الحجاج من الحجة وهي ((البرهان وقيل الحجة هي ما دفع به الخصم، وقال الازهري الحجة الوجه الذي يكون به الظفر عند الخصومة، وحاجه محاججة وحجاجا، نازعه الحجة وهو رجل محجاج أي جدل والتحاج والتخاصم وجمع الحجة: حجج وحجاج وحجة يحجه حجا غلبه)) (5)، فالبرهان والجدل والظفر بهذا الجدل هي المقاييس الاساسية التي يقوم عليها هذا المفهوم، وغايتها جميعا اقناع المتلقي بالمفاهيم والاطر التي يؤمن بها الباث ولكنه اقناع لا يستلزم القوة او العداوة بل يتطلب وسائل اخرى منها الاستدلال والتعليل والاستعانة بالأخبار والمواقف السابقة، وما جادت به المخيلة من اثار لروائع الكلام.
فالحجاج يحدد بحسب شروطه السياقية أو استعماله التخاطبي المتمثل في التفاهم والتنازع والجدل والغلبة بعدها عمليات محددة مؤطرة بمعانيها الفكرية والتواصلية (6) وهذا المفهوم نراه نفسه يعود حديثا فيعرفه بيرلمان بأنه ((جملة من الاساليب تضطلع في الخطاب بوظيفة حمل المتلقي على الاقناع بما تعرضه عليه أو الزيادة في حجم هذا الاقناع معبرا أن غاية الحجاج الاساسية إنما هي الفعل في المتلقي على نحو يدفعه إلى العمل أو يهيئه للقيام بالعمل)) (7).
ولكن هذا الاقناع يرتبط ارتباطا وثيقا بالمتلقي فهو رهن لمشيئته الامر الذي يفرض الزاما على الباث ان يغير من الشكل او الاسلوب الذي انتجت فيه الرسالة او العمل في كل مرة، تبعا لطبيعة ومقام المخاطبين (8)، وهذا الامر يؤدي إلى ان الخطاب الحجاجي خطاب خاص مجاله اللغة الطبيعية يهدف إلى استمالة المتلقين للحصول على تأييدهم أو تغيير اعتقادهم حول قضية ما دون اللجوء إلى الالزام او الاضطرار (9) وهذا الامر يحتاج الى باث متمكن من آلياته المعرفية وملكته اللغوية بحيث يستطيع الولوج بشفرات اللغة الخاصة التي تجمعه بالمتلقي الى اخوار سحيقة مما يظنونه أو يعتقدوه حتى يحصل على مراده.
المبحث الأول: - الحجاج البلاغي
يرى ارسطو أن البلاغة هي (الكشف عن الطرق الممكنة للإقناع في اي موضوع كان))(10) اي انه يقصر وظيفتها على الاقناع لذا ترتبط بلاغة ارسطو بالمحاججة والتطبيق الملائم لها هو فن الخطابة الذي يهدف إلى الإثبات والاقناع بوساطة الخطاب (11)، فالبلاغة دراسة كيفية اقناع السامعين بأن يفكروا ويتصرفوا بطريقة ما وعند تتبعنا ما جادت به قريحة السيدة فاطمة (عليها السلام) من هذه الاساليب البلاغية التي ارتبطت بغاية اساسية هدفها الاول هو اقناع المستمعين بحقها بما استملكت من ارث والدها بصفته الدنيوية، وبالوجاهة الالهية التي اكتسبها بفعل رباني وثانيها حق بعلها وزوجها وابن عم محمد (صلى الله عليه واله وسلم) ووصيه بخلافة المسلمين والمسير لحياتهم ولشؤونهم الحياتية والدينية والمقيد لرقابهم بعهد قريب وبيعة لا تنقض اخذت بعد مسيرة ظافرة وحجة عامرة لا شرف بقعة في البسيطة (مكة المكرمة) عوامل مجتمعة وفرت روحانية للحدث لا يمكن ان تنسى او تتناسى.
