بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد و على آل محمد الطيبين الطاهرين وعلى أصحابهم المنتجبين..
قرأت في الكثير من المواقع السنية عن زواج الإمام علي بن أبي طالب سلام الله عليه من ابنة أبي جهل.. ( جويرية بنت أبي جهل)..
ولكن رسول الله غضب من ذلك وأخبره (أي الإمام علي) بأن ابنة رسول الله لا تجتمع من ابنة عدو الله..فهل هذه الرواية صحيحة.. أي أن الامام علي عليه السلام قد خطب ابنة ابي جهل عدو الله ورسوله.. وأنه تركها بعدما غضب النبي (ص).. أليس رسول الله (ص) قال.. فاطمة بضعة مني من أغضبها فقد أغضبني.
ومن يغضب رسول الله فقد أغضب الله سبحانه وتعالى، والإمام علي إمام معصوم...فهل هذه الرواية صحيحة...وإن كان الإمام علي عليه السلام قد خطبها فعلا ثم تركها...هل يعد ذلك من موارد إغضاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
أرجو افادتي بالجواب سريعا.ولكم جزيل الشكر والتقدير
الإجابة
الأخ يونس المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أشاعوا أن عليّا خطب ابنة أبي جهل ـ عدو الله ورسوله ـ وبلغ ذلك السيدة فاطمة (عليها السلام) فغاضها ذلك, حتى خرجت مغاضبة من بيتها ومعها حسن وحسين وأم كلثوم, فدخلت حجرة النبي (صلى الله عليه وآله), فلما جاء النبي ورآها قالت له : يزعم قومك أنك لا تغضب لبناتك, وهذا علي ناكح بنت أبي جهل, فخرج وصعد المنبر وخطب فقال : (إن فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها, ويؤذيني ما آذاها, وأنا أتخوف أن تفتن في دينها) . ثم ذكر صهرا له من بني عبد شمس فأثنى عليه في مصاهرته إياه, وقال : حدثني فصدقني, ووعدني فوفى لي, وإني لست أحرّم حلالا ولا أحل حراما, ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبنت عدو الله أبداً, وإن بني هشام بن المغيرة استأذنوني في أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب, فلا آذن ثم لا آذن, إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح أبنتهم ...
هذا هو ما افتراه قاله السوء, وحيث إن هذه الفرية لا تثبت سندا ولا متنا, ولو أردنا كشف حال جميع ما ورد في ذلك من أحاديث في مختلف المصادر لاحتجنا إلى تأليف خاص به ولسنا بصدده, ويكفي أن أشير إلى مصدر واحد يعدّ من أقدم المصادر الحديثية, وذلك هو كتاب المصنّف لعبد الرزاق بن همام الصنعاني المتوفى سنة 211هـ, فقد أورد الحديث أربع مرات لم يخل واحد منها عن إعضال وإرسال مع وجود المجروحين في رجال الأسانيد .
أما بقية المصادر التي ذكرت الحديث مسندا إلى الصحابة أو مرسلا عن التابعين فهي:
1- صحيح البخاري وسيأتي ذكر موارده .
2- صحيح مسلم, باب فضائل فاطمة في أربعة أحاديث ستأتي الإشارة إليها .
3- سنن الترمذي في كتاب المناقب, فضل فاطمة في حديثين .
4- سنن ابن ماجة في كتاب النكاح, باب الغيرة في حديثين .
5- سنن أبي داود في كتاب النكاح, في ثلاثة أحاديث .
6- مستدرك الحاكم 3 / 108 في ثلاثة أحاديث .
7- المصنف لابن ابي شيبة 12/128 حديث واحد رواه بسنده عن عامر الشعبي.
8- مسند أحمد 4/326 ـ 328 في أحاديث المسور بأربعة أسانيد, وفي 4/5 في حديث عبد الله بن الزبير حديث واحد .
9- فضائل الصحابة لأحمد 2 / 754 في ثمانية أحاديث .
10- مجمع الزوائد 9/203 نقلا عن الطبراني في الثلاثة وعن البزار باختصار عن ابن عباس, وقال : وفيه عبيد الله بن تمام وهو ضعيف .
11- كنز العمال 13/677 نقلا عن عبد الرزاق في حديثين, وفي 14/158 حديث موضوع على لسان علي يعترف فيه بخطبته لابنة أبي جهل, وسيأتي ذكره .
12- المطالب العالية لابن حجر 4/67 .
13- ابن شاهين في فضائل فاطمة .
وربما يوجد غير ذلك من المصادر الثانوية, فلا حاجة بنا إلى التقصي عنها, لكن المهم معرفة حال الرواة الذين تنتهي إليهم أسانيد الحديث في جميع تلكم المصادر .
لذا كان لزاماً تسليط الضوء على رجال الإسناد من الصحابة والتابعين فقط, ثم بيان المؤاخذات على ما جاء في المتن .
أما رجال الإسناد من الصحابة فتنتهي الى ثلاثة, كلهم من المنحرفين عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام), وهم :
أبو هريرة الدوسي, وعبد الله بن الزبير, والمسور بن مخرمة كما يروي عن ابن عباس وسيأتي بيانه .
أقول : أمر عظيم كهذا يغضب النبي (صلى الله عليه وآله) حتى يصعد المنبر ويخطب الناس تتوفر الدواعي على نقله, ثم لا ينقله إلا هؤلاء الثلاثة من الصحابة لدليل على وضع الحديث, ويكفي كشف حال هؤلاء الثلاثة عن البحث في بقية من هم دونهم من التابعين ممن روى عنهم أصحاب الصحاح والمسانيد والسنن, وفيهم من لا تلتقي بذمه الشفتان, ولا يؤبه به في الميزان, لما فيه من حسيكة, امثال الزهري, وابن ابي مليكة لما سنذكره عنهما, وعروة بن الزبير, وعامر الشعبي, وحالهم كمن سبق, ويأتي ذكر محمد بن الحنفية, وعلي بن الحسين, وسويد بن غفلة مضافا الى التابعين .
أما حال الصحابة الثلاثة فهم :
أولا :
ابو هريرة الدوسي : ذكر الاسكافي كما في شرح النهج المعتزلي الحنفي ان معاوية وضع قوما من الصحابة وقوما من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي (عليه السلام), تقتضي الطعن فيه والبراءة منه, وجعل لهم على ذلك جعلا يرغب في مثله, فاختلقوا ما أرضاه, منهم ابو هريرة, وعمرو بن العاص, والمغيرة بن شعبة, ومن التابعين عروة بن الزبير ...
ثم قال بعد كلام طويل : وأما أبو هريرة فروى عنه الحديث, معناه أن عليا (عليه السلام) خطب ابنة أبي جهل في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأسخطوه فخطب على المنبر وقال : لاها الله لا تجتمع ابنة ولي الله وابنة عدو الله ابي جهل, إن فاطمة بضعة مني, يؤذيني ما يؤذيها, فإن كان علي يريد ابنة ابي جهل فليفارق ابنتي وليفعل ما يريد . أو كلاما هذا معناه, والحديث مشهور من رواية الكرابيسي .
قال ابن ابي الحديد : قلت : هذا الحديث أيضا مخرج في صحيحي مسلم والبخاري عن المسور بن مخرمة الزهري, وقد ذكره المرتضى في كتابه المسمى (تنزيه الانبياء والأئمة), وذكر أنه رواية حسين الكرابيسي وأنه مشهور بالانحراف عن أهل البيت عليهم السلام .
أقول : ولنعد الى أبي هريرة, ولنقرأ عنه ما يثبت انحرافه عن الامام (صلى الله عليه وآله) مضافا الى كذبه الشائع الذائع على النبي (صلى الله عليه وآله), حتى لقد ذكر ابن عساكر في تاريخه, والسيوطي في جمع الجوامع كما في ترتيبه كنز العمال, وابن ابي الحديد في شرح النهج وغيرهم ضرب عمر له بالدرة, وقال : قد أكثرت من الرواية, وأحربك ان تكون كاذبا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) .
وأكذبه غير واحد من الصحابة, فقال فيه الامام (عليه السلام) : ألا إن أكذب الناس أو قال أكذب الاحياء على رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبو هريرة الدوسي (كما عن الإسكافي في شرح النهج) .
فأبو هريرة وحديثه إن صح عنه فهو كبقية أحاديثه التي رواها ولم يكن حاضرا فيها زمان صدورها, وقد مرت الاشارة الى نماذج من ذلك كحديث تبليغ براءة, وحديث الثقلين , وحديث الغدير وغيرها مما زعم سماعها وهو لم يكن وقتها حاضرا, بل كان بالبحرين .
ثم إن الرجل لو لم يكن إلا اعتزاله للإمام (عليه السلام) أيام خلافته, وضلوعه في ركاب معاوية لإشباع نهمته, لكفى ذلك في ردّ روايته, كيف لا وهو الذي ضرب على صلعته في مسجد الكوفة حين جاء مع معاوية في حاشيته, فلما رأى كثرة من استقبله من الناس جثا على ركبتيه, ثم ضرب صلعته مرارا وقال : يا أهل العراق اتزعمون اني اكذب على رسول الله وأحرق نفسي بالنار ؟ والله لقد سمعت رسول الله يقول : لكل نبي حرم, وإن حرمي بالمدينة ما بين عير إلى ثور(وهذا من بينات كذبه, فعير وثور اسم جبلين, أحدهما بالمدينة وهو عير, وثانيهما بمكة وهو ثور, فكيف يحدد ما بينهما ويجعله حرما للمدينة ؟! وإنما الصحيح : ما بين عير إلى وعير, وهما لابتا المدينة جبلان من جانبيها . ), فمن أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين, وأشهد بالله ان عليا أحدث فيها ...
فلما بلغ معاوية قوله, أجازه وأكرمه وولاه إمارة المدينة (شرح النهج لابن ابي الحديد المعتزلي 1 / 359 طـ الأولى ) .
