الإمام (ع) يضع مقياساً أوسع نطاقاً وأعمق غوراً وأكثر إنسانيةً وأقرب للعدالة والإنصاف، كما أنه أكثر مرونة، إضافة إلى أنه يتميز على كافة تلك المقاييس بأنه مقياس للتنمية بينما تشكل تلك المقاييس بالأساس مقياس النمو. مقياس مزدوج، يتكوّن من ركنين: استصلاح الناس وعمارة البلاد (اسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا)، (عِمَارَةَ بِلَادِهَا)...
تشكّل نصوص الإمام علي (عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر حينما ولّاه حكومة مصر، المدخل والمفتاح الرئيس للإحاطة بمنظومة فكرية وقيمية متكاملة تعكس المبادئ والمنطلقات والأسس العامة للتنمية الاقتصادية، البشرية، البيئية والمستدامة في منهجه (عليه السلام)، وتلقي الضوء الكاشف على مقوماتها وأركانها، وعلى الرغم من أن كلماته (عليه السلام) لم تتضمن مفردة التنمية كمصطلح، إلا أن تعبيراته تمتلك طاقة فريدة على ضبط إيقاع مسيرة التنمية وحركتها، وعلى التأشير على حقيقتها ومقوماتها بوضوح الدلالة، ونطق المادة والهيئة كما سيظهر، كما تكشف كلمات أخرى له (عليه السلام) في العهد نفسه عن ترابطاتها والعلائق بين أركانها.
بين مقاييس النمو ومقياس التنمية
فقد قال (عليه السلام): (هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الْأَشْتَرَ، فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ حِينَ وَلَّاهُ مِصْرَ: جِبَايَةَ خَرَاجِهَا، وَجِهَادَ عَدُوِّهَا، وَاسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا، وَعِمَارَةَ بِلَادِهَا)(1)، كما قال (عليه السلام): (وَتَفَقَّدْ أَمْرَ الْخَرَاجِ بِمَا يُصْلِحُ أَهْلَهُ)(2).
ومن المعروف في بحوث (التنمية الاقتصادية) أن علماء الاقتصاد وضعوا مؤشرات مختلفة كمقاييس للتنمية، نظير: زيادة متوسط دخل الفرد أو دخل الأسرة أو الدخل الإجمالي، أو زيادة حجم الإنتاج والناتج المحلي الإجمالي أو الناتج القومي الإجمالي، أو زيادة إمكانيات الناتج الإجمالي، أو زيادة حجم الاستهلاك الكلي(3).
لكنّ الإمام (عليه السلام) يضع مقياساً أوسع نطاقاً وأعمق غوراً وأكثر إنسانيةً وأقرب للعدالة والإنصاف، كما أنه أكثر مرونة، إضافة إلى أنه يتميز على كافة تلك المقاييس بأنه مقياس للتنمية بينما تشكل تلك المقاييس بالأساس مقياس النمو.
والمقياس الذي وضعه الإمام (عليه السلام) مقياس مزدوج، يتكوّن من ركنين:
ركنا التنمية: استصلاح الناس وعمارة البلاد
الركن الأول: (اسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا)، كهدف وضابط عام للتنمية البشرية، ولكنه يشمل، في الوقت نفسه وبإطلاقه، التنمية الاقتصادية أيضاً، كما سيأتي.
الركن الثاني: (عِمَارَةَ بِلَادِهَا)، كهدف وضابط عام للتنمية الاقتصادية والبيئية.
ولم يقتصر (صلوات الله عليه) على ذلك، بل أشّر على الآليات والسياسات التي تتكفل بالوصول إلى ذلك وأهمها:
أولاً: السياسة المالية المناسبة، والتي قد تكون توسعية(4) عبر خفض الضرائب والخراج، وعبر زيادة الإنفاق على البنى التحتية والدفعات التحويلية، وعبر السياسة المالية الشعبية التوسعية، كما فصّلنا ذلك كله في الكتاب السابق وهذا الكتاب، وقد تكون متشددة، كما أشرنا إليه في إحدى البحوث.
وثانياً: اللوائح التنظيمية الميسّرة، بل تلك التي تطلق العنان لاقتصاد السوق مع قيد واحد فقط، وهو منع الاحتكار، كما فصّلناه عند تناول قوله (عليه السلام): (ثُمَّ اسْتَوْصِ بِالتُّجَّارِ وَذَوِي الصِّنَاعَاتِ...).
