأثر الذي كان له من قبل.. وليس معنى هذا ان الكرم قد تحول عن طبيعته ونزل عن مرتبته، إنما يعني ان مظاهر الكرم قد تغيرت وانتقلت من التعاون الفردي الى التعاون الاجتماعي، من إطعام الرغيف الى بناء دار للأيتام، مستشفى للمعوزين، مدارس للمتعلمين، من سقي الظمآن الى ري الأراضي، تحويل الصحراء الجرداء الى جنات وعيون، معنى هذا أن معنى الكرم قد عم واتسع بعد أن كان ضيقا ومحدود، ان اسم الكريم قد تطور الى اسم المصلح والمنقذ.
(والجبن منقصة) لأن الجبان يرى المنكر فيتعامى عنه، يسمع دعوة الجهاد في سبيل الله والحق فيصد عنه، إذا شكا اليه مظلوم أدار له ظهره، إذا أراد أن يتكلم خاف من النقد.. وهكذا يسلبه الخوف ما يملك من طاقات، يعيش حبيسا بين جدران الهواجس والأوهام بلا شخصية وإرادة، لا زهرة أو ثمرة إلا الهدير والثرثرة.. وهل علمت وسمعت أن للجبان شأنا وتاريخا؟.
(والفقر يخرس الفطن عن حجته) لأن الفقر يضغط على العقل، يسد أمامه منافذ الرؤية..اللهم إلا إذا كان للفقير هدف أعلى يضحي بحياته من أجله، ينسى معه نفسه وبؤسه، كطلب العلم والحرية لوطنه، كما حدث لكثير من الفقراء المناضلين الأحرار. وتقدم الكلام عن الفقر مرات ويأتي أيضا.
(والمقل غريب في بلدته) ومثله قول الإمام علي “الغنى في الغربة وطن، الفقر في الوطن غربة” لأن من شأن الوطن أن يسهل لك العسير، يستجيب لحاجتك وأمنيتك، المال قاضي الحاجات، الفقر أصل الويلات، من هنا كان الفقر غربة في الوطن، الغنى وطنا في الغربة.
(والعجز آفة) وكلمة العجز تعم وتشمل وباء الفقر والمرض والجهل، هذه الأوباء الثلاثة آفة الإنسانية بكامله، منها تنبع القبائح والرذائل، بخاصة الفقر فإنه السبب القريب والبعيد لأكثر الآفات والمشكلات.
(والصبر شجاعة) وجهاد. وحين يتحدث الإمام علي عن الصبر وفوائده فإنه يتحدث عن علم وتجربة، فلقد رأى وشاهد صبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة على الأذى والتنكيل في سبيل الإسلام، ثباتهم عليه مستهينين بكل شيء، هذا الصبر هو الأصل والأساس لحياة الإسلام وانتشاره، على صخرته تحطم الكفر والشرك، لو لا هذا الصبر والثبات ما كانت الهجرة ولا بدر وأحد والأحزاب، بالتالي ما كان للإسلام عين ولا أثر.
(والزهد ثروة، الورع جنة) المراد بالزهد التورع عن الحرام، بالورع الكف عنه، عليه يكون العطف للبيان والتفسير، المعنى أن العفيف النزيه فيغنى عن الناس، أمان من شرهم، لأنه بعفته ونزاهته يرضى ويقنع بالميسور، يكف أذاه عن الآخرين، القناعة كنز، كف الأذى حصن وصيانة. وتقدم الكلام عن ذلك مرارا وتكرارا مفصلا ومجملا.انظر شرح الخطبة 189 فقرة “التقوى”.
4
نعم القرين الرضى. والعلم وراثة كريمة. والآداب حلل مجددة. والفكر مرآة صافية.
(نعم القرين الرضى) عليك أن تسعى جهدك للرزق، لا تتكل على القدر، إذا سعيت ونلت من الحلال دون ما أملت فارض بما تيسر ولا ترفضه وتتبرمبه.
وقديما قيل لا يترك الميسور بالمعسور، كيف والحرمان أقل منه، بعض الشر أهون من بعض؟ خذ ما تيسر، انتظر الفرصة الى ما هو أفضل، لا تتعجل الشيء قبل أوانه، فإن الأمور مرهونة بأوقاتها.. ولا أظن مخلوقا حقق كل ما ينشد من سعادة إلا من روض نفسه على التسليم والرضا بما لا سبيل الى سواه، لا يقول لشيء لم يكن ليته كان، لما كان ليته لم يكن.
والرضا بمنطق الواقع هو الذي عناه الإمام علي، أثنى عليه بقوله “نعم القرين الرض” لأنه يحرر صاحبه من الحيرة والقلق، التبرم والسخط بلا جدوى.
وبالاختصار ان تعاسة الإنسان قد تأتي من داخله لا من خارجه، من صنع يده لا من صنع القدر، لأنه يرفض الانسجام مع ظروفه الخاصة التي تمسه في الصميم، تؤثر عليه وعلى شؤونه، لا يجني من معاندتها إلا الآهات والحسرات.