قال الثقفي في كتابه الغارات : لما دخل معاوية الكوفة دخل ابو هريرة المسجد, فكان يحدّث ويقول : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله), وقال ابو القاسم, وقال خليلي ! فجاءه شاب من الأنصار يتخطى الناس حتى دنا منه, فقال : يا أبا هريرة حديث أسالك عنه, فإن كنت سمعته من النبي (صلى الله عليه وآله) فحدثنيه, أنشدك بالله سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول لعلي :
من كنت مولاه فعلي مولاه, اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ...
قال أبو هريرة : نعم والذي لا إله إلا هو لسمعته (أقول : لقد كذب حتى في حلفه هذا, لأن الحديث هو حديث الغدير, وكان في حجة الوداع, ولم يكن أبو هريرة حاضرا, إذ كان بالبحرين منذ شهر ذي القعدة سنة 8 من الهجرة, وحتى سنة عشرين حين استقدمه عمر في خلافته للشهادة على قدامة بن مظعون لشربة الخمر, فكل ما يرويه من أحاديث نبوية وأحداث حجازية مما زعم فيه عنصر المشاهدة والسماع في تلك المدة فهو كاذب وإن أقسم ألف يمين) . من النبي (صلى الله عليه وآله) يقول لعلي : من كنت مولاه فعلي مولاه, اللهم وال من والاه, وعاد من عاداه ...
فقال له الفتى : لقد والله واليت عدوّه, وعاديت وليّه, فتناول بعض الناس الشاب بالحصى, وخرج ابو هريرة فلم يعد إلى المسجد حتى خرج من الكوفة (الغارات, ص 568) .
أقول : روى ذلك ايضا ابن ابي شيبة في المصنف (المصنف 12/68) . والسمعاني في فضائل الصحابة, وابن عساكر في تاريخه (تاريخ دمشق (ترجمة الإمام) 2 / 72) .
إلا أنه لم يذكر الزمان والمكان, مما أسدل غشاء الإيهام على حديثه, وكذلك رواه ابن كثير في السيرة النبوية (السيرة النبوية 4 /426 ), وصنع كما صنع ابن عساكر من إهمال ذكر المكان والزمان, نقلا عن الحافظ ابي يعلى الموصلي وعن ابن جرير في الكتاب الذي جمع فيه طرق حديث الغدير وألفاظه, ولا غرابة في صنع ابن كثير, فهو أيضاً شامي .
وأظن أنما فعلا ذلك رعاية لصحبة أبي هريرة, ولا غضاضة فابن عساكر شامي شافعي, وكذلك ابن كثير, ولو كانا كوفيين حنفيين لاستثنياه من جماعة الصحابة المعدلين كما صنع أبو حنيفة, فقد استثناه واستثنى أنسا وآخرين من عدالة الصحابة (راجع سؤال أبي يوسف له في ذلك في شرح النهج للمعتزلي الحنفي 1 / 360 طـ الأولى, شرح صحيح مسلم للنووي ج4) . فهذا أبو هريرة ـ الرواية ـ كيف يصدق في حديثه عن خطبة الامام لابنة ابي جهل وهو يوالي عدوه ويعادي وليّه على حد قول الشاب الأنصاري .
ثانيا :
عبد الله بن الزبير : وعداوته للإمام أظهر من أن تحتاج إلى بيان, بل بلغ في نصبه الغاية حتى إنه ترك الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله) أيام قيامه بمكة, فعيب عليه ذلك, وأنكر فعله المسلمون فقال : إن له أهيل سوء, إذا ذكرته اشرأبت أعناقهم (قال ابن ابي الحديد في شرح النهج 1 / 358 طـ الاولى : روى عمر بن شبة وابن الكلبي والواقدي وغيرهم من رواة السير : أنه مكث أيام ادعائه الخلافة اربعين جمعة لا يصلي فيها على النبي (صلى الله عليه وآله) وقال :لا يمنعني من ذكره الا تشمخ رجال بآنافها) .
وفي رواية : إن له أهيل سوء ينغضون رؤوسهم عند ذكره (نفس المصدر) .
ولئن قيل عن المسور : (إنه كان مع خاله عبد الرحمن بن عوف مقبلا ومدبرا في أمر الشورى) كما سيأتي, فإنا نقول عن ابن الزبير : لقد كان مقبلا ومدبرا في حرب الجمل مع خالته عائشة, وكان هو الذي زيّن لها مسيرها الى البصرة (شرح النهج 1/ 363 ) .
وهو الذي أتى إليها بأربعين شاهد زور شهدوا حين نبحتها كلاب الحوأب وأرادت الرجوع لتحذير النبي (صلى الله عليه وآله) لها من ذلك, لكن ابن الزبير جاءها بالشهود, فشهدوا أن ذلك المكان ليس هو الحوأب, فكانت أول شهادة زور في الإسلام.
وهو الذي عيّر أباه بالجبن حين عزم على الرجوع عن محاربة الإمام بعد تذكير الإمام له بقول النبي (صلى الله عليه وآله) : بأنك ستقاتله وأنت له ظالم .
فرجع فتلقاه ابنه عبد الله فعيّره مستثيرا له على حرب الإمام, ويكفينا قول الإمام فيه : ما زال الزبير منا حتى شب أبنه عبد الله .
أليس هو الذي كان يحقد على الامام لقتله عم أبيه نوفل بن خويلد الذي كان يقال له أسد قريش وأسد المطيّبين ؟ وقتل الإمام له هو قول عامة الرواة كما يقول ابن حزم في الجمهرة (الجمهرة, ص 120) .
أليس هو الذي حبس ابن عباس وابن الحنفية ومن معهما من أهلهما في سجن عارم, وأملهم إلى الجمعة, إن لم يبايعوا أحرقهم وسط الشعب, وجعل الحطب على بابه, ففاجأه أبو عبد الله الجدلي الذي أرسله المختار في جماعة, فدخلوا المسجد الحرام مكبّرين وعليهم السلاح, فخرج ابن الزبير طالبا لنفسه النجاة, وذهب الجدلي و من معه فأخرجوا بني هاشم من سجن عارم .
وهو القائل لابن عباس وكان يبلغه تأنيبه وذمه : إني لأكتم بغضكم أهل اذا البيت منذ أربعين سنة (شرح نهج البلاغة 1/358 ) .
قال ابن ابي الحديد المعتزلي في شرح النهج : وكان سبّابا فاحشا, يبغض بني هاشم, ويلعن ويسب علي بن ابي طالب (عليه السلام) (نفس المصدر 1 / 363) .
فمن كان هذا حاله ومقاله وفعاله كيف يصدق في حديثه لخطبة علي لابنة ابي جهل, فيما أخرجه عنه الترمذي في سننه, قال : حدثنا أحمد بن منيع, اخبرنا إسماعيل بن علية عن أيوب عن ابن ابي مليكة عن عبد الله بن الزبير أن عليا ذكر بنت أبي جهل, فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله) فقال : إنما فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها وينصبني ما أنصبها .
ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح, هكذا قال أيوب عن ابن ابي مليكة عن ابن الزبير, وقال غير واحد : عن ابن أبي مليكة عن المسور بن مخرمة, ويحتمل أن يكون ابن ابي مليكة روى عنهما جميعا (سنن الترمذي 5/699 نشر المكتبة الإسلامية, تحفة الأحوذي 10/371) . وأخرج هذا الحديث الحاكم في المستدرك, فقال : حدثنا بكر بن محمد الصيرفي, ثنا موسى بن سهل بن كثير, ثنا إسماعيل بن علية ... ثم ساق السند والحديث كما مر عن الترمذي, وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين, ولم يخرجاه (المستدرك 3 / 159 ) .
والذي يلفت النظر في المقام ان الذهبي أهمل هذا الحديث في تلخيصه المطبوع بذيل المستدرك, وظني أن إهماله كان عن عمد لا عن سهو .
ومهما يكن فسند الحديث غير نقي, ويكفي روايته عن ابن ابي مليكة, وهو مؤذن ابن الزبير وقاضيه, وقد مر بنا حال ابن الزبير وعداوته لاهل البيت, ويبدو لي ان ابن الزبير كان بارعا ـ إن صح الحديث عنه ـ فلم يذكر له ما يحاقق عليه من زعم حضور او سماع, مع ان سنه عند وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) كانت تسع سنين, فكان أكبر من المسور بسنة .. الذي زعم أنه سمع النبي (صلى الله عليه وآله) يخطب وهو يومئذ محتلم . مع أن عمره كان يومئذ ثماني سنين !! والآن فلنطو صفحة ابن الزبير, ولنقرأ المسور فيما قاله عنه مترجموه, ثم ننظر في حديثه ...
ثالثا :
المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري : أما ابوه فكان من مسلمة الفتح, ومن المؤلفة قلوبهم, ومن الدرجة الدنيا منه م نفقد ذكر ابن هاشم في سيرته نقلا عن ابن اسحاق اسماء من اعطاهم النبي (صلى الله عليه وآله) مائة من الابل, وعد منهم ابا سفيان وابنه معاوية وآخرين, ثم قال : واعطى دون المائة رجالات من قريش منهم مخرمة بن نوفل الزهري وسمى آخرين ...
وأخيراً هو الذي قال عنه (صلى الله عليه وآله) فيما روته عائشة : (بئس أخو لعشيرة), وذلك حين استأذن, فلما دخل بش به, فلما خرج قالت له عائشة في ذلك, فقال : يا عائشة اعهدتني فحاشا ؟ إن شر الناس من يتّقي شرّه (تاريخ الاسلام للذهبي 2/1316) .
وأما أمة فهي عاتكة بنت عوف أخت عبد الرحمن بن عوف .
