بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على فاطمة وابيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صل على فاطمة وابيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
من الاوسمة الرفيعة الخالدة التي لم تمنح لبنت نبيّ قط غير الزهراء عليها السلام ما منحه أشرف الرسل والأنبياء لسيدة النساء : ( أم أبيها ) صلوات الله عليها.
إنّها كنية ما أجلّها وأعظمها ! فهي تعبر عن عمق الارتباط الروحي الضخم بين المانح العظيم المقدس وبين الممنوحة الطاهرة المطهرة بحكم التنزيه من كل رجس ودنس.
نعم ، هذه الكنية جديرة بالتأمل والتدبر ، فهي هتاف ملأ الكون بصداه ، ونداء لكلِّ جيل يتدبر معناه ، وتنبيه للاُمّة بما ينبغي عليها من توقير البتول وحفظ مقامها الشامخ من قلب الرسول.
لقد تبوّأت الزهراء عليها السلام هذا المقام العظيم من قلب أبيها صلى الله عليه و آله و سلم ، لا لكونها ابنته ، وإنّما أراد الله عزَّ وجلّ لها ذلك المقام المحمود زيادة علىٰ مواقفها الفريدة والتي سنذكر طرقاً منها فنقول :
كانت الزهراء عليها السلام أحب الناس الىٰ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم1، وهي بهجة قلبه وبضعة منه ، يغضب لغضبها ، ويرضىٰ لرضاها ، ويغضبه ما يغضبها ، ويبسطه ما يبسطها ، ويؤذيه ما يؤذيها ، ويسرّه ما يسرّها2.
وكانت إذا دخلت علىٰ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قام إليها فقبّلها وأجلسها في مجلسه ، وكان النبي صلى الله عليه و آله و سلم إذا دخل عليها قامت من مجلسها فقبلته وأجلسته في مجلسها3.
وإذا أراد سفراً أو غزاة كان صلى الله عليه و آله و سلم آخر الناس عهداً بفاطمة عليها السلام ، وإذا قدم كان صلى الله عليه و آله و سلم أول الناس عهداً بفاطمة عليها السلام45، وكان صلى الله عليه و آله و سلم لا ينام حتىٰ يقبّل عرض وجهها ، ... ويدعو لها4.
وكان صلى الله عليه و آله و سلم يكثر من زيارتها وتعهدها ويقول لها : « فداك أبي وأُمّي »5 ويقبّل رأسها فيقول : « فداك أبوك »6 وكان صلى الله عليه و آله و سلم يعينها علىٰ الجاروش والرحىٰ7.
وحينما استشهد حمزة بن عبدالمطلب عليه السلام في أُحد بكت فاطمة الزهراء عليها السلام فانهلت دموع المصطفىٰ صلى الله عليه و آله و سلم لبكائها8،
وحينما ماتت رقية قعدت علىٰ شفير قبرها إلىٰ جنب النبي صلى الله عليه و آله و سلم وهي تبكي ، فجعل النبي صلى الله عليه و آله و سلم يمسح الدموع عن عينيها بطرف ثوبه رحمةً لها9.
أما تعامل الزهراء عليها السلام مع أبيها صلى الله عليه و آله و سلم فقد كانت تهتم به اهتمام الاُمّ بولدها 10،
فمنذ أيام طفولتها كانت تدفع عنه أذىٰ المشركين11، وتخفّف آلامه وتضمد جروحه12، وتمسح الدم عن وجهه في الحرب13، وإذا عاد من سفرٍ بادرت إلىٰ استقباله واعتنقته وقبّلت بين عينيه ، وكانت تتأثر لحاله وتحنو عليه.
أخرج الطبراني والحاكم وغيرهما عن أبي ثعلبة الخشني ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم إذا قدم من سفر ، صلّىٰ في المسجد ركعتين ، ثمّ أتىٰ فاطمة فتلقته علىٰ باب البيت ، فجعلت تلثم فاه وعينيه وتبكي ، فقال صلى الله عليه و آله و سلم : « ما يبكيك ؟ » فقالت : « أراك شعثا ًنصباً ، قد أخلولقت ثيابك » فقال لها : « لاتبكي ، فإنّ الله قد بعث أباك بأمرٍ لا يبقىٰ علىٰ وجه الأرض بيت ولا مدر ولا حجر ولا وبر ولا شعر إلّا أدخله الله به عزّاً أو ذلاً حتىٰ يبلغ حيث بلغ الليل »14.