كل هذا تحركت ضمن فلكه السيدة فاطمة (عليها السلام) مستعملة في سبيل ايصال مفهومه لجملة من العناصر اللغوية ومنها العناصر التي كان للمجاز وعناصره المتنوعة شرف المشاركة فيها ومن تلك العناصر الاستعارة، التشبيه، الكناية، والتي استعملت لغاية حجاجية همها احقاق الحق وخلب الالباب واستمالة القلوب وتصوير المشهد وعمل فجوة وتوتر بين الواقع والخيال وخلخلة كل ذلك بما يخدم النص والقضية لذا سيحاول الباحثان تتبع كل ذلك في الخطبة الفدكية وكما يلي:
أولاً: الصورة الاستعارية والحجاج:
الاستعارة ((مجاز بلاغي فيه انتقال معنى مجرد إلى تعبير مجسد، من غير التجاء إلى أدوات التشبيه أو المقارنة))(12)، أو هي ((استعمال اللفظ في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي))(13) اسلوب بلاغي بياني اصبح بعد ان كان خاملا في باكورة النقد العربي مدار ابداع واهتمام ولاسيما بعد ظهور اصحاب البديع وتفننهم في استعماله وادخاله في نتاجهم الادبي حتى اصبحت الاستعارة ركنا اساسيا تقاس من خلالها اجاده الشاعر وتمكنه، ولكنها مثلها كمثل البقية من الاساليب الفنية دخلت دوائر النقاد واخذت تتأرجح بين فلك نزعتهم الدينية او الذوق الفني والمدرسة التي يتتبعوها والطريقة التي يفضلونها في القول فكانت عند بعضهم بؤرة النص(14).
وذهب اخرون الى الهجوم عليها والحض منها وطلب الوضوح فيها والتقييد بما فرضته اللغة من علاقات يجب ان تراعى (15)، ولكنها بعد ان ماجت الفلسفة اليونانية وغيرها في جسد المنظومة الثقافية العربية والانفتاح الكبير والتلاقح بين القديم والحديث وظهور حركات عقدية فقهية كثيرة اثقلت بظلالها ذوق النقد واسالت في جنباته مداد اقلامها وادخلت فيه شيئا من روح المنطق والفلسفة، فساحت الاستعارة في ركب الجرجاني؛ لتكون الاستعارة منتظمة لديه بروح حجاجية تقوم على مفهوم الادعاء، فهي عنده ليست حركة في المعاني والدلالات وهي ليست بديعا بل هي طريقة من طرق الاثبات الذي يقوم على الادعاء (16)، اي انها مبحث بلاغي تغير وجهة المتلقي بالاستجابة لما يطرحه الباث وتحقق له شيئا من الاذعان والانقياد لما هو في صدد تمريره للمخاطبين، فالاستعارة عملية ذهنية تقوم على التقريب بين الموضوعين، بالنظر الى احدهما من خلال الاخر، فتكتسب اثرها من خلال التأثير الذي تحدثه في المتلقي في سياق معين فتكون أكثر إثارة لانتباه المتلقي وأكثر قدرة على التأثير فيه بقدر ما تحقق من غرابة وانحراف عن العادي المألوف (17).