وثالثاً: بتمتين العلاقة بين الحكومة والأمة، عبر إقرار منهج متطور يبتني على الحكم بالرأفة والرحمة، والمحبة والشفقة، زائداً على العدل والإحسان، كما فصّلناه في بعض بحوث هذا الكتاب، وبذلك يتكفل (عليه السلام) باستنهاض الطاقات الكامنة في الأمة للمساهمة الفعالة الإيجابية في مسيرة التنمية باعتبار الأمة هي الذخيرة الكبرى والثروة العظمى التي توفر الوقود الاستراتيجي للتنمية الشاملة.
رابعاً: تحصين منجزات الأمة عبر جهاد العدو الداخلي والخارجي، أما الداخلي فهو الذي يتجسد في الفساد المالي والإداري، وسيأتي تفصيله في بحث آخر(5)، وأما الخارجي فيتمثل في جهاد العدو المهاجم والغازي الغاشم، والذي يلفت الأنظار أنّ الضمير في قوله: (جِهَادَ عَدُوِّهَا) يعود إلى مصر(6) مما يعني عدو الوطن والبلاد الذي يستهدف أمنها واستقرارها أو ثرواتها واقتصادها وشبه ذلك.
فالتنمية إذاً ليست عملاً اقتصادياً فحسب، ولا هي عملية كمّية، بل هي عمل نهضوي إنساني ـ اجتماعي ـ اقتصادي يستهدف حياة أهلها بالاستصلاح، ونواحي بلادها بالإعمار، وهي عملية شاملة تعمّ كافة المستويات وتنهض بمختلف الجهات.
مقارنة بين الاستصلاح والعمران وبين التنمية
1- الشحنة القيمية
إن التعبير بـ (اسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا) يتفوق على التعبير بـ (التنمية البشرية)، بأن الشحنة القِيمية في (الاستصلاح) أقوى بكثير من الشحنة القيمية في (التنمية)، كما أنه يتميّز عليها بأن (الصلاح) بمشتقاته كالإصلاح والاستصلاح، مفهوم فطري يدرك الناس كافة حُسنَهُ وروعتَهُ وحتى ضرورته، ولا فرق في ذلك بين مسلم ومسيحي ويهودي وبوذي وهندوسي، وموحِّد وملحد، وعالم وجاهل، وحضري وبدوي، فهو، كمفهومٍ، يتميز بوضوحه وفطريته وعمومية التفاعل معه، إذ هو من القضايا التي برهانها معها، وعليه: لا يمكن أن ينكره إلا مكابر، عكس مفهوم (التنمية) الذي لا يفهمه إلا أهل الاختصاص ومن قاربهم من ذوي الاهتمام، والذي لا يزال علماء الاقتصاد يتناقشون حول تحديد المراد منه بالضبط وحول فوارقه عن النمو مثلاً!.
2 ـ الموضوعية والطريقيـة
و(عِمَارَةَ بِلَادِهَا) تتميز بكونها ذات بُعدين: فهي في حد ذاتها تنمية، كما أنها الطريق إلى التنمية أيضاً، فعمران المدن والزراعة مثلاً تشكلان لوناً من ألوان (عمارة بلادها)، فهما نوع من التنمية، كما أنهما الطريق للتنمية الصناعية والتجارية والخدماتية والسياحية، كما أوضحناه في مكان آخر، فـ (عمارة البلاد) تتميز على (التنمية الاقتصادية) في أنها تشير إلى السبب التكويني ـ الفطري والطبيعي للتنمية الاقتصادية، سواء أعرفنا هذه التسمية أم لا، بل سواء أوجد هذا المصطلح أم لا، أما (التنمية الاقتصادية) فهي مفهوم مجرد عن تحديد البوصلة التي تشير إلى الطريق السالكة إليها، وقال بعض الباحثين: (لقد اهتم الإسلام بالتنمية وأعطاها معنى أعمق من ذلك وهو (العمارة) واعتبرها عبادة لله تعالى وجعلها من واجبات الاستخلاف. قال تعالى: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فيها)( 7)، أي طلب منكم عمارتها. ويقول الجصاص: "إن في هذه الآية دلالة على وجوب عمارة الأرض للزراعة والأبنية". ويقول القرطبي: "إن فيها طلب العمارة، والطلب المطلق من الله تعالى يكون على الوجوب"(8). وعمارة الأرض بهذا المفهوم تسعى لخلق مجتمع المتقين الذي يستخدم الموارد المسخرة له في التمتع بمستوى معيشي طيب مع استشعار تقوى الله في ذلك.