(والعلم وراثة كريمة) قال ابن أبي الحديد في شرحه “كل عالم يأخذ العلم من استاذه فكأنه ورث العلم عنه” وتبعه ميثم في هذا التفسير وقال “العلم وراثة عن العلماء” وقال شارح ثالث “أخطأ الاثنان، الحق في التفسير ان العلم يؤخذ بلا عوض تماما كالإرث”.. ولو تنبه هؤلاء الشارحون لقول الإمام في الحكمة رقم 147 لأراحوا واستراحوا من هذا التكلف والتعسف. قال الإمام في هذه الحكمة من جملة ما قال “العلم يكسب الانسان جميل الأحدوثة بعد وفاته” وهذا بالذات هو مراد الإمام بقوله “و العلم وراثة كريمة” فإن كلام الإمام يفسر بعضه بعض، لأن مصدره واحد.. وكلنا يعلم ان الناس يذكرون الانسان بعد وفاته بأفعاله وصفاته، ان العلم من الصفات الجلى.
(والآداب حلل مجددة).الحلل المجددة كناية عن البهجة والزينة الدائمة، المراد بالآداب هنا الصفات الحميدة عند العقل والعقلاء، كالبلاغة والذكاء وحسن السلوك، ما إلى ذاك من الفضائل الشخصية والاجتماعية..نقول هذا مع العلمان تحديد المفاهيم ومعاني الألفاظ من أدق الأشياء وأصعبها.. ولكن هذا ما فهمناه من سياق الكلام، منطق الواقع، فإن كان هذا ما أراده الإمام من كلامه هنا فذاك، إلا فإن الإمام لا يرفض المعنى الذي فهمناه لأنه حق في نفسه ومن حيث هو.
(والفكر مرآة صافية) المراد بالفكر هنا القوة المدركة العاقلة التي اذا أعملها الإنسان بعيدا عن الهوى والمحاكاة دلت على الحق والصواب، كنى الإمام عن هذه الدلالة الصادقة بالمرآة الصافية التي تعكس الشيء كما هو في واقعه. وأخذنا هذا التفسير من قول الإمام في الرسالة 30 “من تفكر أبصر” وقوله في الحكمة 113 “لا علم كالتفكير” أي ان العلم بلا تفكير أكثر خطورة من التفكير الذي لا يدعمه علم، كما قال كونفوشيوس.
5
صدر العاقل صندوق سره. والبشاشة حبالة المودة. والاحتمال قبر العيوب (أو) والمسالمة خباء العيوب. ومن رضي عن نفسه كثر الساخط عليه.
(صدر العاقل صندوق سره) بعض الحاجات لا يستقيم قضاؤها إلا بالكتمان، من الجهل والحمق إفشاؤها وإذاعتها.. وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد غزوا ورى.
ومن ضاق بسره فلا يلومن من أفشاه. والحق خاص بصاحبه، على كل إنسان أن يحترم هذا الحق ويقدسه، يحرم التجسس عليه.. ولكن الغرب قد انتهك هذا الحق، اخترع للتجسس على الشعوب والبيوت والأفراد آلات مذهلة شديدة الدقة، قد هددت حرية الإنسان وأصبحت حياته وأسراره مشاعا للذين يملكون هذه الآلات، يبيعونها كالسلعة لمن يدفع الثمن، فتحوا بنوكا وحوانيت لبيعها علانية وعلى علم من السلطة التي تصون الأمن الحريات.
وهكذا حولوا العلم من العمل لصالح الإنسان وخدمته الى الإضرار به والاعتداء عليه والقضاء على حريته، فرضوا عليه لونا جديدا من الضغط لا نظير له حتىفي عصور الجهل والتخلف.
(والبشاشة حبالة المودة) اذا خرجت الابتسامة من القلب دخلت في القلب تماما ككلمة الصدق والإخلاص، أما ابتسامة المكر فهي وكلمة النفاق سواء، تخرج من الحناجر ولا تتجاوز الآذان.
(والاحتمال قبر العيوب) المراد بالاحتمال هنا الصبر على كلمة تافهة وحركة نابية من زوجة وولد وجار وأي سفيه، المراد بقبر العيوب أن هذا الصبر فضيلة تشفع في بعض العيوب، تسترها ـ على الأقل ـ وأية جدوى من إظهار الغيظ والغضب إلا البغضاء والشحناء.
(ومن رضي عن نفسه كثر الساخط عليه). كثرة الادعاء تدل على كثرة العيوب، من استطال على الناس بما فيه وبزور يدعيه فقد فتح عليه أبوابالذم والطعن والسخرية والاستهزاء والمقت والكراهية.. والعالم حقا يتواضع ويتوقع الخطأ من نفسه، الدعي اللصيق بأهل العلم يرى نفسه مصدر الحق والصواب..
6
الصدقة دواء منجح. وأعمال العباد في عاجلهم نصب أعينهم في آجلهم.
المراد بالصدقة هنا كل معونة تسد حاجة من حاجات الحياة خاصة كانت كإغاثة الملهوف، أم عامة كبناء ميتم يأوي المشردين، أم مصنعا ينتج الغذاء والكساء والدواء للمحتاجين. وأي دواء أكثر نفعا من خدمة الإنسان وسد حاجاته؟
وليست هذه الصدقة والمعونة تجيب دعوة المضطر وكفى، بل هي أيضا دواء وخلاص من عذاب الحريق لمن ضحى وأعان يوم الحساب والجزاء.
ويأتي قريبا قول الإمام “من كفارة الذنوب العظام إغاثة الملهوف، التنفيس عن المكروب”. هذا إذا كان الملهوف والمكروب واحد، فكيف بإغاثة الأجيال و الألوف؟
(واعمال العباد في عاجلهم الخ)..من عمل في دنياه لمنفعة الآخر يجد ثواب عمله مجسما نصب عينيه في آخرته.
المصدر: شبكة المعارف الإسلامية الثقافية