بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين حمدًا كثيرًا كما يستحقُّه وكما هو أهله، والصلاة والسلام على خير خلقه محمَّد وآله الطاهرين...
بدأت اللبنات الأولى في التخطيط اللغوي وسياسة حفظ اللغة العربية منذ العصور الأولى للإسلام، وكان الرائد في ذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فهو أوَّل من أصَّل لعلوم اللغة العربية وشقَّ الدرس في مناهجها، وكان أعلم النَّاس بفنون الحديث، وأبصرهم بأساليبه، وممَّن نصَّ على ذلك جلال الدِّين السُّيُوطيّ(ت911هـ) بقوله: ((ثُمَّ كانَ أوَّلَ من رَسمَ للنَّاس النَّحوَ أبو الأسودِ الدُّؤلي, وكانَ أبو الأسودِ أخذَ ذلك عن أميرِ المؤمنينَ عليِّ بنِ أبي طالب(رضي الله عنه)، وكانَ أعلمَ النَّاس بكلامِ العربِ, وزعموا أنَّه كانَ يُجيبُ في كلِّ لغةٍ))([1]) . وكيف لا يكون كذلك وهو القائل: ((وإِنَّا لَأُمَرَاءُ اَلْكَلاَمِ وفِينَا تَنَشَّبَتْ عُرُوقُهُ وعَلَيْنَا تَهَدَّلَتْ غُصُونُهُ))([2]) .
وهذا الأمر لم ينفرد به السيوطي، وإنَّما نُصَّ عليه منذ زمنٍ مبكِّر، فهذا الزَّجّاجيّ(ت337هـ) ينصُّ على أنَّ أمير المؤمنين علي (عليه السلام) هو أوَّل من وضع علم النحو وأسَّس له: ((عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ(ت69هـ)، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ(رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ), فَرَأَيْتُهُ مُطْرِقًا مُتَفَكِّرًا, فَقُلْتُ: فِيمَ تُفَكِّرُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: " إِنِّي سمعتُ بِبَلَدِكُمْ هُنَا لَحْنًا, فَأَرَدْتُ أَنْ أَصْنَعَ كِتَابًا فِي أُصُولِ الْعَرَبِيَّةِ", فَقُلْتُ: إِنْ فَعَلْتَ هَذَا أَحْيَيْتَنَا وَبَقِيتَ فِينَا هَذِهِ اللُّغَةُ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ بَعْدَ ثَلاثٍ فَأَلْقَى لِي صَحِيفَةً فِيهَا: بِسمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الْكَلامُ كُلُّهُ اسْمٌ، وَفِعْلٌ، وَحَرْفٌ، فَالاسْمُ: مَا أنبأ عَنِ الْمُسَمَّى، وَالْفِعْلُ مَا أنبأ عَنْ حَرَكَةِ الْمُسَمَّى، وَالْحَرْفُ مَا أنبأ عَنْ مَعْنًى لَيْسَ بِاسْمٍ وَلا فِعْلٍ))([3]) .
وهذا الأمر متواتر قد نصَّ عليه كثير من العلماء([4]) . هذا بالنسبة للنحو، وأمَّا الصرف، - وهو قرين النحو في العربية، إذ يُعدُّ قسيماً للنحو لا فرعاً منه([5]) - فهو كذلك من ابتكارات أمسر المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)([6]) .
ولذلك لا نرى عجباً من جنوح معظم علماء العربية إلى كلام أمير البيان وإمام الخطابة علي بن أبي طالب (عليه السلام) في التأسيس لقواعدهم أو للاستشهاد عليها فكلام الإمام إمام الكلام .
سنعمد في هذه العجالة إلى ذكر بعض من المواضع التي استند إليها علماء العربية إلى كلام مولى الموحدين في التأسيس لقواعدهم النحوية، ومن ذلك ما استدلَّ به ابنُ جنِّيّ في دراسته للاشتقاق الأكبر عندما تناول تقليبات مادة (ج ب ر) التي انتهى فيها إلى أنَّها تدلُّ على القوة والشدَّة، واستدلَّ على ذلك بقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، وذلك بقوله: ((ومنه قول عليٍّ صلوات اللّه عليه: إِلَى اللَّهِ أَشْتَكِي عُجَرِي وبُجَرِي, تأويلُه همومي وأحزاني, وطريقُهُ أنَّ العُجرةَ كلُّ عقدةٍ في الجسدِ فإذا كانت في البطنِ والسّرةِ غلظتْ ونتأتْ فاشتدَّ مسُّها وأمرُها))([7]).