ولقد استخدم المسلمون الأوائل لفظ (عمارة الأرض) للدلالة على التنمية الاقتصادية، ونادى المفكرون منذ صدر الإسلام بعمارة الأرض، ولقد جاء ذلك في كتاب الخلفاء إلى الولاة عندما كتب الإمام علي (عليه السلام) إلى واليه في مصر: (وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، من طلب الخراج من غير عمارة أخرب البلاد). فكلما كان هناك توسع في عمارة الأرض ازداد النشاط الإنتاجي بكافة صوره وزاد الدخل المتولد عنه. فمفهوم التنمية في الإسلام يظهر من خلال الهدف من التنمية، حيث ينحصر هدف التنمية في الإسلام في تحقيق مقاصد الشريعة الخمس، وهي حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال. وتحقيق العدالة الاجتماعية لكافة أفراد المجتمع الإنساني من خلال التوزيع العادل للموارد).
ثم ينقل عن ابن خلدون (في شرح مفهوم عمارة الأرض حينما تطرق إلى العمران فجعله معتمدًا بصفة ضرورية على متغير السكان في أي بقعة من الأرض، فكلما ازداد عدد الساكنين كلما ازداد العمران، والعكس صحيح، فالسكان يسعون بطبيعتهم إلى إشباع حاجاتهم من مأكل ومشرب وملبس ومسكن. وبالتالي فإنهم يفلحون الأرض ويقيمون الصناعات المختلفة ويشيدون المباني. وحيث يتعاون السكان ويقتسمون الأعمال فيما بينهم يحصلون من جراء مجهودهم الانتاجي على أكثر من كفايتهم بكثير. ثم جعل ابن خلدون العمران معتمدًا بالإضافة إلى إعداد السكان على آمالهم، والتي تتوقف على المناخ السياسي والاقتصادي السائد في المجتمع، فإذا كانت الدولة متسامحة مع الرعايا وتقتصر في جباية الأموال على الواجبات الشرعية مثل الزكاة، انبسطت آمال الرعايا وازداد نشاطهم الإنتاجي واتسعت الأسواق وازدادت المكاسب.
والعكس بالعكس، إذا طغت الدولة وأسرفت في جمع الضرائب من الناس بالإضافة إلى الجباية الشرعية، بل وقد تزاحم الناس في نشاطهم الخاص حينئذ يحدث الخراب الاقتصادي.
ومن هنا يمكن تعريف التنمية الاقتصادية بأنها هي: "مجموع الأحكام والقواعد والوسائل الشرعية المتبعة لعمارة الأرض إشباعًا لحاجات المجتمع الانساني الدنيوية والأخروية وتحقيقا لعبادة الله تعالى")(9).
أقول: فصّلنا في كتاب (مقاصد الشريعة ومقاصد المقاصد) الكلام عن كلا النوعين من مقاصد الشريعة، وأوضحنا أن المقاصد الخمسة مندرجة تحت مقصد أسمى، فليراجع.
3 ـ شمولية المساحة
وعند التدبر أكثر في ذينك الركنين نكتشف أنهما لا يشكّلان فقط المكافئ الموضوعي لمفهومي التنمية البشرية والاقتصادية؛ بل يزيدان عليهما باختزانهما لشحنة قيمية مفهومية أعمق وأشمل، إذ أن قوله (عليه السلام): (اسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا) يشمل (التنمية البشرية والإدارية والمجتمعية والسياسية ونظائرها) كما يغطي أيضاً مساحات (التنمية الاقتصادية) أيضاً، إذ لا يمكن استصلاح أهلها إلا بإصلاح أوضاعهم الاقتصادية كذلك، إذ يقول الإمام علي (عليه السلام): (الْفَقْرُ سَوَادُ الْوَجْهِ فِي الدَّارَيْنِ)(10)، و: (الْفَقْرُ هُوَ الْمَوْتُ الْأَكْبَرُ)(11)، بل نقول: إن استصلاح أهلها يشمل بإطلاقه، وليس بجهة المقدمية فقط، استصلاح حالتهم الاقتصادية أيضاً، وأما قوله (عليه السلام): (وَعِمَارَةَ بِلَادِهَا) فيشمل (التنمية الاقتصادية) و(التنمية المستدامة) وعمران البلاد أيضاً.