وأما عن مولده فقالوا بعد الهجرة بسنتين بمكة, وقدم المدينة مع أبيه بعد الفتح سنة ثمان وهو غلام ايفع ابن ست سنين, وعدّه ابن الاثير وابن عبد البر وابن حجر في كتبهم في الصحابة منهم, إلا ان ابن قتيبة قال في المعارف : وكان يعدل بالصحابة وليس منهم . (المعارف, ص 429) .
وأما عن سلوكيته فقالوا : لم يزل مع خاله عبد الرحمن بن عوف مقبلا ومدبرا في أمر الشورى, وكان مع عثمان في الدار إلى أن قتل فانحدر إلى مكة, ولم يزل بها مواليا لمعاوية حتى قال عروة بن الزبير : فلم أسمع المسور ذكر معاوية إلا صلى عليه (سير أعلام النبلاء 3 / 263 .
وذكروا أنه كره بيعة يزيد بن معاوية, ولعل ذلك لما قال ابن قتيبة في المعارف :
وكان المسور قال : إن يزيد بن معاوية يشرب الخمر, فبلغه ذلك فكتب الى امير المدينة فجلده الحد, فقال المسور :
أيشربها صرفا يفك ختامها ابو خالد ويجلد الحد مسور (المعارف, ص429, وفي عجز البيت زحاف ظاهر, ويرتفع بتقديم الحد على (ويجلد) فيكون هكذا : ابو خالد والحد يجلد مسور) .
وفي ترجمته في الاستيعاب نقل ابن عبد البر عن مالك بن أنس انه قال : بلغني ان المسور بن مخرمة دخل على مروان فجلس معه وحادثه, فقال المسور لمروان في شيء سمعه : بئس ما قلت . فركضه مروان برجله, فخرج المسور ...
وأما عن فضله فقال ابن عبد البر وغيره : وكان المسور لفضله ودينه وحسن رأيه تغشاه الخوارج, تعظمه وتنتحل رأيه, وقد برأه الله منهم !!
وأما عن موته فقالوا : كان مع ابن الزبير, فلما حاصر الحصين بن نمير مكة ورمى الكعبة بالمنجنيق أصابه حجر فشجه, ثم مات بعد خمسة أيام .
هذه هوية الرجل نسبا وحسبا ودينا وسلوكا .. فأبوه من مسلمة الفتح ومن المؤلفة قلوبهم من الدرجة الثانية ـ إن صح التعبير ـ وبعد هو بئس أخو العشيرة, ثم هو بعد من شر الناس إذ يتقي (صلى الله عليه وآله) شره ... وأمه اخت عبد لرحمن بن عوف فهو خاله, وقالوا : (الخال أحد الضجيعين) كناية عن تأثير طباع الأخوال في ابناء الأخت إذ هم ينزعون إليهم بعرق, ثم هو صهره فقد كانت عنده جويرية بنت عبد الرحمن بن عوف (نسب قريش لمصعب الزبيري, ص 269 ) .
هذا ما لمسناه في سلوكية المسور حيث قالوا : كان مع خاله عبد الرحمن ابن عوف ولم يزل مقبلا ومدبرا في أمر الشورى, وموقف ابن عوف فيها معلوم, حتى عناه الإمام بقوله في خطبته الشقيقية : ومال الآخر لصهره .
فإن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وهي أخت عثمان من أمّه كانت تحت أبن عوف (شرح النهج 1/63), وقال له : والله ما ولّيت عثمان إلا ليرد الأمر إليك (تاريخ ابن الأثير 3/30 طـ بولاق ). ومما يزيدنا وضوحا في عثمانيته انه لم يبايع الامام بعد مقتل عثمان, وخرج من المدينة الى مكة, ثم هو الذي كان يصلي على معاوية إذا ذكره كما مر ذلك عن عروة بن الزبير .
وأخيرا دخل مع ابن الزبير في أمره, وانتحل الخوارج رأيه حيث استقطبوه, وإن قال ابن عبد البر وأبن حجر وغيرهما : (وقد برأه الله منهم), ولسنا بحاجة الى مناقشتهم في ذلك, فمن اين علموا بتلك البراءة والله لم يوح الى احد بعد نبيه ؟؟ فلا تزال دعواهم تحتاج الى إثبات, على أن مصعب الزبيري ـ صاحب كتاب نسب قريش ـ ذكر ذلك ولم يزعم ما قالوه في براءته, و هو أقدم منهما زمانا, وأعرف بحال المسور .
ولننظر إلى حديث المسور في الفرية المزعومة, وهو حديث أخرجه عنه البخاري ومسلم والترمذي واحمد وغيرهم, ولن نستقصي جميع مصادر, بل سنكتفي بما أخرجه البخاري في صحيحه وقد نشير الى ما ورد عند غيره, وذلك لان صحيحه عند المغالين به اصح كتاب بعد كتاب الله فيما يزعمون !.. ولأنه ذكر حديث المسور في خمسة ابواب مقطعا اوصاله عن عمد, حتى يخيل للناظر انه ذكر خمسة أحاديث مختلفة الألفاظ, ولكن الباحث الناقد يدرك ان اختلاف الصورة لا يغير الحقيقة, وهذا ما أربك كثيرا من شراح الصحيح, فحاولوا جهدهم توجيه ما فيها من تناقض وتهافت, ولم يوفقوا في سعيهم الحثيث, في دفع ما يرد على الحديث, بل شوشوا أذهان قرائهم, ولم يجنوا غير مضيعة الوقت في عرض آرائهم تبعا لأهوائهم .
ولو أنهم صنعوا صنع ابن قتيبة لجنبوا انفسهم كثير ا من النقد والرد, فابن قتيبة في معارفة كان أوعى منهم حين قال عن المسور : (وكان يعدل بالصحابة وليس منهم), ثم قال : وقد روى قوم عنه أنه سمع النبي (صلى الله عليه وآله) يقول : لو أن بني هشام بن المغيرة استأذنوني في أن ينكحوا ابنتهم علي بن ابي طالب فلا آذن ثم لا آذن .
فهو حين ينفي صحابية المسور, ينفي عنه عاصمية الصحابة, سواء قرئت جملة وكان يعدل ) بالتخفيف او التشديد . ثم يمرض القوم في زعم روايته عن النبي (صلى الله عليه وآله) انه سمعه يقول ... وهو يدلنا على عدم قناعته بصحبة المسور كما كشف عن قيمة روايته عنده, وما اقتضابه لحديثه إلا مؤشر على ذلك .
ثم ما يعنيه بقوله : (لو أن بني هشام) الخ, فهل يدل على حدوث الخطبة او إرادتها, وهذا ما سنقرأ الجواب عنه في الكلام على حديث المسور عند البخاري في صوره الآتية :
1- أخرج البخاري في صحيحه في كتاب فرض الخمس باب ما ذكر من درع النبي (صلى الله عليه وآله) وعصاه وسفيه وقدحه وخاتمه, و ما استعمل الخلفاء بعده من ذلك مما لم يذكر قسمته, ومن شعره ونعله وآنيته مما يتبرك اصحابه وغيرهم بعد وفاته .
قال : حدثنا سعيد بن محمد الجرمي, حدثنا يعقوب بن إبراهيم, حدثنا ابي ان الوليد بن كثير حدثه عن محمد بن عمرو بن طلحة الذي حدثه, ان ابن شهاب حدثه, ان علي بن الحسين حدثه, انهم حين قدموا المدينة من عند يزيد بن معاوية (بعد) مقتل حسين بن علي رحمة الله عليه, لقيه المسور بن مخرم فقال له : هل لك إلي من حاجة تأمرني بها ؟ فقلت له : لا . فقال : فهل انت معطي سيف رسول الله (صلى الله عليه وآله), فإني أخاف ان يغلبك القوم عليه, وأيم الله لئن اعطيتنيه لا يخلص إليه ابدا حتى تبلغ نفسي, إن علي بن ابي طالب خطب ابنة ابي جهل على فاطمة (عليها السلام), فسمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يخطب الناس في ذلك على منبره هذا, وأنا يومئذ محتلم, فقال : إن فاطمة بضعة مني, وأنا اتخوف ا ن تفتن في دينها, ثم ذكر صهرا له من بني عبد شمس فأثنى عليه مصاهرته إياه, قال : حدثني فصدقني, ووعدني فوفى لي, وإني لست أحرم حلالا, ولا أحل حراما, ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبنت عدو الله أبداً .
(صحيح البخاري 4/83 طـ بولاق, صحيح مسلم 4 / 326, باب مناقب فاطمة . مسند أحمد 4/326 ط مصر الأولى . سنن ابي داود 2/225, سير أعلام النبلاء 3/263, المعجم الكبير للطبراني 20/19، وغيرها) .
2- وأخرج في صحيحه أيضا في المناقب, باب مناقب قرابة النبي (صلى الله عليه وآله) ومنقبة فاطمة (عليها السلام) بنت النبي (صلى الله عليه وآله), وقال النبي (صلى الله عليه وآله) : فاطمة سيدة نساء أهل الجنة.
قال : حدثنا ابو الوليد, حدثنا ابن عينية, عن عمرو بن دينار, عن ابن ابي مليكة, عن المسور بن مخرمة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال:
فاطمة بضعة مني, فمن أغضبها أغضبني (صحيح البخاري 5/21 طـ بولاق).
3- وأخرج ايضا في المناقب في باب ذكر أصهار النبي صلى الله عليه وآله منهم ابو العاص بن الربيع (ولم يذكر في الباب حديثا غير الآتي) قال : حدثنا أبو اليمان, أخبرنا شعيب عن الزهري, قال : حدثني علي بن حسين ان المسور بن مخرمة قال : إن عليا خطب بنت ابي جهل, فسمعت بذلك فاطمة, فأتت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالت : يزعم قومك أنك لا تغضب لبناتك, وهذا علي ناكح بنت أبي جهل, فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) فسمعته حين تشهد يقول : أما بعد, فإني أنكحت أبا العاص بن الربيع فحدثني وصدقني, وإن فاطمة بضعة مني, وإني أكره أن يسوءها, والله لا تجتمع بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبنت عدو الله عند رجل واحد . فترك علي الخطبة (صحيح البخاري 5/22 طـ بولاق . صحيح مسلم4/1903 . سنن ابن ماجة 1/644 . مسند أحمد 4 / 326, صحيح ابن حبان 15 / 408) .