ومنه أيضاً ما استدلَّ به محمَّد بن الحسن الصَّائغ، في باب التعجّب، وذلك في جواز حذف المُتعَجَّب منه إذا دلَّ عليه دليل، وقد استشهد لذلك ببيت من الشعر نُسِب للإمام علي (عليه السلام) يمدح فيه ربيعة، وذلك قوله (وأمَّا نحو(أَفْعِل به)؛ فلا يُحْذَف منه المُتعَجَّب منه إلَّا إذا دلَّ على المُتعجَّب منه دليلٌ, وكان المعنى واضحًا عند الحذف؛ ومنه قول عليِّ بن أبي طالب(رضي الله عنه):
جَزَى اللهُ عنِّي والجزاءُ بلُطفِهِ ربيعةَ خيرًا: ما أعفَّ! وأكرمَا!))([8])
ومن تلك الشواهد ما استشهد به رضيّ الدِّين الاسترباديّ(ت686هـ) في الكافية بقوله: ((ولا ريبَ في أنَّ التَّمييزَ في: نِعْمَ, ومَا بعدَه: عن المفردِ، وهو الضَّمير، وأمَّا فيما قبله, أعني من ياله، إلى ويله؛ فينتظر, فإنْ كان الضَّميرُ فيها مُبهمًا لا يُعْرَفُ المَقصودُ منه فالتَّمييز عن المفرد أيضًا كقوله،(كرَّمَ الله وجهه) في نهج البلاغة: "يَا لَهُ مَرَاماً مَا أَبْعَدَهُ"))([9]) .
ومن الشواهد أيضاً على أهمية كلام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في التأسيس للقواعد النحوية ما ذهب إليه ابن عقيل(ت769هـ) في إجازة الفصل بالنداء بين فعل التعجب والفاعل، وذلك في قوله: ((وقول عليٍّ(كرَّم الله وجهه) وقد مرَّ بعمَّارٍ فمسحَ التُّرابَ عن وجهه: أَعْزِزْ عليَّ أبا اليقظان، أَنْ أراكَ صريعًا مُجَدَّلًا))([10]).
هذه بعض الإشارات التي تدلُّ دلالة واضحة على أهمية كلام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في التأسيس لقواعد النحوية، إذ جعل منه العلماء مصدراً ينهلون من معينه الصافي، فهو إمام البلاغة والفصاحة وأعلم أهل زمانه بالعربية كما سبقت الإشارة إلى ذلك . وأخيراً أذكر قول الجاحظ في بيان أهمية كلام أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، وذلك في تعليقه حول حكمة من حكمه (عليه السلام) وهي: ((قيمة كلّ امرئ ما يحسن ))، قال الجاحظ عنها: (( فلو لم نقف في هذا الكتاب إلاّ على هذه الكلمة لوجدناها كافية شافية ، ومجزية مغنية ، بل لوجدناها فاضلة عن الكفاية ، وغير مقصرة عن الغاية ، وأحسن الكلام ما كان قليله يغني عن كثيره وكأن الله تعالى قد البسه من الجلالة وغشاه من نور الحكمة على حسب نية صاحبه ، وتقوى قائله ، فإذا كان المعنى شريفاً ، واللفظ بليغاً ، وكان صحيح الطبع بعيدا من الاستكراه ، ومنزها عن الإخلال مصوناً عن التكلف ، صنع في القلب صنيع الغيث في التربة الكريمة ... ))([11]) .
([1]) المزهر في علوم اللغة وأنواعها: 2/341.
([2]) شرح نهج البلاغة, لابن أبي الحديد: 13/12.
([3]) الأمالي: 288.
([4]) ينظر: إيضاح الوقف والابتداء، لابن الأنباري: 1/43 ، يُنظر: أصول علم العربية في المدينة، عبدالرزاق بن فراج الصاعدي: 1/299.
([5]) المهذب في علم التصريف، هاشم طه شلاش وزميلاه: 12.
([6]) شذا العرف في فن الصرف: 11.
([7]) الخصائص، لابن جني: 2/396.
([8]) اللمحة في شرح الملحة: 1/512 ، يُنظر: توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك: 2/889.
([9]) شرح الكافية:2/60.
([10]) شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك: 3/157 ، ينظر: شرح الاشموني على ألفية ابن مالك: 2/373.
[11])) البيان والتبيين ، الجاحظ : 1/58.
: د. عمار حسن عبد الزهرة
تعليق