بِسْمِ اَللهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا ۗ قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾.[1]
﴿الَّذِينَ﴾، هذا نعت ثانوي وذريعة أخرى ومكيدة ثانية أبرزها المنافقون بصورة أخرى ﴿قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ﴾، من جنس المنافقين المقتولين يوم أحد، أو المراد من «إخوانهم» في سكنى الدار وفي النسب فحينئذ يندرج فيهم بعض الشهداء ﴿وَقَعَدُوا﴾، حال من ضمير «قالوا» بتقدير «قد» أي قالوا وقد قعدوا عن القتال معهم.
﴿لَوْ أَطَاعُونَا﴾، فيما أمرناهم ووافقوا على ذلك ﴿مَا قُتِلُوا﴾، كما لم نقتل، وفيه إيذان بأنّهم أمروهم بالانخذال وترك القتال وأغووهم كما غووا.
﴿قُلْ﴾، تبكيتا لهم وإظهارا لكذبهم ﴿َادْرَءُوا﴾، أي ادفعوا ﴿عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾، جواب الشرط محذوف يدلّ عليه ما قبله وتقدير الكلام: إن كنتم صادقين فيما ينبئ عنه قولكم من أنّكم قادرون على دفع القتل، فادفعوا عن أنفسكم الموت الّذي كتب عليكم بوقت موقّت وأنفسكم أعزّ عليكم من إخوانكم.
واعلم أنّ الموت ليس له وقت معلوم لك وإنّما اختفى وقته ليكون المرء على اهبة للسفر ومستعدّا لذلك، وكان بعض الصالحين ينادي باللّيل على سور المدينة: الرحيل الرحيل، وتوفّي آخر الليل وفقد صوته أمير تلك المدينة، فسأل عنه فقيل: إنّه مات، ما زال يلهج بالرحيل وذكره حتّى أناخ ببابه الحمّال فأصابه متيقّظا متشّمرا ذا اهبة لم تلهه الآمال.
فلا الجهاد يوجب الموت، كما أن القعود عن الجهاد لا ينجي منه، وكم من قاعد في بيته يموت إذا حمّ أجله، وكم من شجاع يقذف نفسه في وطيس الحرب ويرجع سالما بإذن الله تعالى، لأن الموت والحياة مخلوقان مأذونان بإذنه سبحانه، ومأموران بأمره، وليس لأحد فيها خيرة.
ومن أوضح ما جرى بالموت على العباد ففي قصة النبي سليمان (عليه السلام) ورد عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ قَالَ: ((أَمَرَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ اَلْجِنَّ فَصَنَعُوا لَهُ قُبَّةً مِنْ قَوَارِيرَ، فَبَيْنَا هُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى عَصَاهُ فِي اَلْقُبَّةِ يَنْظُرُ إِلَى اَلْجِنِّ كَيْفَ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ إِذْ حَانَتْ مِنْهُ اِلْتِفَاتَةٌ فَإِذَا رَجُلٌ مَعَهُ فِي اَلْقُبَّةِ، قَالَ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا اَلَّذِي لاَ أَقْبَلُ اَلرِّشَا وَلاَ أَهَابُ اَلْمُلُوكَ، أَنَا مَلَكُ اَلْمَوْتِ فَقَبَضَهُ وَهُوَ قَائِمٌ مُتَّكِئٌ عَلَى عَصَاهُ فِي اَلْقُبَّةِ وَاَلْجِنُّ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، قَالَ: فَمَكَثُوا سَنَةً يَدْأَبُونَ لَهُ حَتَّى بَعَثَ اَللهُ عَزَّ وَجَلَّ اَلْأَرَضَةَ فَأَكَلَتْ مِنْسَأَتَهُ وَهِيَ اَلْعَصَا، ﴿فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾[2] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: إِنَّ اَلْجِنَّ يَشْكُرُونَ اَلْأَرَضَةَ مَا صَنَعَتْ بِعَصَا سُلَيْمَانَ، فَمَا تَكَادُ تَرَاهَا فِي مَكَانٍ إِلاَّ وَعِنْدَهَا مَاءٌ وَطِينٌ)).[3]
وقال الشيخ مكارم الشيرازي في تفسيره: (الجميل هو أن سليمان بن داود أمر الجن فصنعوا له قبة من قوارير فبينما هو متكئ على عصاه في القبة والجن ينظرون إليه، قال: فمكثوا سنة يدأبون له حتى بعث الله عز وجل الأرضة فأكلت منسأته -وهي العصا- واتضح بذلك كيف أن رجلاً بكل هذه القدرة والعظمة كان أمام الموت ضعيفاً لا حول له ولا قوة بحيث فارق الحياة فجأة وفي لحظة واحدة.
نعم، كيف أن الأجل لم يعطه حتى فرصة الجلوس أو الاستلقاء على سريره. ذلك حتى لا يتوهم المغرورون والعاصون حينما يبلغون مقاماً أو منصباً أن قد أصبحوا مقتدرين حقيقة، فإن المقتدر الحقيقي الذي كان الجن والإنس والشياطين خدماً بين يديه، والذي كان يجول في الأرض والسماء وقد بلغ قمة الهيبة والحشمة، ثم في لحظة قصيرة فارق الدنيا.
واتضح كذلك كيف أن عصاً تافهةً، أقامت جثمانه مدة، وجعلت الجن يعملون بجد واجتهاد وهم يلحظون جثمانه الواقف أو الجالس، ثم كيف أسقطته الأرضة على الأرض وكيف اضطربت بسقوطه الدولة بكل مسؤوليها. نعم، عصاً تافهة أقامت دولة عظيمة، ثم حشرة صغيرة أوقفت تلك الدولة).[4]
[1] سورة آل عمران، الآية: 168.
[2] سورة سبأ، الآية: 14.
[3] تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 325.
[4] الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج 13، ص 412.
تعليق