ــ تألفت خطبة الزهراء (عليها السلام) من جمل متوازنة من حيث التركيب، وقد حقق هذا التوازن إيقاعًا هادئًا وجميلًا يجعل السامع يحس بمتعة التأثير، إذ أن المعاني التي تضمها الجمل تؤثر في المتلقي فيجتمع المعنى والإيقاع لصالح النص.
إن منهج هذه الدراسة التحليلية في بلاغة وبيان هذه الخطبة الفدكية منهج وصفي تحليلي اعتمدت فيه على وصف الظاهرة في البلاغة ومن ثم تحليلها بغية الوقوف على الأهداف والغايات المتوخاة من وراء هذه الظاهرة, وقد تنوعت مصادر الدراسة لتشمل كتب التراجم والتفسير وكتب البلاغة فضلا عن كتب التاريخ العربي وكتب الحديث النبوي الشريف.
مضامين ودقة في العمق الدلالي
تطورت الخطابة العربية منذ انطلاق بعثة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وقد تفنن البلغاء في فن الخطابة، إثر النهضة الحضارية التي شهدتها الأمة الإسلامية, فقد تطورت الحياة السياسية والاجتماعية وفتحت أبواباً شتى لمخاطبة الجمهور ونشأت في البلاد العربية ضروب مختلفة من الخطب لم تكن معروفة في زمن القدماء, وقد امتازت هذه الخطب باستعمال الأسلوب السهل المرسل الذي كثرت فيه صيغ المخاطبة والاستفهام والتكرير والتعجب والقسم وتقطيع العبارات وبما يناسب نبرات المتكلم والحدث وإشاراته مع الإكثار من الشواهد الموضحة والعبر المؤثرة.
وقد تحدثت الزهراء (عليها السلام) في خطبتها الفدكية عن المعجزات والبراهين الإلهية, فضلا عن هذا كشفت الزهراء ببلاغتها البارعة عن صورة للوضع الجاهلي والظروف التي بعث فيها الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ومن الأفكار الأخرى فكرة التعريض بالمنافقين, وقضية إرث الزهراء, وتؤكد الزهراء على منزلة الإمام علي (عليه السلام) فضلا عن مخاطبة الأنصار كونهم أهل خير وصلاح, وأخيرا أرادت الزهراء استنهاض الهمم من خلال مخاطبة مجموع الناس.
ولاشك أن هذه الخطبة اشتملت على مضامين دينية واجتماعية وسياسية وقد لاحظ بعض الباحثين ان المرأة استطاعت أن تُحقّق نجاحاً كبيراً في هذا الفنّ وبصورة عملية، فجاءت خطبها غايةً في الدِّقّة من حيث العُمْق الدِّلالي والبلاغي، وهذا بديهي كونها كانت (معنية بالخطابة قبل الإسلام وبعده.
ويتّضح ذلك من خلال المرحلة الأولى للدعوة الإسلاميّة)، فإنّنا نجد نصوص خطبٍ لنساء هذه المرحلة قد تضمّنت أحداثاً سياسيّة وتحوّلات اجتماعيّة ومُرتكزات دينيّة بشكلٍ دقيق، ومن خلال تأمّلي بعض خُطب نساء تلك المُدّة ألحظ أنّها كانت تُعبّر عن رأيها، وتعرض ما يختلج في صدرها من أفكار وتطلّعات، وتُدافع عن قضايا وتقوّي دفاعها بأدلّة وبراهين، وتلجأ إلى المنطق في بعض الحالات، وممّا يُلاحظ أيضاً استعمالها للمصطلحات الإسلاميّة الجديدة، والمعاني الراقية التي اكتسبت من الدِّين السمح.
ولا يفوتنا أن نذكر أثر القرآن الواضح على خطبهنّ، والثورة الروحية التي قادها الرسول (صلى الله عليه واله) في اللّغة والأدب، وهذا ما نلمسه واضحاً في خُطبة الخنساء بنت عمرو السلمي مثلاً، حين خرجت تُدافع عن العقيدة وتُجاهد في سبيل الله.