وزاد محمد بن عمرو بن طلحة عن ابن شهاب عن علي عن مسور : سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) وذكر صهرا له من بني عبد شمس, فأثنى عليه في مصاهرته اياه فأحسن, قال : حدثني فصدقني, ووعدني فوفى لي .
4- وأخرج ايضا في كتاب النكاح في باب ذب الرجل عن ابنته في الغيرة والإنصاف (ولم يورد في الباب حديثا غير الآتي), قال : حدثنا قتيبة, حدثنا الليث عن ابي مليكة عن المسور بن مخرمة, قال : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول وهو على المنبر : إن بني هشام بن المغيرة استأذنوا في ان ينكحوا ابنتهم علي بن ابي طالب فلا آذن, ثم لا آذن, ثم لا آذن, إلا أن يريد ابن ابي طالب ان يطلق ابنتي وينكح ابنتهم, فإنما هي بضعة مني, يريبني ما رابها, ويؤذيني ما آذاها (صحيح البخاري 7 / 37 طـ بولاق . مسند أحمد 4/328 ) .
5- وأخرج ايضا في كتاب الطلاق, باب الشقاق, وهل يشير بالخلع عند الضرورة, وقوله تعالى (وإن خفتم شقاق بينهما) الآية, (ولم يورد في الباب غير الحديث الآتي, فلاحظ), قال :
حدثنا أبو الوليد, حدثنا الليث عن ابن ابي مليكة عن المسور بن مخرمة الزهري, قال : سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول : إن بني المغيرة استأذنوا في أن ينكح علي ابنتهم فلا آذن (صحيح البخاري 7/47 ط بولاق) .
هذه هي الأحاديث التي ذكرها مسندة في خمسة ابواب, وكأنه لم يكفه ذلك حتى اشار معلقا في أول باب كنية المشرك فقال: وقال مسور : سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول : إلا ان يريد ابن ابي طالب ...
وفي فتح الباري قال : هذا طرف من حديث تقدم, موصولا في باب فرض الخمس(فتح الباري 13 / 213) .
والآن وقد انتهينا من كشف هوية الثلاثة : ابي هريرة, وابن الزبير, والمسور بن مخرمة, نختتم\
اولا : الحديث عنهم بقوله (صلى الله عليه وآله) : والذي نفسي بيده لا يبغضنا رجل إلا أدخله الله النار (أخرجه ابن حبان في صحيحه كما في زوائد لنور الدين الهيثمي موارد الظمآن, ص 555 طـ مصر بتحقيق محمد عبد الرزاق حمزه, والحاكم في المستدرك 3 / 150, وقال : هذا الحديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه, وأخرجه الذهبي في تلخيصه بهامش المستدرك ولم يعلق عليه بشيء) .
وثانياً : قال ان نعود الى مناقشة متن الحديث, ننبه القارئ بحال بعض أعلام الرواة في السند كابن عيينة الذي رمي بالاختلاط, كما ذكره الحافظ برهان الدين سبط ابن العجمي في رسالته (الاعتباط بمن رمي بالاختلاط) (الاعتباط بمن رمي بالاختلاط, ص12 ط حبل 1350 هـ ), وكالزهري الذي كان من المنحرفين عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام), وكان يعمل لبني أمية, وقد تجنب حديثه غير واحد لذلك, حتى إن ابن عساكر اخرج في تاريخه بسنده عن جعفر بن إبراهيم الجعفري, قال ك كنت عند الزهري أسمع منه, فإذا عجوز قد وقفت عليه, فقالت : يا جعفري لا تكتب عنه, فإنه مال إلى بني امية وأخذ جوائزهم, فقلت : من هذه ؟ قال : اختي رقية خرفت, قالت : بل خرفت أنت, كتمت فضائل آل محمد, وقد حدثني محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله, قال : أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيد علي فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه, اللهم وال من والاه وعاد من عاداه, وانصر من نصره واخذل من خذله .
قالت : وحدثني محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله, قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله (تاريخ دمشق (ترجمة الإمام) 2 / 65 ) .
وبلغ إنكار الصالحين عليه ان كتب اليه بعضهم كتابا فيه تقريع وتوبيخ, جاء فيه : واعلم ان ايسر ما ارتكبت واخف ما احتملت, انك آنست وحشة الظالم, وسهلت سبيل الغي بدونك الى من لم يؤد حقا, ولم يترك باطلا حين ادناك, اتخذوك قطبا تدور عليه رحى ظلمهم, وجسرا يعبرون عليه الى بلائهم ومعاصيهم, وسلما يصعدون فيه إلى ضلالتهم, يدخلون بك الشك على العلماء, ويقتادون بك قلوب الجهلاء ... وجاء في آخره : فداو دينك فقد دخله سقم, وهيئي زادك فقد حضر سفر بعيد (( وما يخفى على الله من شيء في الارض ولا في السماء )) (ابراهيم: 38) .
والسلام (ذكر الكتاب بطولة الغزالي في الاحياء 2/143, وابن ابي الحديد في شرح النهج 4/124، والمناوي في فيض القدير 2/407, وهامش الكشف الإلهي 1/122, وكلهم لم يصرحوا باسم الكاتب, لكن الحسن بن شعبة الحراني صرح في كتابة تحف العقول, ص 198 باسمه, وأنه الامام زين العابدين علي بن الحسين (عليه السلام), كما أنه ذكر الكتاب اطول مما ذكره الآخرون, فراجع) .
فمن الغريب العجيب ان يروي الزهري هذا الحديث عن علي بن حسين, ثم يزعم أنه حدثه عن المسور بذلك كما مر في الصورة الأولى عن البخاري .
وإذا عرفنا أن علي بن حسين الذي ذكره بصيغة التنكير هو الإمام علي بن الحسين زين العابدين الذي روى أبو هلال العسكري في كتابه بسنده, قال : بلغ علي بن الحسين رضي الله عنهما أن عروة بن الزبير وابن شهاب الزهري يتناولان عليا ويعبثان به, فأرسل إلى عروة فقال : أما انت فقد كان ينبغي ان يكون نكوص ابيك يوم الجمل وفراره ما يحجزك عن ذكر أمير المؤمنين, والله لئن كان علي على باطل لقد رجع أبوك عنه, ولئن كان على حق لقد فرّ أبوك منه .
وأرسل الى ابن شهاب فقال : وأما أنت يا ابن شهاب فما اراك تدعني حتى أعرّفك موضع كير (الكير بالكسر : زق ينفخ فيه الحداد . راجع شرح النهج 1/359ط الاولى ففيه قريب مما ذكر ابو هلال من تعيير الإمام لابن شهاب الزهري) . أبيك (الصناعتين, ص 13 ط سنة 1320 هـ) .
فمن كان هذا حاله مع الامام امير المؤمنين (عليه السلام) كيف يصدق في زعمه ان علي بن حسين حدثه عن المسور .. وهو الذي قرعه ووبّخه, لا بل حتى عيره بماضي أبيه الوضيع !!
ثم ما بال علي بن حسين يحدث الزهري وهو يعرف عداوته لجده بحديث ـ إن صح ـ فهو انتقاص لجده ؟ وما بال الزهري وهو الذي روى عن عدة من الصحابة, منهم انس, وسهل بن سعد, وحتى عن ابن عمر الذي ذكروا في ترجمته أنه روى عنه ثلاثة أحاديث, ما باله يروي هذا الحديث عن علي بن حسين ـ كما يسميه ـ وهو من التابعين, ولا يرويه عن المسور الصحابي الذي هو يرويه, وهو قد أدركه, وكان أشد لصوقا به من علي بن حسين نسبا وسببا فكلاهما زهري, ولأن اباه والمسور كانا معا من اصحاب ابن الزبير, وإلى ذلك أشار عبد الملك بن مروان حين اتصل به الزهري فاستنسبه فنسب نفسه, فقال عن أبيه : إن كان ابوك لنعارا في الفتن (ترجمة الزهري من تاريخ دمشق, ص 13 بعناية شكر الله قوجاني ط مؤسسة الرسالة ) .
ولقد كان عمر الزهري عند وفاة المسور فوق عمر المسور حين سمع الحديث المزعوم, فقد مر أنه قال كاذبا : سمع الحديث وهو يومئذ محتلم ! والصحيح انه كان ابن ثمان سنين, بينما كان عمر الزهري عند وفاة المسور ثلاث عشرة سنة .
وهكذا سؤال بعد سؤال يوضح ما في الإسناد من خلل, مضافا إلى ما في المتن من علل, ويبقى بلا جواب .
ولنترك حال الرجال وما فيهم من مقال وإشكال, ولنعد الى متن الحديث لنتبين فيه مواطن العلل, ولنقرأه ثانيا حسب وروده في كتاب البخاري ـ الذي هو اصح كتاب بعد كتاب الله عند المغالين فيه ـ ولا نحاسبه على تقطيع اوصاله الى خمسة أحاديث ـ ولا على حشر بعضها تحت عناوين لا تمت اليها بصلة, ولا ... ولا ... فنحن والحديث الأول عنده فنقرأ فيه :
أولاً : قول المسور لعلي بن حسين ـ كما في الحديث : هل لك إلى من حاجة تأمرني بها ؟ فقال : لا .
فهل لنا أن نسأل المسور أي حاجة تلك التي يمكن له ان يقضيها غير ما يتعلق بالسلطة الاموية و التي كان بعد لا يزال ظالعا معها, لأن زمن السؤال قد حدده علي بن حسين حين قدموا المدينة من عند يزيد بن معاوية (بعد) مقتل حسين بن علي رحمة الله عليه, لقيه المسور بن مخرمة فقال له : هل لك ... الخ .