ولو تتبعنا النص الزاهر للسيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، نجدها تتخذ هذا الاسلوب البلاغي بصفته الحجاجية لتمرير شيء من مفاهيمها ونظرتها الخاصة بما آل اليه سبل الاسلام من انكسار ظهرت اولى بوادره بعد وفاة محمد (صلى الله عليه واله وسلم) فكيف السكوت على قوم جثمان نبيهم وولي امرهم، وعمود دينهم مسجى، وهم بصدد تقسيم ميراثه وفق سبيل واحد يحقق المراد وتأويل وضع على اقيسة خاطئة قد تفرد اصحابها وساروا وماجوا واصبحت بحكم التفاهم والمصالح امرا مسلما قارا لا يمكن نقضه فتحركت الزهراء (عليها السلام) الهويناء لتصحيح سبل القوم ولإرجاع الحق الى اهله، ولا نقصد بالحق فدك لأنها في الحقيقة رمز لما هو اكبر واوسع واعم واهم خلافة المسلمين ومن هو الشخص الاحق بها وفق مدلولات تتضمنها الخطبة واشارات تتلاحق ومضاتها سراعا بين الفينة والاخرى من خلال درر الكلام الذي احتوى على خطين وسياقين في الاصل اتفق عليهما الخطيب وسامعيه تقول عليها السلام (18):
((ايها الناس اعلموا أني فاطمة وابي محمد (صلى الله عليه واله وسلم) أقول عودا وبدوا ولا اقول غلا ولا أفعل ما افعل شططا لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليكم عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم فان تعزوه وتعرفوه تجدوه ابي دون نسائكم وأخا ابن عمي دون رجالكم ولنعم المعزى إليه (صلى الله عليه واله وسلم) فبلغ الرسالة صادعا بالنذارة مائلا عن مدرجة المشركين ضاربا ثبجهم أخذا بأكظامهم داعيا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة))، للتأثير في المتلقي قاربت (عليها السلام) بين الصدع في الاصل يستعمل في الزجاجة ونحوها (19) كسر بسيط لا يمكن اصلاحه ذكر في كتاب الله العزيز بمعنى التبليغ استعارة (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) (20)استعارته الزهراء بمفهومية القرآني واللغوي فصدعت بالأمر للقوم للتبليغ والتكلم بالجهر (21) والاعلام والانذار على وجه التخويف من الخروج عن سنة محمد (صلى الله عليه واله وسلم) والتفنن في مجانبة الحق والتعالي عليه.
والاخذ بالمعنى اللغوي بإشارة محاججة كيف لقوم يخلفون محمد وبطانتهم قد صدع اغلبهم بدعوته صدعا لا يمكن اصلاحه في العقيدة وفي اموالهم وجاههم وامارتهم التي ازالها وبنى عليها دين جديد يدعو الى المساواة والحرية ثم كيف تصفوا قلوب هؤلاء ويرجعون الحق لآل محمد وقد خطف سيف خليفة محمد (صلى الله عليه واله وسلم) اغلب رقابهم واجبرهم على الدخول في الدين رهبة لا رغبة، طلقاء غير احرار، كلها صورة استعارتها الزهراء لإدخال القوم في منظومة منتظمة وخلخلة الثابت الذي وضع كالبؤرة التي سيقف عليها الدين ومن يقود وينفذ تعاليمه، الثابت الذي وضع بمشورة بعض الطلقاء، لتشير الزهراء الى ابيها اولا اخذة بالميل عن سنن المشركين ولأنكم الان تأخذون كلامهم كسند لأول تشريع لدين مابعد محمد عليه افضل الصلاة فأين انتم من محمد ومن افكاره ودعواه ونذره واسلامه؟ وطريقه الواضح المبين للحق والمسدد بحبل متين موصول من الارض (بيت النبوة) ومهبط الرسالة والوحي إلى اعمام السماء وعرش الرب تبارك وتعالى.
وقولها (عليها السلام) (22):
((فلما اختار لنبيه دار انبيائه ومأوى اصفياه ظهر فيكم حسكة النفاق وسمل جلباب الدين ونطق كاظم الخاوين ونبغ خامل الاقلين وهدر فنيق المبطلين فخطر في عرصاتكم وطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفا بكم فألفاكم لدعوته مستجيبين وللعزة فيه ملاحظين ثم استنهضكم فوجدكم خفافا واحمشكم فألفاكم غضابا فوسمتم غير ابلكم ووردتم غير مشربكم هذا والعهد قريب والكلم رحيب والجرح لما يندمل)).
بدأت السيدة الزهراء في هذا المقطع بالحركة الثانية التي انزاحت في تراتبيتها فجادت بالزمنية، من ما تفاضل به الرسول على قومه وما جادت به تعاليمه الممتدة الى السماء عليهم من فضل دين وذر الرماد على فكر متأصل الجذور لعبادة اصنام واتباع شيطان، فانتفى كل ذلك مادام المصطفى ينشر زهوه وتعاليمه ولكن كل هذا انتفى ما ان سجي النبي في لحده، وقبل ان يدفن في قبره الطاهر فظهرت حسكة الشيطان حقده وعداوته استعارة حجاجية استعارتها الزهراء هي ونبغ كاظم الغاوين الساكت والساقط الذي لا نباهة له (23) ولا دور في نشر الاسلام او الذوت عنه واستعارت له الغواية من الشيطان لأنه يوسوس بها وسواسا تحول الى نطق تجاوز فيه تعاليم استاذه ثم تستعير لفظة (وهدر فنيق المبطلين) الهدر صوت الفحل في حنجرته فأصبحت اصواتهم هادرة بعد ان كانت خاملة لا تتجاوز وسوسة الشياطين (النفاق).