ومن المضامين التي ظهرت من خلال دراسة خطبة الزهراء(عليها السلام) انها كانت طريقة من طرق الإقناع وبما إن الخطاب موجه الى أناس أغواهم الشيطان وغلبت عليهم الأطماع الدنيوية لهذا احتاجت الزهراء إلى هذا الأسلوب البلاغي الرفيع محاولة منها للتأثير وقد دفع ذلك الزهراء (عليها السلام) إلى ان تكشف وبصراحة لهؤلاء القوم أخطائهم وعيوبهم مبينة لهم أن الذي يعيشون فيه ما هو إلا وهم زائل وأنهم بعملهم هذا ينقلبون على أعقابهم بعد هداهم إن كانوا مهتدين.
الدراسة الفنيّة
يعد الحديث عن محور الدراسة الفنية والبلاغية أمر ضروري, وذلك لأن خطبة الزهراء(عليه السلام) تعد نموذجا فريدا للخطب الدينية إذ التزمت فيها الزهراء بالبيان البليغ الذي يأخذ بمجامع القلوب فقد كانت الغاية التأثير في الناس وإحداث الصدمة التي تعيدهم الى الوراء ليميزوا الخيط الأبيض من الخيط الأسود
لقد كانت خطبة الزهراء تمتاز بالأسلوب الواضح الذي يتدرج من حيث الانفعال وإثارة المشاعر أما عن ابرز الظواهر البلاغية التي لاحظها البحث فاذكر منها:
1- ظاهرة التوازن التركيبي:
تألفت خطبة الزهراء(عليها السلام) من جمل متوازنة من حيث التركيب وقد حقق هذا التوازن إيقاعا هادئا وجميلا يجعل السامع يحس بمتعة التأثير.
إذ ان المعاني التي تضمها الجمل تؤثر في المتلقي فيجتمع المعنى والإيقاع لصالح النص ومن أمثلة هذا التوازن قولها عليها السلام كِتَابُ اللهِ النَّاطِقُ، والقُرآنُ الصَّادِقُ، والنُّوْرُ السَّاطِعُ، والضِّيَاءُ اللامع).
2- ظاهرة التضمين القرآني :
أثر القرآن الكريم في نفوس المسلمين وهذا التأثير دفع المؤمنين الى التحقق في النص القرآني ومحاولة محاكاته في الخطب والكلام وهذا ما ظهر جليا في خطبة الزهراء (عليها السلام) نحو اقتباسها: (فأتقوا الله حق تقاته ولا تموتن الا وانتم مسلمون ), واقتباسها لقوله تعالى إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ)(فاطر 28.
إن استعمال الزهراء (عليها السلام) للتراكيب والمعاني القرآنية واضح كل الوضوح, فقد تجسد التأثير القرآني في خطبتها, وهذا دليل على شدة تأثرها عليها السلام بالثقافة القرآنية.
وقد لاحظ بعض الباحثين أن خطبة الزهراء(عليها السلام) امتازت بأسلوب حاول أن يُفيدَ من القرآن الكريم من حيث الدِّقّة والوضوح والسّمو في المضمون، وكذلك أفاد من المنهج المنطقي في الكلام، والاحتجاج بالأدلّة والبراهين، والاطراد في الإتيان بالأحكام الشرعية، والاقتباس من القرآن الكريم على وفق ما يناسب الخطبة من حيث المضمون، حتّى جاءت اقتباساتها مُتناسقة مع الخطب، وهذا ما أكسبها روعة واضحة، ممّا أدّى إلى أن تتحول هذه الخطب إلى عطاءات مثمرة وداعية للتأمّل.
3- ظاهرة التقديم والتأخير:
اهتم النقاد والبلاغيون بهذه الظاهرة البلاغية المهمة لأن لها دلالة كبيرة لكون التقديم والتأخير يفيد التأكيد والاختصاص والسيدة الطاهرة (عليها السلام) كانت تهدف الى تأكيد المعنى في نفوس المسلمين ومن الأمثلة على ذلك قولها ( فمحمد من تعب هذه الدار في راحة ), وقولها في وصف كتاب الله (كتاب الله الناطق… بينة بصائره منكشفة سرائره) ومن الأمثلة الأخرى قولها قائدا الى الرضوان أتباعه, مؤد الى النجاة استماعه),(أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)؟!… أَفَعَلَى عَمدٍ تَرَكتُم كِتَابَ اللهِ وَنَبَذْتُمُوهُ)(المائدة 50).