ونحن إذا نظرنا إلى طبيعة الحال في ذلك الوقت نجد أن مقام الإمام ـ علي بن حسين ! ـ أسمى وأرفع مما كان عليه المسور, فإن ما اظهره يزيد من التنصل من تلك الجريمة التي لا تغتفر حتى لعن ابن زياد, وقال : لعن الله ابن مرجانة .. بما استعظموه من قتلي الحسين, مالي ولابن مرجانة لعنه الله وغضب عليه (تاريخ الكامل لابن الاثير 4 /39 ط بولاق) .
قال ابن الأثير : ودعا عليا ليودعه وقال له : لعن الله ابن مرجانة, أما والله لو أني صاحبه ما سألني خصلة أبدا إلا أعطيته إياها, ولدفعت الحتف عنه بكل ما استطعت ولو بهلاك بعض ولدي, ولكن قضى الله ما رأيت, يا بني كاتبني حاجة تكون لك .
وذكر ابن الأثير وغيره ان يزيد بن معاوية لما وجه مسلم بن عقبة المري ـ وهو الذي سمي مسرفا ـ الى المدينة المنورة لمقاتلة أهلها حين خلعوا بيعته, قال له : فإذا ظهرت عليهم فابحها ثلاثا, فكل ما فيها من مال أو دابة او سلاح او طعام فهو للجند, فإذا مضت الثلاث فأكفف عن الناس, وانظر علي بن الحسين فاكفف عنه واستوص به خيرا, فإنه لم يدخل مع الناس, وإنه قد أتاني كتابه .
قال ابن الأثير : وقد كان مروان بن الحكم كلّم ابن عمر لما أخرج أهل المدينة عامل يزيد وبني أمية في أن يغيب أهله عنده فلم يفعل, فكلّم علي بن الحسين فقال : إن لي حرما وحرمي يكون مع حرمك, فقال : أفعل, فبعث بامرأته وهي عائشة ابنة عثمان بن عفان وحرمه إلى علي بن الحسين, فخرج علي بحرمه وحرم مروان الى ينبع, وقيل : بل أرسل حرم مروان وأرسل معهم ابنه عبد الله بن علي الى الطائف (المصدر السابق 4/49) .
وجاء في إرشاد المفيد : ان مسرف بن عقبة لما قدم المدينة ارسل إلى علي بن الحسين (عليه السلام) فأتاه, فلما صار إليه قربه وأكرمه وقال له : اوصاني امير المؤمنين ببرك وتمييزك من غيرك ... الخ (الارشاد, ص 276) .
فمما تقدم تبين ان الامام علي بن الحسين عليه السلام كان أرفع مكانة وأجل قدرا وأقوى موقعا لدى الحاكمين من المسور بن مخرمة, الذي رفسه مروان برجله كما مر, وجلدوه الحد كما تقدم, فهو أذل من أن يتمكن من قضاء حاجة لأحد عند الأمويين .
وثانيا : لنقرأ قول المسور لعلي بن الحسين : فهل انت معطي سيف رسول الله (صلى الله عليه وآله), فإني أخاف أن يغلبك القوم عليه, ونحن لا نناقشه في أمر السيف وكيفية وصوله إلى علي بن الحسين, وهو من مواريث النبوة ... وهذا عنده وقومه ينافي القول بعدم ميراث الأنبياء, ولكن هل لنا أن نسأل المسور : من هم القوم الذين يخشى أن يغلبوا علي بن الحسين على سيف جده غير بني أمية, وإذا كانوا هم فهل كان ذلك قبل واقعة الحرة أو بعدها ؟
فإن كان قبلها فالإمام علي بن الحسين كان أعزّ منه منعة, وهم كانوا أذل وأضعف جندا, خصوصا بعد ان اخرج الامويون واتباعهم من المدينة, حتى ان مروان استودع الامام عياله كما مرّ .
وإن كان بعدها فالإمام هو الوحيد الذي لم يتعرض له بسوء بوصية من يزيد وقد مر ذلك ايضا, فأي حال تلك التي كان المسور يخشاها على الإمام ان يغلب فيها على سيف جدّه ؟
ولو لم يكن ثمة تحديد زمني في الحديث حيث ورد ان المسور لقي علي بن الحسين (عليه السلام) (حين قدموا المدينة من عند يزيد بن معاوية بعد مقتل الحسين بن علي رحمة الله عليه (راجع ذلك في الصورة الاولى من أحاديث البخاري) . أقول : لو لم يكن ذلك التحديد لاحتملنا أن المسور قال ذلك بعد ان بلغه طلب عبد الملك بن مروان من الامام علي بن الحسين ذلك السيف يستوهبه منه ويسأله الحاجة, فأبى عليه, فكتب إليه عبد الملك يهدده وأنه يقطع رزقه من بيت المال, فأجابه (عليه السلام) : أما بعد فإن الله ضمن للمتقين المخرج من حيث يكرهون, والرزق من حيث لا يحتسبون, وقال جل ذكره (إن الله لا يحب كل خوان كفور) (سورة الحج، الآية 38) . فانظر أينا اولى بهذه الآية (المناقب لابن شهرآشوب 3/302 ط النجف, بحار الانوار 46/95 نقلا عن المحاسن للبرقي) .
وفي جواب الإمام علي بن الحسين هذا ما يقطع جهيزة كل متنطّع لتصويب عرض المسور بن مخرمة, فهو لم يخش عبد الملك بن مروان ولا سلطته, وهو هو في عتوه وجبروته .
وثالثا : لنرى ثالثة الأثافي, وتلك هي فرية المسور في قوله : إن علي بن ابي طالب خطب ابنة ابي جهل على فاطمة (عليها السلام), فسمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يخطب الناس في ذلك على منبره هذا وأنا يومئذ محتلم فقال : إن فاطمة بضعة مني ... الخ .
الا مسائل : ما هو الربط في هذه الرواية بين قصة طلبه السيف وبين قصة الخطبة المزعومة ؟
والجواب هو ما أربك شرّاح صحيح البخاري فصالوا وجالوا , ليوافقوا بين القصتين فلم يوفقوا .
وللطرافة ننقل للقارئ بعض ما ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري حيث قال : وقال الكرماني : مناسبة ذكر المسور لقصة خطبة بنت ابي جهل عند طلبه للسيف من جهة ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يحترز عما يوجب التكدير بين الأقرباء, أي فكذلك ينبغي ان تعطيني السيف حتى لا يحصل بينك وبين أقربائك كدورة بسببه, أو كما أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يراعي جانب بني عمه العبشميين فأنت ايضا راع جانب بني عمك النوفليين, لأن المسور نوفلي (فتح الباري 7/22) .
أقول : هكذا قال, والصحيح ان المسور زهري لا نوفلي .
ثم قال : أو كما أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يحب رفاهية خاطر فاطمة (عليها السلام) فأنا ايضا أحب رفاهية خاطرك لكونك ابن ابنها, فاعطني السيف حتى أحفظه لك .
قلت ـ والقائل هو ابن حجر : وهذا الاخير هو المعتمد, وما قبله ظاهر التكليف, وسأذكر إشكالا يتعلق بذلك في كتاب المناقب إن شاء الله تعالى .
أقول : وما ذكره في كتاب المناقب ليس إلا تعليقة على الحديث الثاني في شرح قوله (صلى الله عليه وآله) : (فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني) فقال : وهو طرف من صفة خطبة علي ابنة ابي جهل, وسيأتي مطولا في ترجمة أبي العاص بن الربيع قريبا, وهذا ليس فيه أي إشكال .
وأما ما ذكره في كتاب المناقب ايضا في ترجمة ابي العاص بن الربيع وهو الحديث الثالث كما مر, فقد قال : وإنما خطب النبي (صلى الله عليه وآله) ليشيع الحكم المذكور بين الناس ويأخذوا به, إما على سبيل الإيجاب, وإما على سبيل الأولوية, وغفل الشريف المرتضى عن هذه النكتة فزعم ان هذا الحديث موضوع, لأنه من رواية المسور وكان فيه انحراف عن علي, وجاء من رواية ابن الزبير وهو اشد من ذلك, ورد كلامه بإطباق اصحاب الصحيح على تخريجه ! انتهى ما عند ابن حجر وهو خلاصة ما سطر (فتح الباري 8 / 87) .
الا على العقول العفا إن كان هذا الرد الباهت يصلح لرد قول الشريف المرتضى, وكم في تلكم الكتب من اخبار موضوعة وقد نقدوها سندا ودلالة, وابن حجر نفسه في مقدمة شرحه التي سماها (هدى الساري) ذكر شواهد كثيرة لا يسع المقام ذكرها فلتراجع .
ثم كان ما أورده اصحاب الصحيح انزل من اللوح المحفوظ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, ولو انصف ابن حجر نفسه قبل انصافه الشريف المرتضى فلم يذكر رده الذي هو غاية ما عنده, لكان به اولى وعليه أبقى .
ثم إنه أطال الكلام في الاختلاف في اسم المخطوبة من بنات ابي جهل, كما أطال في شرح قوله ك (حدثني فصدقني) . ولم يأت بطائل .
ورابعا : نعود الى قول المسور : فسمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يخطب الناس في ذلك على منبره هذا وأنا يومئذ محتلم .
وهذا من أكاذيبه التي أربكت شراح الصحيح ايضا فقالوا وقالوا, وإلى القارئ بعض ما قالوا :
قال ابن سيد الناس : هذا غلط, والصواب ما وقع عند الإسماعيلي بلفظ كالمحتلم!!
قال : والمسور لم يحتلم في حياة النبي (صلى الله عليه وآله), لأنه ولد بعد ابن الزبير, فيكون عمره عند وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) ثمان سنين ...