ولقد توصلت أحدث الآراء في التنمية الاقتصادية في دراساتهم الحديثة إلى وضع النقاط على الحروف بالتأشير على المكونات الأساسية للتنمية، لكن الملاحظ بقوة أنها لا تخرج عن الإطار الذي وضعه الإمام (عليه السلام) وهو: (وَاسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا وَعِمَارَةَ بِلَادِهَا)، على أن هذا الإطار يشكّل ضابطاً مرجعياً يستوعب جميع مقوِّمات التنمية وأركانها، كما يمتلك طاقة ذاتية طاردة لكل مكوّن دخيل مفسد للعملية التنموية حيثما اصطدم بعنوان (اسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا) أو (عِمَارَةَ بِلَادِهَا).
المكونات الأساسية للتنمية، بحسب تودارو
ونجد الشاهد على ذلك عندما نستعرض ما ذكره أحد أشهر علماء التنمية الاقتصادية إذ يقول:
(ولكننا نتفق مع جوليت وآخرين في أنه على الأقل هناك ثلاثة مكونات أساسية أو قيم جوهرية والتي يجب أن تقوم بالدور الأساسي الخاص بالمفاهيم والدليل العملي من أجل فهم المعنى الداخلي للتنمية. هذه القيم الجوهرية هي: 1 ـ المساندة، 2 ـ الإباء وعزة النفس، 3 ـ الحرية (من الرق)، وهي تمثل أهدافاً مشتركة منشودة من قبل الأفراد والمجتمعات. أنهم ذوو علاقة باحتياجات البشر الأساسية والأولية الذين يجدون تعبيرهم تقريباً في كل المجتمعات والثقافات في كل الأوقات. فلنفحص كل واحدة منهم على حدة:
الغذاء، المسكن، الصحة والحماية
أ ـ القدرة على العيش: بمعنى القدرة على سد الحاجات الأولية، فجميع البشر لديهم احتياجات أساسية معينة والتي بدونها تصبح الحياة مستحيلة.
تتضمن هذه الحاجات الأساسية المدعمة للحياة الغذاء، المسكن، الصحة والحماية. وفي حالة غياب أحد هذه الأشياء أو هناك عجز في العرض، فإن هناك حالة تسمى بالتخلف الحضاري المطلق وتكون موجودة في هذه الظروف.
لذا فإن وظيفة أي نشاط اقتصادي، أن يمد الناس، على قدر المستطاع، بالوسائل التي يستطيعون بها التغلب على عدم المساعدة والمأساة الناجمة عن غياب ونقص الطعام والغذاء والمسكن، والصحة والحماية. إلى هذا الحد نستطيع أن نقول: إن التنمية الاقتصادية شرط ضروري لتحسين جودة الحياة. أي التنمية بدون تقدم اقتصادي مستمر وموثق على المستوى الشخصي والمستوى المجتمعي، فإن إدراك الإمكانية البشرية قد لا يكون ممكناً. إن المرء يجب أن يمتلك الكفاية حتى يستطيع أن يمتلك الأكثر. إن تحقيق متوسط دخول الفرد المرتفعة، وإزالة الفقر المطلق وفرص عمالة أكبر، وتقليل عدم المساواة في الدخول، كل ذلك يشكل الشرط الضروري ولكنه ليس الكافي من أجل تحقيق التنمية.
وكوسيلة بديلة للتحدث بشكل أكبر، فإن نفس الشيء قد أثير في تقرير التنمية البشرية الخاص بالأمم المتحدة الصادر عام 1994م. وقد أكد التقرير في الفصل الافتتاحي على الآتي: "لقد خلق الجنس البشري بإمكانيات محتملة معينة. ونجد أن الغرض من التنمية هو خلق بيئة يستطيع فيها جميع الناس توسيع قدراتهم وإمكانياتهم، والقدرة على توفير فرص أكبر للأجيال الحاضرة وأجيال المستقبل")(12).
