تعلمنا فاطمة كيف تكون تلك البنت الصغيرة أماً لأبيها تحفظ له شخصيته، ومكانته، ومشاعره؟ وليس فقط لا تعصي له أمراً، وإنما تكون له عوناً في نضاله بالحياة فيأتيها التكريم والتعظيم بما لا تطلب ولا تتوقع، ولمن يبحث عن سيادة المرأة في المجتمع، ومكانتها و"تمكينها" ودورها التربوي والاجتماعي...
هنيئاً لأهل كل بيت يستذكرون ابنة رسول الله في رواية يستضيئون بها، او موقف يقتدون به، وهذه الرواية الثالثة لذكرى استشهاد الصديقة الزهراء في الثالث من شهر جمادى الثاني، استناداً الى الرواية التي تقول أنها، سلام الله عليها، عاشت بعد رسول الله، خمسة وتسعين يوماً، وهي الرواية الثالثة، وفي كتابه؛ فاطمة من المهد الى اللحد، يعدها المرحوم السيد كاظم القزيني بأنها "الأقوى"، بعد الروايات التي تقول أنها عاشت خمسة وثلاثين يوماً، أو أربعين يوماً، أو خمسة وسبعون يوماً، في كل الأحوال، يعد المؤمنون هذه الفترات الزمنية فرصة لإحياء هذه الذكرى الأليمة تحت عنوان: الأيام الفاطمية بالعزاء والنحيب والاستماع الى بحوث المنبر في سيرة هذه السيدة العظيمة لاكتساب الدروس والعبر.
وكما الأيام الفاطمية فان لدينا أيام عاشوراء، وأيام الأربعين، ثم اقترح العلماء الكرام مؤخراً أن تكون لدينا عشرة مهدوية لإحياء ذكرى مولد الامام المهدي المنتظر، عجل الله فرجه، لتحقيق غاية بعيدة المدى في ترسيخ مفاهيم وقيم أهل البيت خلال فترة أطول بين افراد المجتمع، وليكون منهجاً تربوياً مستديماً طوال السنة، وليس مجرد ذكرى للاستعبار والبكاء حزناً على المصاب لفترة وجيزة ضمن طقوس خاصة ثم ينتهي كل شيء.
إن المشاعر الإنسانية تحكمها الظروف الزمانية والمكانية، فالحزن والفرح، والحب والكراهية، والغضب، والشهوة، كلها مشاعر قابلة للتحول من حال الى آخر، إلا ما انعقد في القلب السليم واحتضنتها النفس الطيبة، فان وجهتها ستكون سليمة وطيبة وبناءة ايضاً.
وعندما نتحدث عن الصديقة الزهراء، إنما نتحدث عن الفتاة المحبة لأبيها، وعن سيدة البيت، وسيدة الأسرة، الى جانب كونها سيدة نساء العالمين، وهي السيدة على الرجال والنساء جمعياً، يستضيئ الجميع بنور كلامها، ويقتدون بمواقفها في الحياة، ليس خلال أيام الذكرى، وخلال حضور المجالس والمآتم والاستماع الى الخطباء وما يسردونه من حياتها، وإنما لتكون حاضرة طوال أيام السنة في سلوكنا وثقافتنا وطريقة تفكيرنا.
ولمن يبحث عن الفتاة اللطيفة مع والديها، والمدبّرة في تفكيرها، والطموحة في مسيرتها العلمية والثقافية، اليك السيدة فاطمة، تلك الفتاة التي لم تكن لتختلف كثيراً عن سائر فتيات المدينة آنذاك في ظاهرها، إنما الاختلاف فيما تكنه من آداب وأخلاق وعلوم، فهي الحوراء الإنسية، كما تؤكد لنا الروايات الشريفة في قصة تكوينها في صلب أبيها رسول الله، ولكن هل يعني هذا ان لا تقتدي أي فتاة بفاطمة التي كانت تزيل الاوساخ من رأس أبيها في بواكير الدعوة الى التوحيد، وخلال المواجهة المحتدمة بينه وبين مشركي مكة؟ إنه الحنان والميل العاطفي المكنون في قلب كل فتاة إزاء أبيها، حتى قالت العرب: "كل فتاةٍ بأبيها مُعجبة".