ثم قال ابن حجر : قلت كذا جزم به وفيه نظر, فإن الصحيح ان ابن الزبير ولد في السنة الاولى, فيكون عمره عند الوفاة النبوية تسع سنين, فيجوز أن يكون احتلم في أول سني الإمكان ! أو يحتمل قوله : (محتلم) على المبالغة والمراد التشبيه, فتلتئم الروايتان, وإلا فابن ثمان سنين لا يقال له محتلم ولا كالمحتلم, إلا ان يريد بالتشبيه انه كان كالمحتلم في الحذق والفهم والحفظ ن والله أعلم (فتح الباري 11/241) .
فانظر بربك الى هذا التمحل الفاسد, في توجيه كلام المسور المعاند, فهل تجد له في كلام ابناء آدم من شاهد ؟ هذا ما يتعلق بأول حديث رواه البخاري, أما حديثه الثاني فليس فيه ما يستدعي المناقشة والوقوف عنده, وإنما هو جزء من الحديث الأول .
وأما الحديث الثالث وفيه قال المسور :
إن عليّاً خطب بنت ابي جهل فسمعت بذلك فاطمة, فأتت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالت : يزعم قومك أنك لا تغضب لبناتك, وهذا علي ناكح بنت أبي جهل .
أقول : ومن قول فاطمة (عليها السلام) لأبيها يظهر ان الأذى كان قد لحق ببنات النبي (صلى الله عليه وآله) قبلها من أزواجهن فلم يغضب لهن, حتى ذكرت له زعم قومه أنه لا يغضب لبناته مستثيرة فيه غيرته وحميته وشففته .
وإذا صح زعم المسور في ذلك فالنقد يتوجه ألى أصهار النبي (صلى الله عليه وآله) عدا ابي العاص الذي خصه البخاري بالعنوان وذكره المسور في حديثه, فلا يبقى إذن سوى عثمان الذي كانت عنده أم كلثوم ورقية وماتتا عنده, وإليه يتوجه النقد, فهل شعر المسور بذلك ؟ وهل يقبله وهو الذي كان مع عثمان كما مر ؟ ولعل من أجل هذا أعرض شراح الصحيح عن شرح هذه الجملة من حديثه, خصوصا الحافظ ابن حجر الذي تخطى ذلك الى شرح جملة (وهذا علي ناكح بنت أبي جهل), فقال : وفي رواية الطبراني عن ابي زرعة عن ابي اليمان (وهذا علي ناكحا) بالنصب, وكذا عند مسلم من هذا الوجه . أطلقت عليه اسم ناكح مجازا باعتبار ما كان قصد يفعل ...
واختلف في اسم ابنة أبي جهل ...
فاستعرض الأقوال في اسمها, ولا يعنينا تحقيق ذلك كثيرا الآن ...
إلى ان قال في شرح قوله : (حدثني فصدقني) لعله كان شرط على نفسه ان لا يتزوج على زينب, وكذلك علي, فإن لم يكن كذلك فهو محمول على ان عليا نسي ذلك الشرط, فلذلك اقدم على الخطبة, أو لم يقع عليه شرط, إذ لم يصرح بالشرط, فلذلك أقدم على الخطبة, أو لم يقع عليه شرط, إذ لم يصرح بالشرط, لكن كان ينبغي له ان يراعي هذا القدر, فلذلك وقعت المعاتبة, وكان النبي (صلى الله عليه وآله) قل ان يواجه احدا بما يعاب به, ولعله انما جهر بمعاتبة علي مبالغة في رضا فاطمة (عليها السلام), وكانت هذه الواقعة بعد فتح مكة, ولم يكن حينئذ تأخر من بنات النبي (صلى الله عليه وآله) غيرها, وكانت أصيبت بعد أمها بأخوتها, فكان إدخال الغيرة عليها مما يزيد حزنها .
هذا ما قاله اشهر شراح الصحيح ان لم يكن أعلمهم, فاقرأ ذلك واحكم عليه بما تقتضيه شريعة الإنصاف دون اعتساف .
ولنعد إلى فقرات الحديث لنقارن بينها وبين ما مر عنه في الحديث الأول في تحقيق النص الذي سمعه من النبي (صلى الله عليه وآله) فسنجد بينهما من التفاوت ما يدعو الى الريبة في الأمر, حتى في الصحيح, لاتفاق سند الحديثين من الزهري الى المسور, وإنما ذكر البخاري الحديث الاول عن محمد بن عمرو بن طلحة عن الزهري, والحديث الثاني ذكره عن شعيب عن الزهري, ثم قال : وزاد محمد بن عمرو بن طلحة ... الخ, فذكر بعضا من تلك الزيادة خصوصا جملة : (وإني لست أحرم حلالا, ولا أحل حراما), فراجع الحديث وقارن بينهما بدقة, لترى مدى التفاوت متنا مع اتحاد السند, وأنه لأمر مريب ! .
يتبع
اللهم صل على محمد و على آل محمد الطيبين الطاهرين وعلى أصحابهم المنتجبين..
قرأت في الكثير من المواقع السنية عن زواج الإمام علي بن أبي طالب سلام الله عليه من ابنة أبي جهل.. ( جويرية بنت أبي جهل)..
ولكن رسول الله غضب من ذلك وأخبره (أي الإمام علي) بأن ابنة رسول الله لا تجتمع من ابنة عدو الله..فهل هذه الرواية صحيحة.. أي أن الامام علي عليه السلام قد خطب ابنة ابي جهل عدو الله ورسوله.. وأنه تركها بعدما غضب النبي (ص).. أليس رسول الله (ص) قال.. فاطمة بضعة مني من أغضبها فقد أغضبني.
ومن يغضب رسول الله فقد أغضب الله سبحانه وتعالى، والإمام علي إمام معصوم...فهل هذه الرواية صحيحة...وإن كان الإمام علي عليه السلام قد خطبها فعلا ثم تركها...هل يعد ذلك من موارد إغضاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
أرجو افادتي بالجواب سريعا.ولكم جزيل الشكر والتقدير
الإجابة
الأخ يونس المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أشاعوا أن عليّا خطب ابنة أبي جهل ـ عدو الله ورسوله ـ وبلغ ذلك السيدة فاطمة (عليها السلام) فغاضها ذلك, حتى خرجت مغاضبة من بيتها ومعها حسن وحسين وأم كلثوم, فدخلت حجرة النبي (صلى الله عليه وآله), فلما جاء النبي ورآها قالت له : يزعم قومك أنك لا تغضب لبناتك, وهذا علي ناكح بنت أبي جهل, فخرج وصعد المنبر وخطب فقال : (إن فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها, ويؤذيني ما آذاها, وأنا أتخوف أن تفتن في دينها) . ثم ذكر صهرا له من بني عبد شمس فأثنى عليه في مصاهرته إياه, وقال : حدثني فصدقني, ووعدني فوفى لي, وإني لست أحرّم حلالا ولا أحل حراما, ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبنت عدو الله أبداً, وإن بني هشام بن المغيرة استأذنوني في أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب, فلا آذن ثم لا آذن, إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح أبنتهم ...
هذا هو ما افتراه قاله السوء, وحيث إن هذه الفرية لا تثبت سندا ولا متنا, ولو أردنا كشف حال جميع ما ورد في ذلك من أحاديث في مختلف المصادر لاحتجنا إلى تأليف خاص به ولسنا بصدده, ويكفي أن أشير إلى مصدر واحد يعدّ من أقدم المصادر الحديثية, وذلك هو كتاب المصنّف لعبد الرزاق بن همام الصنعاني المتوفى سنة 211هـ, فقد أورد الحديث أربع مرات لم يخل واحد منها عن إعضال وإرسال مع وجود المجروحين في رجال الأسانيد .
أما بقية المصادر التي ذكرت الحديث مسندا إلى الصحابة أو مرسلا عن التابعين فهي:
1- صحيح البخاري وسيأتي ذكر موارده .
2- صحيح مسلم, باب فضائل فاطمة في أربعة أحاديث ستأتي الإشارة إليها .
3- سنن الترمذي في كتاب المناقب, فضل فاطمة في حديثين .
4- سنن ابن ماجة في كتاب النكاح, باب الغيرة في حديثين .
5- سنن أبي داود في كتاب النكاح, في ثلاثة أحاديث .
6- مستدرك الحاكم 3 / 108 في ثلاثة أحاديث .
7- المصنف لابن ابي شيبة 12/128 حديث واحد رواه بسنده عن عامر الشعبي.
8- مسند أحمد 4/326 ـ 328 في أحاديث المسور بأربعة أسانيد, وفي 4/5 في حديث عبد الله بن الزبير حديث واحد .
9- فضائل الصحابة لأحمد 2 / 754 في ثمانية أحاديث .
10- مجمع الزوائد 9/203 نقلا عن الطبراني في الثلاثة وعن البزار باختصار عن ابن عباس, وقال : وفيه عبيد الله بن تمام وهو ضعيف .
11- كنز العمال 13/677 نقلا عن عبد الرزاق في حديثين, وفي 14/158 حديث موضوع على لسان علي يعترف فيه بخطبته لابنة أبي جهل, وسيأتي ذكره .
12- المطالب العالية لابن حجر 4/67 .
13- ابن شاهين في فضائل فاطمة .
وربما يوجد غير ذلك من المصادر الثانوية, فلا حاجة بنا إلى التقصي عنها, لكن المهم معرفة حال الرواة الذين تنتهي إليهم أسانيد الحديث في جميع تلكم المصادر .
لذا كان لزاماً تسليط الضوء على رجال الإسناد من الصحابة والتابعين فقط, ثم بيان المؤاخذات على ما جاء في المتن .
أما رجال الإسناد من الصحابة فتنتهي الى ثلاثة, كلهم من المنحرفين عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام), وهم :
أبو هريرة الدوسي, وعبد الله بن الزبير, والمسور بن مخرمة كما يروي عن ابن عباس وسيأتي بيانه .