وقد قدّمت الخطيبة (عليها السلام) (أفحكم الجاهلية يبغون) فإنها لو قالت (يبغون حكم الجاهليّه) نلاحظ الفرق الدقيق بين المعنيين المستفادين من أسلوب الاستفهام المقدم أي أنهم يهدفون الى إرجاع الناس الى الوراء من خلال سلوك حكم الجاهلية وطمس المنجزات الكبيرة التي حققها النبي (صلى الله عليه وآله) برسالته العظيمة اذ الغرض هو التوبيخ والتقريع، فضلاً عن الفائدة التي حققها التعجب الاستنكاري.
أما قولها الآخر فأصل الكلام فيه (أفتركتم كتاب الله على عمدٍ)إن هذا التقديم والتأخير افاد التخصيص والتأكيد على فعل العمد في ترك كتاب الله وأن هذا الترك كان مقصودا من القوم في حين لو أرجعنا الكلام الى أصله نلاحظه ينصب على التركيز بغض النظر عن كون هذا الترك جاء عمدا أم عن غير عمد .
4- أسلوب الكناية:
تعارف أهل البلاغة على أن الكناية أبلغ من التصريح، ذلك لأن الكناية توصل الى المعنى بطريقة الإيحاء غير المباشر مما يدعو المتلقي الى التأمل والتفكر في النص وفي خطبة الزهراء (عليها السلام)وردت مجموعة من الكنايات وفي مواضع متعددة فمرة نجدها تستعمل أسلوب الكناية في وصف المنافقين بصفات مذمومة الهدف منها تصوير قبح أعمالهم نحو قولها: (خرست شقاشق الشيطان وطاح وشيظ النفاق)، وهي كناية عن خمود جذوة الشر وذلك لان الشر أمر مستهجن، واستشهادها (عليها السلام) بقوله تعالى: (وكنتم على شفا حفرة من النار)(آل عمران 103، هي كناية عن ضعفهم وقلتهم.
فضلا عن هذا استعملت الزهراء (عليها السلام) أسلوب التعريض في قولها: (وفُهتم بكلمة الإخلاص مع النفر البيض الخماص الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا) فقولها فهتم أي تلفظتم، وفاه بالكلام لفظ به، وكلمة الإخلاص : كلمة التوحيد، وفيه تعريض بأنه لم يكن إيمانهم عن قلوبهم، والبيض جمع أبيض وهو من الناس خلاف الأسود، والخماص بالكسر, جمع خميص ووصفهم أي أهل البيت بالبيض لبياض وجوههم, او هو من قبيل وصف الرجل بالأغر, وبالخماص لكونهم ضامري البطون بالصوم وقلة الأكل, او لعفتهم عن أكل أموال الناس بالباطل.
لقد ظهر استعمال الزهراء(عليها السلام) للكناية أكثر من غيرها و يبدو أن السبب وراء ذلك هو أن الكناية لها محاسن عديدة لا يصل إليها الا كلّ بليغ متمرس لطف طبعه وصفت قريحته فضلا عن هذا إن الكناية في صور كثيرة تعطيك الحقيقة مصحوبة بدليلها والقضية في طبعها وبرهانها وقديما رأى عبد القاهر الجرجاني ان الكناية أبلغ من الإفصاح والتعريض أوقع من التصريح.
5-الرمز والإيحاء:
استعملت الزهراء (عليها السلام) أسلوب الإيحاء والرمز في خطبتها الغراء، لأن النص مجموعة من العلامات والإشارات التي تضيء للقارئ ظلمته، والخطيب إنما يتعامل مع هذا النوع من العلامات لتوطيد العلاقة بين المتلقي والنص، لأن القوانين الاجتماعية تفرض نوعا من التخاطب المشفر عبر علامات يتم الاهتداء بها ( لأن الشفرة تملك خاصية إبداعية متفردة، فهي قابلة للتجدد والتغير والتحول، حتى وإن ظلت داخل سياقها).