وكانت « سلام الله عليها » تؤثره بما عندها من طعام كالاُمّ المشفقة علىٰ ولدها ، فعن أنس ، قال : جاءت فاطمة عليها السلام بكسرة خبز لرسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فقال : « ما هذه الكسرة ؟ » قالت : « قرص خبزته ولم تطب نفسي حتىٰ أتيتك بهذه الكسرة .. »15.
وعن عبدالله بن الحسن قال : دخل رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم علىٰ فاطمة عليها السلام فقدّمت إليه كسرة يابسة من خبز شعير ، فأفطر عليها ، ثم قال : « يابنية ، هذا أول خبزٍ أكل أبوك منذ ثلاثة أيام » ، فجعلت فاطمة عليها السلام تبكي ورسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يمسح وجهها بيده16.
ولمّا اختار الله سبحانه لنبيه دار رضوانه ومأوىٰ أصفيائه ، كانت الزهراء عليها السلام كالاُمّ التي فقدت وحيدها ، فما رؤيت عليها السلام ضاحكة قطّ منذ قبض رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم حتىٰ قبضت17، ومازالت بعده معصبة الرأس ، ناحلة الجسم ، منهدّة الركن ، باكية العين ، محترقة القلب ، يغشى عليها ساعة بعد ساعة18، تشمّ قميصه فيغشىٰ عليها19، وسمعت بلالاً يؤذّن حتىٰ إذا بلغ : أشهد أن محمداً رسول الله ، شهقت وسقطت لوجهها وغشي عليها حتىٰ ظنّ بأنّها عليها السلام قد فارقت الحياة 20.
وكانت تقول :
إنّا فقدناك فقــد الأرض وابلهــــا واختلّ قومك فاشهدهم فقد نكبوا
فسوف نبكيك ما عشنا وما بقيت منّــا العيــون بتهمــالٍ له سـكــبُ21
هذه هي بعض الموارد التي تحكي لنا طبيعة العلاقة بين الرسول المصطفىٰ صلى الله عليه و آله و سلم وأحبّ الناس إليه فاطمة الزهراء عليها السلام ، ولو أتينا علىٰ جميع ما ورد في إكرامه لها وإلطافه بها وشفقته عليها ، لخرجنا عن شرط الاختصار في هذا البحث ، وعلىٰ العموم كانت عليها السلام بمثابة الاُمّ لأبيها صلى الله عليه و آله و سلم فهو يعظّمها ويبرّها ويحنو عليها ، ويجد فيها كل ما يجد الولد في أُمّه من العطف والرقة والحنان والوفاء ، فما أجدرها إذن بتلك الكنية الرفيعة : أمّ أبيها !
فانظر إلىٰ كرامة البنات وعزّتهن بالإسلام ، فالبنت التي كانت مصدر شؤمٍ وعارٍ في أعراف الجاهلية ، أصبحت في رحاب الإسلام أُمّاً للنبي الخاتم سيد البشر صلى الله عليه و آله و سلم.
قال الشاعر :
بضــعـــة من أبٍ عظيــم يراهــــا نور عينيه مشرقاً في رداءِ22
فهي أحلىٰ في جفنه من لذيذ ال حُلمِ غِبّ الهجـود والإعيـاءِ
وهي قطبُ الحنان في صدر طه واختصار البنات والأبنـــاءِ
غيّب الموت مـن خديجة وجهاً فإذا فــاطــم معين العــزاءِ
تحسب الكون بسمةً من أبيهــــا فهي أُمّ تذوب في الإرضاءِ23
وشيء آخر يمكن استخلاصه من هذه الكنية التي تشرفت بها الزهراء عليها السلام وهو أن الاُمّ في اللغة بمعنىٰ الأصل ، وفاطمة عليها السلام هي الفرع الفذّ النامي من الشجرة المحمدية الذي حافظ علىٰ بقاء الأصل وديمومته ، فأخرج للناس ثمار تلك الشجرة الباسقة.