أقول : أمر عظيم كهذا يغضب النبي (صلى الله عليه وآله) حتى يصعد المنبر ويخطب الناس تتوفر الدواعي على نقله, ثم لا ينقله إلا هؤلاء الثلاثة من الصحابة لدليل على وضع الحديث, ويكفي كشف حال هؤلاء الثلاثة عن البحث في بقية من هم دونهم من التابعين ممن روى عنهم أصحاب الصحاح والمسانيد والسنن, وفيهم من لا تلتقي بذمه الشفتان, ولا يؤبه به في الميزان, لما فيه من حسيكة, امثال الزهري, وابن ابي مليكة لما سنذكره عنهما, وعروة بن الزبير, وعامر الشعبي, وحالهم كمن سبق, ويأتي ذكر محمد بن الحنفية, وعلي بن الحسين, وسويد بن غفلة مضافا الى التابعين .
أما حال الصحابة الثلاثة فهم :
أولا :
ابو هريرة الدوسي : ذكر الاسكافي كما في شرح النهج المعتزلي الحنفي ان معاوية وضع قوما من الصحابة وقوما من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي (عليه السلام), تقتضي الطعن فيه والبراءة منه, وجعل لهم على ذلك جعلا يرغب في مثله, فاختلقوا ما أرضاه, منهم ابو هريرة, وعمرو بن العاص, والمغيرة بن شعبة, ومن التابعين عروة بن الزبير ...
ثم قال بعد كلام طويل : وأما أبو هريرة فروى عنه الحديث, معناه أن عليا (عليه السلام) خطب ابنة أبي جهل في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأسخطوه فخطب على المنبر وقال : لاها الله لا تجتمع ابنة ولي الله وابنة عدو الله ابي جهل, إن فاطمة بضعة مني, يؤذيني ما يؤذيها, فإن كان علي يريد ابنة ابي جهل فليفارق ابنتي وليفعل ما يريد . أو كلاما هذا معناه, والحديث مشهور من رواية الكرابيسي .
قال ابن ابي الحديد : قلت : هذا الحديث أيضا مخرج في صحيحي مسلم والبخاري عن المسور بن مخرمة الزهري, وقد ذكره المرتضى في كتابه المسمى (تنزيه الانبياء والأئمة), وذكر أنه رواية حسين الكرابيسي وأنه مشهور بالانحراف عن أهل البيت عليهم السلام .
أقول : ولنعد الى أبي هريرة, ولنقرأ عنه ما يثبت انحرافه عن الامام (صلى الله عليه وآله) مضافا الى كذبه الشائع الذائع على النبي (صلى الله عليه وآله), حتى لقد ذكر ابن عساكر في تاريخه, والسيوطي في جمع الجوامع كما في ترتيبه كنز العمال, وابن ابي الحديد في شرح النهج وغيرهم ضرب عمر له بالدرة, وقال : قد أكثرت من الرواية, وأحربك ان تكون كاذبا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) .
وأكذبه غير واحد من الصحابة, فقال فيه الامام (عليه السلام) : ألا إن أكذب الناس أو قال أكذب الاحياء على رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبو هريرة الدوسي (كما عن الإسكافي في شرح النهج) .
فأبو هريرة وحديثه إن صح عنه فهو كبقية أحاديثه التي رواها ولم يكن حاضرا فيها زمان صدورها, وقد مرت الاشارة الى نماذج من ذلك كحديث تبليغ براءة, وحديث الثقلين , وحديث الغدير وغيرها مما زعم سماعها وهو لم يكن وقتها حاضرا, بل كان بالبحرين .
ثم إن الرجل لو لم يكن إلا اعتزاله للإمام (عليه السلام) أيام خلافته, وضلوعه في ركاب معاوية لإشباع نهمته, لكفى ذلك في ردّ روايته, كيف لا وهو الذي ضرب على صلعته في مسجد الكوفة حين جاء مع معاوية في حاشيته, فلما رأى كثرة من استقبله من الناس جثا على ركبتيه, ثم ضرب صلعته مرارا وقال : يا أهل العراق اتزعمون اني اكذب على رسول الله وأحرق نفسي بالنار ؟ والله لقد سمعت رسول الله يقول : لكل نبي حرم, وإن حرمي بالمدينة ما بين عير إلى ثور(وهذا من بينات كذبه, فعير وثور اسم جبلين, أحدهما بالمدينة وهو عير, وثانيهما بمكة وهو ثور, فكيف يحدد ما بينهما ويجعله حرما للمدينة ؟! وإنما الصحيح : ما بين عير إلى وعير, وهما لابتا المدينة جبلان من جانبيها . ), فمن أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين, وأشهد بالله ان عليا أحدث فيها ...
فلما بلغ معاوية قوله, أجازه وأكرمه وولاه إمارة المدينة (شرح النهج لابن ابي الحديد المعتزلي 1 / 359 طـ الأولى ) .
قال الثقفي في كتابه الغارات : لما دخل معاوية الكوفة دخل ابو هريرة المسجد, فكان يحدّث ويقول : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله), وقال ابو القاسم, وقال خليلي ! فجاءه شاب من الأنصار يتخطى الناس حتى دنا منه, فقال : يا أبا هريرة حديث أسالك عنه, فإن كنت سمعته من النبي (صلى الله عليه وآله) فحدثنيه, أنشدك بالله سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول لعلي :
من كنت مولاه فعلي مولاه, اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ...
قال أبو هريرة : نعم والذي لا إله إلا هو لسمعته (أقول : لقد كذب حتى في حلفه هذا, لأن الحديث هو حديث الغدير, وكان في حجة الوداع, ولم يكن أبو هريرة حاضرا, إذ كان بالبحرين منذ شهر ذي القعدة سنة 8 من الهجرة, وحتى سنة عشرين حين استقدمه عمر في خلافته للشهادة على قدامة بن مظعون لشربة الخمر, فكل ما يرويه من أحاديث نبوية وأحداث حجازية مما زعم فيه عنصر المشاهدة والسماع في تلك المدة فهو كاذب وإن أقسم ألف يمين) . من النبي (صلى الله عليه وآله) يقول لعلي : من كنت مولاه فعلي مولاه, اللهم وال من والاه, وعاد من عاداه ...
فقال له الفتى : لقد والله واليت عدوّه, وعاديت وليّه, فتناول بعض الناس الشاب بالحصى, وخرج ابو هريرة فلم يعد إلى المسجد حتى خرج من الكوفة (الغارات, ص 568) .
أقول : روى ذلك ايضا ابن ابي شيبة في المصنف (المصنف 12/68) . والسمعاني في فضائل الصحابة, وابن عساكر في تاريخه (تاريخ دمشق (ترجمة الإمام) 2 / 72) .
إلا أنه لم يذكر الزمان والمكان, مما أسدل غشاء الإيهام على حديثه, وكذلك رواه ابن كثير في السيرة النبوية (السيرة النبوية 4 /426 ), وصنع كما صنع ابن عساكر من إهمال ذكر المكان والزمان, نقلا عن الحافظ ابي يعلى الموصلي وعن ابن جرير في الكتاب الذي جمع فيه طرق حديث الغدير وألفاظه, ولا غرابة في صنع ابن كثير, فهو أيضاً شامي .
وأظن أنما فعلا ذلك رعاية لصحبة أبي هريرة, ولا غضاضة فابن عساكر شامي شافعي, وكذلك ابن كثير, ولو كانا كوفيين حنفيين لاستثنياه من جماعة الصحابة المعدلين كما صنع أبو حنيفة, فقد استثناه واستثنى أنسا وآخرين من عدالة الصحابة (راجع سؤال أبي يوسف له في ذلك في شرح النهج للمعتزلي الحنفي 1 / 360 طـ الأولى, شرح صحيح مسلم للنووي ج4) . فهذا أبو هريرة ـ الرواية ـ كيف يصدق في حديثه عن خطبة الامام لابنة ابي جهل وهو يوالي عدوه ويعادي وليّه على حد قول الشاب الأنصاري .
ثانيا :
عبد الله بن الزبير : وعداوته للإمام أظهر من أن تحتاج إلى بيان, بل بلغ في نصبه الغاية حتى إنه ترك الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله) أيام قيامه بمكة, فعيب عليه ذلك, وأنكر فعله المسلمون فقال : إن له أهيل سوء, إذا ذكرته اشرأبت أعناقهم (قال ابن ابي الحديد في شرح النهج 1 / 358 طـ الاولى : روى عمر بن شبة وابن الكلبي والواقدي وغيرهم من رواة السير : أنه مكث أيام ادعائه الخلافة اربعين جمعة لا يصلي فيها على النبي (صلى الله عليه وآله) وقال :لا يمنعني من ذكره الا تشمخ رجال بآنافها) .
وفي رواية : إن له أهيل سوء ينغضون رؤوسهم عند ذكره (نفس المصدر) .
ولئن قيل عن المسور : (إنه كان مع خاله عبد الرحمن بن عوف مقبلا ومدبرا في أمر الشورى) كما سيأتي, فإنا نقول عن ابن الزبير : لقد كان مقبلا ومدبرا في حرب الجمل مع خالته عائشة, وكان هو الذي زيّن لها مسيرها الى البصرة (شرح النهج 1/ 363 ) .
وهو الذي أتى إليها بأربعين شاهد زور شهدوا حين نبحتها كلاب الحوأب وأرادت الرجوع لتحذير النبي (صلى الله عليه وآله) لها من ذلك, لكن ابن الزبير جاءها بالشهود, فشهدوا أن ذلك المكان ليس هو الحوأب, فكانت أول شهادة زور في الإسلام.
وهو الذي عيّر أباه بالجبن حين عزم على الرجوع عن محاربة الإمام بعد تذكير الإمام له بقول النبي (صلى الله عليه وآله) : بأنك ستقاتله وأنت له ظالم .
فرجع فتلقاه ابنه عبد الله فعيّره مستثيرا له على حرب الإمام, ويكفينا قول الإمام فيه : ما زال الزبير منا حتى شب أبنه عبد الله .
