بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
كثيرة هي المضامين العالية التي وردت في زيارة عاشوراء؛ الزيارة التي يحرص عليها كل مؤمن خصوصا في أيام محرم الحرام وفي يوم عاشوراء وفي ليالي الجمع بل وفي كل يوم وهي وإن كانت تصنف في الزيارات إلا أنها تحتوي على مناجاة ودعاء، يُمكن وصفها بأنها من أرقى الأدعية المأثورة كهذا الدعاء: (اَللَّهُمَّ اِجْعَلْنِي عِنْدَكَ وَجِيهاً بِالْحُسَيْنِ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ فِي اَلدُّنْيَا وَاَلْآخِرَةِ)
ولو تأملنا في هذا الدعاء وأمثاله لرأينا أن لكل كلمة دلالة. أما قولنا: اجعلني، فنعني به أننا قاصرون على أن نصل بجهدنا وإنما ينبغي أن نستعين بالله سبحانه للوصول إلى هذه الوجاهة. ترى الرجل يريد أن يبني منزلا فلا يستطيع في تسعة أشهر أن ينجزه ولكن الله سبحانه يخلق جنينا في بطن أمه في ظلمات ثلاث ليصبح بشرا سويا في أحسن تقويم في تسعة أشهر، وهذا هو الجعل الإلهي، واليد الإلهية التي توجب الكمال.
التغيير في الأرواح المشوهة
إن الرجل يضع الحويمن في رحم الأم؛ فتتخصب البويضة وهي لا ترى إلا بالمجهر، فتبدأ بالنمو ويشق الله سبحانه لهذا المخلوق البصر والسمع ويخرج في نهاية المطاف كفلقة القمر بعد أن كان في بدايته أشبه بالضفدع منه بالإنسان. وبإمكاننا مشاهدة مراحل نمو الجنين في بعض المتاحف لنرى بأعيننا كيف يتحول هذا الجنين القبيح ذو الرأس الكبير والجسد الصغير الذي يُشبه الذيل في الشهور الأولى إلى طفل يذهب بالأبصار من شدة جماله، وهو قوله سبحانه: (ثُمَّ خَلَقنَا ٱلنُّطفَةَ عَلَقَة فَخَلَقنَا ٱلعَلَقَةَ مُضغَة فَخَلَقنَا ٱلمُضغَةَ عِظَٰما فَكَسَونَا ٱلعِظَٰمَ لَحما ثُمَّ أَنشَأنَٰهُ خَلقًا ءَاخَرَ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحسَنُ ٱلخَٰلِقِينَ).
فالذي يستطيع أن يحول هذا الجنين المشوه إلى جمال آسر؛ ألا يستطيع أن يتصرف في الروح التي لم تتكامل والتي تشوهت بالذنوب إلى روح راقية آسرة؟
فلو كشف الغطاء لبعضنا، لهرب من نفسه. إن الباطن قد يتلوث إلى درجة لا يتحمل البعض باطنه فيُعدم نفسه بنفسه وذلك بالانتحار. قد ترى الجميلات من النساء؛ ولكن لا يتعدى هذا الجمال الجلد واللحم ولو كُشف لك الباطن لرأيت أقبح القبيحات. فما أجدر بالمؤمن أن يخاطب ربه قائلا: يا رب، حلني بحلية الإيمان وأخرجني من الظلمات إلى النور؛ فلو تركت الأمر إلي فلن أتقدم خطوة من دون عونك وتسديدك.
عميلة جراحية على شبح…!
إن العمل على استصلاح هذه الروح أشبه شيء بطبيب جراح يقوم بعملية في غرفة العمليات لمريض لا يُرى وبأدوات لا تُرى…! إننا نقوم بعملية جراحية في أنفسنا لنستأصل منها غدة الحسد، وغدة الحقد، وغدة التكبر؛ ولكننا لا نرى شيئا منها وهنا تكمن الصعوبة في تزكية النفس.
ثم نطلب من الله سبحانه في الدعاء الذي ورد في زيارة عاشوراء؛ أن يجعلنا وجيها عنده. قد ينشر البعض عنك أخبارا كاذبا أو يحاولون تشويه سمعتك أمام الناس من خلال الذكاء الاصطناعي مثلا أو ما شابه من هذه الوسائل الحديثة، فتتألم لذلك والحال أنه لا ينبغي لك ذلك ما دمت تعلم أنك بريء من ذلك وأن الله سبحانه راض عنك. فإذا كنت وجيها عند الله، فلا تخشى ألا تكون وجيها عند غيره.