تعلمنا فاطمة كيف تكون تلك البنت الصغيرة أماً لأبيها تحفظ له شخصيته، ومكانته، ومشاعره؟ وليس فقط لا تعصي له أمراً، وإنما تكون له عوناً في نضاله بالحياة فيأتيها التكريم والتعظيم بما لا تطلب ولا تتوقع.
ولمن يبحث عن سيادة المرأة في المجتمع، ومكانتها و"تمكينها" ودورها التربوي والاجتماعي، هذه هي الزهراء تجسّد معنى الآية القرآنية؛ {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا}، فقد كانت السَكَن للبيت بكل معانيه من خلال توفير كل العوامل المساعدة، ومنها؛ عدم السؤال لزوجها لأمر تحبه او ترغب به، علماً أنها كانت في هذه المسألة تلتزم بوصية أبيها رسول الله بأن "لا تطلبي من زوجك شيئاً إلا ما جاء لك من عند نفسه"، -مضمون الرواية- والقصة معروفة عن مفاجأة امير المؤمنين بعدم وجود شيء يأكله في داره لأن الزهراء لم تخبره منذ ثلاثة أيام بعدم وجود الطعام وأن عليه ان يشتري لها شيئاً، كما تفعل معظم النساء اليوم انطلاقاً من العادة المألوفة في الحياة الزوجية بأن تذكّر الزوجة زوجها بإحضار "المسواك"، حسب اللهجة العراقية، هذا فضلاً عن سائر الاحتياجات والطلبات الكمالية منها والضرورية.
ولسنا بوارد الخوض في أسباب المشاكل الأسرية المتفاقمة اليوم، ولكن يمكننا تسليط الضوء على سبب واحد وهو كثرة الطلبات التي تبدأ من شيء صغير ولا يتوقف عند الشيء الكبير المتعذر توفيره على الزوج، ربما لغلاء سعره او أسباب أخرى، مما يشعل فتيل الازمة في العلاقات الزوجية، ثم بين افراد الأسرة، لأن تحقيق الطلب لهذا لابد ان يعقبه تحقيق طلب ذاك، فتكون السكينة والاستقرار ضحية رغبات عابرة، ومن ثمّ نلاحظ تراجع الحب والودّ بين افراد الأسرة.
السيدة الزهراء لم تكن بحاجة الى مرتبة وعنوان ينحني لها أفراد المجتمع، وهي ابنة رسول الله، وسيدة نساء العالمين، وهو الوسام الرفيع والاستثنائي الذي قلده إياها أبوها رسول الله، سوى الطلب الوحيد وفق إرادة السماء عندما نزلت الآية الكريمة: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}، إنها المودّة والاحترام من المسلمين فقط، وهو ما لم يراعوه ابداً في حقها وحق بعلها أمير المؤمنين، إنما كانت أخلاقها وسيرتها ومواقفها بمنزلة الشمس الساطعة في المدينة آنذاك، ثم على صفحات التاريخ الى يوم القيامة، ولتثبت، سلام الله عليها، حقيقة أساس في شخصية المرأة، وفي شخصية كل مسلم، أن المهم في الجوهر وليس المظهر؛ وفي التطبيقات العملية وليس العناوين والشعارات، فقد كانت تمتلك أرض فدك لفترة طويلة من الزمن، والتي كانت تدر عليها آلاف الدنانير، بيد إن هذه الدنانير الذهبية اللامعة لم تغير من ملابس الزهراء، ومن طعامها، وأثاث بيتها شيئاً، لذا أصبحت صدّيقة بإيمانها العميق بالله –تعالى- وبما يرزقه ويعطيه لعباده.
نحصل عن اشعاعات هذه السيرة العطرة لإضاءة حياتنا عندما نُحيي شخصية الصديقة الزهراء في بيوتنا بشكل عملي ويومي، ولو أننا لا نقدر على ذلك، ولكن نعين الزهراء "بورع واجتهاد وعفّة وسداد"، يقول امير المؤمنين، عليه السلام، وبهذه الخطوات الأربع؛ الورع والاجتهاد والعفّة والسداد، يمكننا التغلّب على اكبر المشكلات وأعقد المنغّصات في حياتنا، وتحديداً؛ داخل البيت، من خلال كبح جماح الرغبات والنزعات النفسية الطائشة، لاسيما حبّ الأنا، وحب التملّك والاستكثار دائماً، ثم تجربة عيش رائعة وهانئة ملؤها الحُب والرضى والمودّة.
محمد علي جواد تقي