عن عبدالرحمن بن عوف قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يقول : « أنا الشجرة ، وفاطمة فرعها ، وعلي لقاحها ، والحسن والحسين ثمرها ، وشيعتنا ورقها ، وأصل الشجرة في جنة عدن ، وسائر ذلك في سائر الجنة »24.
وقد استلهم بعضهم هذا المعنىٰ فأنشد :
كما الله سمّاها بفاطم إذ قضىٰ بفـطم محبيها من النار في الاُخرىٰ
بأُمّ أبـيـهـا كنّيـت إذ بفـــاطــم بـقــى ذكـره في الناس والملّة الغرّا25
-------------------------------
- . المعجم الكبير 22 : 397 / 986.
- . راجع : صحيح مسلم 4 : 1903 / 94. ومستدرك الحاكم 3 : 154. ومسند أحمد 4 : 5 دار الفكر ـ بيروت.
- . سنن الترمذي 5 : 700 / 3872 دار احياء التراث العربي ـ بيروت. وجامع الاُصول / الجزري 10 : 86 دار احياء التراث العربي ـ بيروت. ومستدرك الحاكم 4 : 272.
- . مستدرك الحاكم 1 : 489 و 3 : 165. ومقتل الحسين عليه السلام / الخوارزمي 1 : 56. وذخائر العقبىٰ : 37. ومسند أحمد 5 : 275.
- . مناقب ابن شهرآشوب 3 : 334. ومقتل الحسين عليه السلام / الخوارزمي 1 : 66.
- . مستدرك الحاكم 3 : 156.
- . مقتل الحسين عليه السلام / الخوارزمي 1 : 66. وذخائر العقبىٰ : 130.
- . بحار الأنوار / المجلسي 43 : 50 / 47 عن ابن شاذان.
- . شرح ابن أبي الحديد 15 : 17 دار احياء الكتب العربية.
- . مسند أحمد 1 : 335. وتاريخ المدينة المنورة / ابن شبة 1 : 103 دار الفكر ـ بيروت.
- . البدء والتاريخ / المقدسي 5 : 20 مكتبة الثقافة الدينية.
- . صحيح مسلم 3 : 1418 / 107 كتاب الجهاد والسير.
- . صحيح مسلم 3 : 1416 / 101 كتاب الجهاد والسير.
- . المغازي / الواقدي 1 : 249 عالم الكتب ـ بيروت.
- . المعجم الكبير 22 : 225 / 595 و 596. ومستدرك الحاكم 1 : 488 و 3 : 155. وحلية الأولياء / أبو نعيم 3 : 30 و 6 : 123 دار الكتب العلمية. ومقتل الحسين عليه السلام / الخوارزمي 1 : 63. وذخائر العقبىٰ : 37.
- . مجمع الزوائد 10 : 312.
- . مناقب ابن شهرآشوب 3 : 333. وبحار الأنوار 43 : 40.
- . المعجم الكبير / الطبراني 22 : 398 / 989 و 990 و 993 و 994. والمناقب / ابن شهرآشوب 3 : 359. وبحار الأنوار 43 : 196.
- . مناقب ابن شهرآشوب 3 : 362. وبحار الأنوار 43 : 181.
- . مقتل الحسين عليه السلام / الخوارزمي 1 : 77. وبحار الأنوار 43 : 157 / 6.
- الفقيه / الشيخ الصدوق 1 : 194 / 906 دار الكتب الاسلامية. وبحار الأنوار 43 : 157 / 7.
- . أمالي الشيخ المفيد : 41 / 8 طبع جماعة المدرسين ـ قم. والبيتان من قصيدة مروية في عدة مصادر. راجع فاطمة الزهراء في ديوان الشعر العربي : 16 مؤسسة البعثة ـ قم.
- . أي في حسن ونضارة.
- . من قصيدة لبولس سلامة بعنوان عيد الغدير : 80 الطبعة الرابعة ـ طهران.
- . البيتان للشيخ علي الجشي من ديوانه 1 : 76 مطبعة النجف 1383 هـ.
تعليق