ومن الأمثلة التي تؤكد استعمال الزهراء(عليها السلام) لهذا النوع من الإيحاء قولها مذقة الشارب، ونهزة الطامع وقبسة العجلان وموطيء الأقدام)، فقولها مذقة الشارب إشارة الى تصغير أمرهم, والنهزة الفرصة تريد انّ كل طامع كان قادرا عليكم وكنتم عنده فرصة ينتهزها أي يغتنمها, وكل هذه الكلمات تشير الى ذلَهم قبل ان أعزهم الله بالإسلام, وفي البحار: القبسة شعلة من نار يقتبس من معظمها والإضافة الى العجلان لبيان القلة والحقارة.
6-أسلوب الاستعارة:
عرف البلاغيون الاستعارة بأنها تشبيه بليغ حذف أحد طرفيه، فالاستعارة تحتاج الى نوع من التأمل في النص بسبب خفاء هذا الفن البلاغي أيّ أن بلاغة الاستعارة تحتاج الى هذا النوع من التحليل والقراءة وقد استعملت الزهراء (عليها السلام) الاستعارة في قولها وهي تصف النبي الأكرم مائلا عن مدرجة المشركين ضاربا ثبجهم آخذا بأكظامهم) وقولها : (وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه), فقد شبهت الشيطان بحيوان.
لقد اتخذت الزهراء (عليها السلام)من أسلوب الاستعارة طريقا الى القول الجميل والخيال المثير والعاطفة الفياضة والفكر المحلق فبالاستعارة استطاعت الزهراء (عليها السلام) أن تجسد المعنوي حتى يغدو كتلة من عالم المحسوسات تراه العين وتسمعه الأذن ويشمه الأنف ويتذوقه اللسان وبالاستعارة ترتفع الأجسام الى المعنوي ويتحول الظاهر للعيان خفيا تطلع عليه النفس انظر الى قولها الشريف (واستقر الحق عن محظه، ونطق زعيم الدين, وخرست شقاشق الشيطان وطاح وشيظ النفاق، وانحلت عقد الكفر والشقاق).
يقول القاضي النعمان: وقولها: خرست شقاشق الشيطان: الخرس ذهاب الكلام وذهاب الصوت من الشيء، يقال منه: كتيبة خرساء : إذا لم يسمع لها صوت ولا جلبة، والشقاشق: جمع شقشقة، وهي التي يغطى بها البعير، وتخرج من شدقيه اذا هدر، وإذا نحر لم توجد كذلك، وإنما هي لحمة في آخر فيه تنتفخ اذا هاج وتمتد حتى تخرج من حلقه فاذا سكن انفشت والناقة تهدر ولا تغط فضربت لذلك مثلا لصولة الكفار وانقطاعها برسول الله (صلى الله عليه واله) لقد استعارت الزهراء هذا التعبير للخطيب، لأنهم اذا قالوا للخطيب ذو شقشقة فإنما يشبه بالفحل, وإسناد الخرس إلى الشقاشق مجازي.
7-أسلوب الاستفهام:
شكل أسلوب الاستفهام ملمحا بلاغيا بارزا في خطبة الزهراء(عليها السلام) وذلك لأن الزهراء استعملت هذا الأسلوب في مواضع التوبيخ والاستنكار ونحن نعلم أن الاستفهام المجازي لا يحتاج الى جواب لأنه ليس من قبيل طلب حصول الفهم وكما ذهب الى ذلك أصحاب البلاغة.
لقد كانت الزهراء(عليها السلام) تراعي في خطابها حالة المتلقي وموقفه إزاء ما يستمع من خطبة بليغة فقد استفهمت في قولها (أو لست أنا وأبي من أهل ملة واحدة ؟) وقولها في موضع آخر من الخطبة (فإني… وأسررتم بعد الإعلان ؟ وأشركتم بعد الإيمان ؟).
8- ظاهرة السجع أو الفاصلة :
لاشك في أن الفاصلة توفر نمطا موسيقيا له تأثيره في المتلقي خاصة عندما يكون الكلام إنشادا ويكون الاعتماد فيه على السمع ذلك لأن الأذن تتأثر بالكلام الذي يأتي منسجم الفقرات يشتمل على نهايات متوافقة الحروف تامة المعنى لاحظ قولها (ثم جعل الثواب على طاعته ووضع العقاب على معصيته ذيادة لعباده من نقمته وحياشة لهم الى جنته).
أ.م.د حسين لفتة حافظ
تعليق