تقييم ومقارنة
ولنبدأ بتقييم ما ذكر في هذا الكتاب ثم نشفعه بالمقارنة: فإنّ (الحاجات الأساسية المدعمة للحياة) بحسب تعبيره، لا تقتصر على (الغذاء، المسكن، الصحة والحماية) فقط، بل تشمل أموراً أخرى أساسية للإنسان كـ: بناء الأسرة وتكوين اللبنة الأولى في الحياة، فإن إشباع الحاجات النفسية والجنسية عبر توفير (عش الزوجية السعيدة) حاجة أساسية للإنسان ولصلاحه وإصلاحه وإصلاح المجتمع، خاصة وأن تكوين الأسرة حاجة سيكولوجية ـ بيولوجية أيضاً، بل يمكن أن نعدها أول لبنة وأهم عنصر في التنمية المستدامة، إذ تتوقف الحياة بأكملها عليها، ومع ذلك أهملتها تلك الفقرة، وفي المقابل فإن النص العلوي: (اسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا)، يشمل ذلك ويعمّه بوضوح، إذ هل يعقل استصلاح أهلها بدون توفير القدرة على بناء الأسرة؟
كما أن من الحاجات الأساسية الأخرى التي أغفلتها تلك الفقرة: (الترفيه السليم والاستجمام)، فإن الراحة والترفيه السليم أمور ضرورية للحياة السعيدة ولخفض / تصفير التوتر التي يعد أساسياً لتحقق الطمأنينة النفسية ولإقرار السلم المجتمعي ولبناء الأسرة السعيدة، بل هي عنصر أساسي في زيادة الإنتاجية والمقدرة على الإبداع والإنجاز والتطوير سواء في الحقل الاقتصادي أم غيره.
وذلك كله مما يشمله العنوان والضابط العام الذي وضعه الإمام (عليه السلام) وهو: (وَاسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا).
تقدير الذات
وقال: (ب ـ تقدير الذات واحترامها: كي تكون شخصاً معيناً عزيزاً وأبياً وتمتلك الثقة.
ويعد الإباء وعزة النفس المكون الثاني الشامل لمكونات الحياة الجيدة، ويعني الإحساس بالأهلية واحترام الذات، والشعور بأنك لست أداة يستخدمها الآخرون من أجل مصالحهم الخاصة. وتسعى كل الشعوب وكل المجتمعات من أجل صيغة أساسية أو بشكل أساسي لعزة النفس، وذلك بالرغم من أنهم يدعونها الموثوقية، الهوية، الاحترام، الشرف، والإقرار والاعتراف بوجود إنسان معين)(13).
التقييم: والغريب أن المؤلف يتحاشى ذكر (الإيمان بالله تعالى) كمكوّن أساسي من مكونات الهوية إلى جوار ما سرده من مفاهيم الشرف، الاحترام، الإباء وعزة النفس، كما يتحاشى ذكر الانتماء إلى إحدى الأديان مع أنه لدى أكثر البشر يعد مقوّماً أساسياً من مقوّمات تقدير الذات واحترامها وعزتها، وذلك في مقابل النص العلوي بعنوانه الفطري ـ العقلاني القيمي الواضح: (وَاسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا)، فإن استصلاحها يتم عبر تحريرها من الخرافة وتعريفها على الحقائق الغيبية والإله الواحد الأحد، وبعد ذلك: (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ)(14)، إذ: (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)(15).
الحريـة
و(ج ـ الحرية من الاستعباد: أن يكون لك الحق في الاختيار.
القيمة الثالثة الشاملة والأخيرة والتي نفترض أنه يجب أن تُكوِّن معنى التنمية، هي: فكرة الحرية البشرية، ويجب أن نفهم الحرية في هذا الصدد في إطار العتق والتحرير من التنازل عن الشروط المادية في الحياة، والعتق من الرق الاجتماعي إلى الطبيعة والجهل ونظرة الشعوب الأخرى، والبؤس والمؤسسات غير السليمة والمعتقدات الخاطئة)(16).
مديات الإصلاح ونطاقاته
ومع قطع النظر عن تناول النصوص الدينية والعلوية لجميع المفردات السابقة التي استعرضها هذا الباحث ضمن سرده للقيم الجوهرية الثلاث، والتي سيجدها القارئ الكريم موزعة في ثنايا هذا الكتاب والكتاب السابق، مع قطع النظر عن ذلك وإضافةً إلى ذلك، فإن: (وَاسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا) بضميمة: (عِمَارَةَ بِلَادِهَا) يشكل العنوان العريض الذي يستبطن الإشارة إلى ذلك كله. وذلك أننا نجد في (اسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا) و(عِمَارَةَ بِلَادِهَا) دليلاً ومرآةً ومرشداً إلى جميع ما يوصل المجتمع إلى أقصى درجات السعادة والرفاهية، توضيح ذلك:
الأمن، السلم، الصحة، السكن و...