إن نصف مشاكلنا من كلام الناس
إن نصف مشاكلنا من كلام الناس؛ خاصة ممن يعنينا أمرهم، ولم يسلم منه حتى الأنبياء. إن قوم موسى (ع) آذوه كثيرا حتى أنهم دفعوا مالا لزانية لكي تتهم النبي بالفاحشة ولذلك شكى الأمر إلى ربه، فبين له سبحانه: أنه أمر لم يسلم منه هو عز وجل. والكلام هو هواء يخرج من الفم لا قيمة له؛ فقد قيل لأحد المراجع: إن من الناس من يتكلم عليك، فقال: وما يضرني ما يقولون وهو هواء في هواء لا ضرر فيه علي، وإنما خشيتي ألا يتحول ذلك إلى الضرب المؤلم…!. لو تعاملت مع كلام الناس كما تتعامل مع الرائحة الكريهة التي تخرج من فم أحدهم لسددت على نفسك باب كبير من أبواب التألم والتأثر.
ولابد أن تكون الوجاهة التي يبحث عنها الإنسان مما تنفعه في أخراه؛ فما الفائدة من أن يكون الرجل محبوب الملايين ولا أحد من هؤلاء يدخل معه في قبره وينفعه في آخرته؟ فلابد من أن تكون وجيها عند الله سبحانه ولكن لا تتم هذه الوجاهة إلا من خلال شفيع أو وسيط. من الذي يعطينا هذه الوجاهة؟ هنا بيت القصيد: (وجيها بالحسين (ع)). إنني لا أملك وجاهة ولكن للحسين (ع) وجاهة وأي وجاهة، ولذلك أوصي كل من يعمل في المواكب أو للشعراء والرواديد ومن ينتسب بطريقة أو أخرى إلى الحسين (ع) أن يقول: يا أبا عبدالله، إنني منسوب إليك ولو تركتني ونفسي لكنت شينا عليك وأنت لا تريدني إلا زينا وخاصة إنني أنتسب إليك ويعرفني الناس بهذا الانتساب وينعتونني بالحسيني، فإن سقطت قالوا: سقط الحسيني وإن وُفقت قالوا: وُفق الحسيني. فلا أكن يا سيدي كما قال الشاعر:
وكل يدعي وصلاً بليلى
وليلى لا تقر لهم بذاكا
ولا ينبغي أن نغفل عن أن السمعة الطيبة مطلوبة في الدنيا ولذلك نقول: وجيها بالحسين (ع) في الدنيا وهو يُشبه ما ورد في زيارة أمين الله: (مَحْبُوبَةً فِي أَرْضِكَ وَسَمَائِكَ) فلو حظي الإنسان بمحبة الزوجة والأولاد استقرت حياته ولم يُعقه أولاده مثلا.
صلوات ورحمة ومغفرة تنالها بهذه الزيارة
ومن الأدعية التي وردت في هذه الزيارة: (اَللَّهُمَّ اِجْعَلْنِي فِي مَقَامِي هَذَا مِمَّنْ تَنَالُهُ مِنْكَ صَلَوَاتٌ وَرَحْمَةٌ وَمَغْفِرَةٌ)، وهو دعاء ينبغي أن يتوقف عنده المؤمن ويكررها عدة مرات. إن الله سبحانه – وهو الذي لا تأخذه سنة ولا نوم – يصلي في كل يوم على النبي (ص)، وصلاته رفع درجاته. فكم ارتفعت درجاته منذ ما يقارب الخمسة عشر قرنا؟ ويقول سبحانه في كتابه: (إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰٓئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيّ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيهِ وَسَلِّمُواْ تَسلِيمًا).
وينبغي أن يتخلق المؤمن بأخلاق الله وأن يصلي على نبيه كما يصلي الله عليه.
كيف يصلي الله عليك؟
ومن الممكن أن يصلي الله عليك ولكن صلاة دون صلاته على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) وذلك عند صبرك على المصيبة وهو قوله تعالى: (ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَٰبَتهُم مُّصِيبَة قَالُوٓاْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيهِ رَٰجِعُونَ * أُوْلَـٰٓئِكَ عَلَيهِم صَلَوَٰت مِّن رَّبِّهِم وَرَحمَة وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلمُهتَدُونَ) فالمصيبة قد تكون صداع ليلة أو آلام ولادة والصلوات الإلهية تكون بمقدار هذا الألم، وقد تكون المصيبة فقد عزيز وهذه مصيبة لا تنتهي بيوم ولا يومين؛ بل تبقى حزازتها وألمها إلى آخر العمر، كما نرى ذلك جليا عند أمهات الشهداء مثلا، وقد تلحق الأم ولدها كمدا، فتموت غصة واكتئاباً.
فالأخ الذي يصبر على فقد أخيه الشهيد يرفع الله درجته كذلك وكذلك الأمر في ابن الشهيد وجميع ذويه. إن رب العالمين يصلي عليك في زيارة عاشوراء لا أثناء تلك الزيارة وإنما له صلواتٌ مستمرة؛ فهو أجل من أن يصلي عليك ثم يقطع صلواته، كيف يكون ذلك وأمير المؤمنين (ع) يصفه لنا قائلا: أنت أكرم من أن تضيع من ربيته.
تعليق