وكل ما تقدم من استعارات تتوشح بمسحة حجاجية تنمي عن واقع ثقافي واجتماعي فرضه الاسلام فالمبطلون والصحاب النفاق انتكست راياتهم ومرتبتهم واصبح همهم هو العيش على الهامش وتتبع الاحداث المتسارعة لدولة الاسلام ولكنهم استغلوا الوقت والفراغ وحالة الحزن الذي اصابت امة وليده تحاول ان تنشئ لنفسها كيانا لتهدر اصواتهم كهدير الفحل ولتتحول الوسوسة والنفاق إلى فعل ولتركب الموجه فيتحول المهمش الى منظر وقائد وحامل للواء والمتحكم بالمقاليد، وليصبح الطلقاء ادعياء حق، واصحاب مكانة فرضها الواقع الجديد الذي امتد بجذوره الى استرجاع همة الرجال واعادة روح الجاهلية بثوب جديد، يجمع بين جلباب الدين، ونفس الشياطين، كل هذا توضحه الزهراء (عليها السلام) اولا ثم لتزيد المحاججة وتعود لنقطة اساسية بؤرتها الزمن شيطانكم (روحكم الجاهلية) عادت ونبيكم لم يقبر فتقاسمتم ارثه وروح دولته ومدارها الرحيب ووليدها الذي لم يشتد عوده فارجعتموها جاهلية بأفعالكم وسلبتم اهل بيته مكانتهم التي اقرها الله في دستوره ومتن كتابه الكريم وخلدها محمد (عليه افضل الصلاة والتسليم) بيده وافعاله ووصاياه.
ومنها ايضا قولها عليه السلام متوجهة بكلامها للأنصار (24):
((انتم...... الخيرة التي اختيرت لنا اهل البيت قاتلتم العرب وتحملتم الكد والتعب وناطحتم الامم وكافحتم البهم لا نبرح أو تبرحون نأمركم فتأمرون حتى إذا دارت بنا رحى الاسلام ودر حلب الايام وخضعت ثغرة الشرك وسكنت فورة الافك وخمدت نيران الكفر وهدأت دعوة الهرج واستوسق نظام الدين فانى حزتم بعد البيان واسررتم بعد الاعلان ونكصتم بعد الايمان بؤسا لقوم نكثوا ايمانهم من بعد عهدهم)).
تصف الزهراء الاستعارة بسلوك جديد يتمثل بدر حلب الايام فالدرة التي ترتبط في ذهن العربي بالخير الجيد الذي استعارت له الدر (الحليب) سائل يغطي عند وروده الماء وما توظفه هذه اللفظة من اثر في ذهن العربي ولكنه ماء يغذي الروح والبدن (الايمان –معنوي) (المال –مادي) والمفردتين ترادفتا معا في لفظة الدر ثم تسحب كل مدلولاتها للأنصار فهاهو الخير قد ورد وهاهو الدين قد استقام وهاهو الخير قد قدم وكل هذا تحقق بكم وبسيوفكم التي اشرعت بوجه دولة الشياطين، ولكن العجب انكم نكصتم ايضا، وشرعتم تتلقفوها بينكم ولكن ثقافة القدم والثابت (الهجرة والصحبة الاولى) كنمط ثقافي سائد تليد (قديم) متحكم، فرض اثره وامرة فساد مرة اخرى، وذهبت هبتكم ومنعتكم وثقافة التجديد التي اشرعت سيوفكم يوما من اجلها وتابعتم القوم في طريق يخالف ما تعاهدتم عليه مع محمد (غدير خم)، ومن قبله الرضوان وغيرها اماكن اصبحت ثوابت للعهد ولإقامة الدين ولنصرته.
تعليق