إنّ (اسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا) يشمل، بمنطوق دلالات مادته، وبقرينة التقابل مع ضده، الأمور التالية: توفير الأمن الاجتماعي، والسلم المجتمعي، توفير الرعاية الصحية والوقائية، والأمن الغذائي ومختلف أنواع الخدمات، والسكن المناسب بالسعر المناسب، وتوفير فرص العمل لهم، وفرص الزواج الكفؤ، والقدرة على رعاية الأطفال والأسرة بالرعاية اللائقة. كما يشمل: تحقيق العدالة بين الأشخاص والأسر والقبائل والمناطق والشعوب، إضافة إلى تحقيق الشورى والمشاركة الشعبية في الحياة السياسية وفي التخطيط للتنمية، وتوفير الكفاءات الإدارية لإدارة المشروعات بنجاح. والحاصل: أن (اسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا) لا يقتصر معناه على إصلاح أمرهم اقتصادياً فحسب، بل يتسع نطاقه ليشمل مختلف أنواع الإصلاح.
ويمكن الاستدلال على ذلك بوجهين أشرنا لهما إجمالاً وهما:
الأول: الاستدلال استناداً إلى علاقة التضاد والتقابل، فإن الإصلاح ضد الإفساد، كما أن الصلاح ضد الفساد، قال تعالى: (وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبيلَ الْمُفْسِدينَ)(17)، وحيث إن الأضداد كلها فساد، فما يقابلها صلاح وطلبه استصلاح(18).
الثاني: الاستدلال على شمولية مفهوم: (اسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا) لكل ذلك، بوضوح صدق (الاستصلاح) عرفاً وبالحمل الشائع الصناعي على ذلك كله، إذ الاستصلاح من باب الاستفعال فهو طلب صلاح أهلها، ولا شك أن صلاح أهلها يكون بتوفير جميع نقاط القوة السابقة ونظائرها.
الرعاية الاجتماعية والتغيير الاجتماعي
ومن ذلك نستنبط أن قوله (عليه السلام): (اسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا)، يشمل كافة اتجاهات التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي أشار إليها بعض علماء التنمية، وهي متدرجة من الإطار الضيق إلى الإطار الواسع، ومن الرعاية في أدنى درجاتها إلى التعهد والتكفل بأعلى درجاته، وهي كالآتي:
أولاً: التنمية بالمعنى الضيق للرعاية الاجتماعية Social care، والمراد بها(19) لمسات الحنان مع تقديم الأقل فالأقل من الخدمات الضرورية.
ثانياً: التنمية بالمعنى الواسع للرعاية الاجتماعية، والمراد بها تقديم تشكيلة واسعة من الخدمات الاجتماعية social services، كالتعليم والتدريب والتأهيل والخدمات الصحية وتوفير المسكن المناسب والغذاء الملائم وشبه ذلك.
ثالثاً: التنمية بالمعنى الأوسع، التي يراد بها التغيير الاجتماعي Social change، والاقتصادي Economic change، الذي يمس الأعماق والجذور والبنية التحتية الاقتصادية وشبكة العلاقات الاجتماعية وغيرها ويقوم بـ (عمليات تغيير اجتماعي Social Change، تلحق بالبناء الاجتماعي ووظائفه بغرض إشباع الحاجات الاجتماعية للفرد والجماعة، بمعنى أنها عملية تغيير اجتماعي لكافة الأوضاع التقليدية من أجل إقامة بناء اجتماعي جديد ينبثق عنه علاقات جديدة وقيم مستحدثة تشبع رغبات وحاجات الأفراد وتطلعاتهم، ولا يتم ذلك إلا عن طريق دفعة قوية لإحداث تغيرات كيفية ولإحداث التقدم المنشود (عبد الباسط محمد حسن: 1970م؛ إسماعيل حسن عبد الباري: 1987م؛ محمد شفيق: 1994م)(20).
وهذه الدرجات كلها مشمولة بقوله (عليه السلام): (اسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا)، لكن المهم التأكيد مرة أخرى على أنها، بحسب هذا النص الصادر من الإمام (عليه السلام) مؤطرة بإطار الصلاح والإصلاح، وعليه يبتني أنّه ليس (كل تغيير اجتماعي لكافة الأوضاع التقليدية) صلاحاً وإصلاحاً، إذ ليست كل الأوضاع التقليدية سلبية، ولا كل تغيير إيجابياً، وقد مضى إيضاح لذلك في فصل سابق(21).
تعليق