أليس هو الذي كان يحقد على الامام لقتله عم أبيه نوفل بن خويلد الذي كان يقال له أسد قريش وأسد المطيّبين ؟ وقتل الإمام له هو قول عامة الرواة كما يقول ابن حزم في الجمهرة (الجمهرة, ص 120) .
أليس هو الذي حبس ابن عباس وابن الحنفية ومن معهما من أهلهما في سجن عارم, وأملهم إلى الجمعة, إن لم يبايعوا أحرقهم وسط الشعب, وجعل الحطب على بابه, ففاجأه أبو عبد الله الجدلي الذي أرسله المختار في جماعة, فدخلوا المسجد الحرام مكبّرين وعليهم السلاح, فخرج ابن الزبير طالبا لنفسه النجاة, وذهب الجدلي و من معه فأخرجوا بني هاشم من سجن عارم .
وهو القائل لابن عباس وكان يبلغه تأنيبه وذمه : إني لأكتم بغضكم أهل اذا البيت منذ أربعين سنة (شرح نهج البلاغة 1/358 ) .
قال ابن ابي الحديد المعتزلي في شرح النهج : وكان سبّابا فاحشا, يبغض بني هاشم, ويلعن ويسب علي بن ابي طالب (عليه السلام) (نفس المصدر 1 / 363) .
فمن كان هذا حاله ومقاله وفعاله كيف يصدق في حديثه لخطبة علي لابنة ابي جهل, فيما أخرجه عنه الترمذي في سننه, قال : حدثنا أحمد بن منيع, اخبرنا إسماعيل بن علية عن أيوب عن ابن ابي مليكة عن عبد الله بن الزبير أن عليا ذكر بنت أبي جهل, فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله) فقال : إنما فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها وينصبني ما أنصبها .
ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح, هكذا قال أيوب عن ابن ابي مليكة عن ابن الزبير, وقال غير واحد : عن ابن أبي مليكة عن المسور بن مخرمة, ويحتمل أن يكون ابن ابي مليكة روى عنهما جميعا (سنن الترمذي 5/699 نشر المكتبة الإسلامية, تحفة الأحوذي 10/371) . وأخرج هذا الحديث الحاكم في المستدرك, فقال : حدثنا بكر بن محمد الصيرفي, ثنا موسى بن سهل بن كثير, ثنا إسماعيل بن علية ... ثم ساق السند والحديث كما مر عن الترمذي, وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين, ولم يخرجاه (المستدرك 3 / 159 ) .
والذي يلفت النظر في المقام ان الذهبي أهمل هذا الحديث في تلخيصه المطبوع بذيل المستدرك, وظني أن إهماله كان عن عمد لا عن سهو .
ومهما يكن فسند الحديث غير نقي, ويكفي روايته عن ابن ابي مليكة, وهو مؤذن ابن الزبير وقاضيه, وقد مر بنا حال ابن الزبير وعداوته لاهل البيت, ويبدو لي ان ابن الزبير كان بارعا ـ إن صح الحديث عنه ـ فلم يذكر له ما يحاقق عليه من زعم حضور او سماع, مع ان سنه عند وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) كانت تسع سنين, فكان أكبر من المسور بسنة .. الذي زعم أنه سمع النبي (صلى الله عليه وآله) يخطب وهو يومئذ محتلم . مع أن عمره كان يومئذ ثماني سنين !! والآن فلنطو صفحة ابن الزبير, ولنقرأ المسور فيما قاله عنه مترجموه, ثم ننظر في حديثه ...
ثالثا :
المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري : أما ابوه فكان من مسلمة الفتح, ومن المؤلفة قلوبهم, ومن الدرجة الدنيا منه م نفقد ذكر ابن هاشم في سيرته نقلا عن ابن اسحاق اسماء من اعطاهم النبي (صلى الله عليه وآله) مائة من الابل, وعد منهم ابا سفيان وابنه معاوية وآخرين, ثم قال : واعطى دون المائة رجالات من قريش منهم مخرمة بن نوفل الزهري وسمى آخرين ...
وأخيراً هو الذي قال عنه (صلى الله عليه وآله) فيما روته عائشة : (بئس أخو لعشيرة), وذلك حين استأذن, فلما دخل بش به, فلما خرج قالت له عائشة في ذلك, فقال : يا عائشة اعهدتني فحاشا ؟ إن شر الناس من يتّقي شرّه (تاريخ الاسلام للذهبي 2/1316) .
وأما أمة فهي عاتكة بنت عوف أخت عبد الرحمن بن عوف .
وأما عن مولده فقالوا بعد الهجرة بسنتين بمكة, وقدم المدينة مع أبيه بعد الفتح سنة ثمان وهو غلام ايفع ابن ست سنين, وعدّه ابن الاثير وابن عبد البر وابن حجر في كتبهم في الصحابة منهم, إلا ان ابن قتيبة قال في المعارف : وكان يعدل بالصحابة وليس منهم . (المعارف, ص 429) .
وأما عن سلوكيته فقالوا : لم يزل مع خاله عبد الرحمن بن عوف مقبلا ومدبرا في أمر الشورى, وكان مع عثمان في الدار إلى أن قتل فانحدر إلى مكة, ولم يزل بها مواليا لمعاوية حتى قال عروة بن الزبير : فلم أسمع المسور ذكر معاوية إلا صلى عليه (سير أعلام النبلاء 3 / 263 .
وذكروا أنه كره بيعة يزيد بن معاوية, ولعل ذلك لما قال ابن قتيبة في المعارف :
وكان المسور قال : إن يزيد بن معاوية يشرب الخمر, فبلغه ذلك فكتب الى امير المدينة فجلده الحد, فقال المسور :
أيشربها صرفا يفك ختامها ابو خالد ويجلد الحد مسور (المعارف, ص429, وفي عجز البيت زحاف ظاهر, ويرتفع بتقديم الحد على (ويجلد) فيكون هكذا : ابو خالد والحد يجلد مسور) .
وفي ترجمته في الاستيعاب نقل ابن عبد البر عن مالك بن أنس انه قال : بلغني ان المسور بن مخرمة دخل على مروان فجلس معه وحادثه, فقال المسور لمروان في شيء سمعه : بئس ما قلت . فركضه مروان برجله, فخرج المسور ...
وأما عن فضله فقال ابن عبد البر وغيره : وكان المسور لفضله ودينه وحسن رأيه تغشاه الخوارج, تعظمه وتنتحل رأيه, وقد برأه الله منهم !!
وأما عن موته فقالوا : كان مع ابن الزبير, فلما حاصر الحصين بن نمير مكة ورمى الكعبة بالمنجنيق أصابه حجر فشجه, ثم مات بعد خمسة أيام .
هذه هوية الرجل نسبا وحسبا ودينا وسلوكا .. فأبوه من مسلمة الفتح ومن المؤلفة قلوبهم من الدرجة الثانية ـ إن صح التعبير ـ وبعد هو بئس أخو العشيرة, ثم هو بعد من شر الناس إذ يتقي (صلى الله عليه وآله) شره ... وأمه اخت عبد لرحمن بن عوف فهو خاله, وقالوا : (الخال أحد الضجيعين) كناية عن تأثير طباع الأخوال في ابناء الأخت إذ هم ينزعون إليهم بعرق, ثم هو صهره فقد كانت عنده جويرية بنت عبد الرحمن بن عوف (نسب قريش لمصعب الزبيري, ص 269 ) .
هذا ما لمسناه في سلوكية المسور حيث قالوا : كان مع خاله عبد الرحمن ابن عوف ولم يزل مقبلا ومدبرا في أمر الشورى, وموقف ابن عوف فيها معلوم, حتى عناه الإمام بقوله في خطبته الشقيقية : ومال الآخر لصهره .
فإن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وهي أخت عثمان من أمّه كانت تحت أبن عوف (شرح النهج 1/63), وقال له : والله ما ولّيت عثمان إلا ليرد الأمر إليك (تاريخ ابن الأثير 3/30 طـ بولاق ). ومما يزيدنا وضوحا في عثمانيته انه لم يبايع الامام بعد مقتل عثمان, وخرج من المدينة الى مكة, ثم هو الذي كان يصلي على معاوية إذا ذكره كما مر ذلك عن عروة بن الزبير .
وأخيرا دخل مع ابن الزبير في أمره, وانتحل الخوارج رأيه حيث استقطبوه, وإن قال ابن عبد البر وأبن حجر وغيرهما : (وقد برأه الله منهم), ولسنا بحاجة الى مناقشتهم في ذلك, فمن اين علموا بتلك البراءة والله لم يوح الى احد بعد نبيه ؟؟ فلا تزال دعواهم تحتاج الى إثبات, على أن مصعب الزبيري ـ صاحب كتاب نسب قريش ـ ذكر ذلك ولم يزعم ما قالوه في براءته, و هو أقدم منهما زمانا, وأعرف بحال المسور .
ولننظر إلى حديث المسور في الفرية المزعومة, وهو حديث أخرجه عنه البخاري ومسلم والترمذي واحمد وغيرهم, ولن نستقصي جميع مصادر, بل سنكتفي بما أخرجه البخاري في صحيحه وقد نشير الى ما ورد عند غيره, وذلك لان صحيحه عند المغالين به اصح كتاب بعد كتاب الله فيما يزعمون !.. ولأنه ذكر حديث المسور في خمسة ابواب مقطعا اوصاله عن عمد, حتى يخيل للناظر انه ذكر خمسة أحاديث مختلفة الألفاظ, ولكن الباحث الناقد يدرك ان اختلاف الصورة لا يغير الحقيقة, وهذا ما أربك كثيرا من شراح الصحيح, فحاولوا جهدهم توجيه ما فيها من تناقض وتهافت, ولم يوفقوا في سعيهم الحثيث, في دفع ما يرد على الحديث, بل شوشوا أذهان قرائهم, ولم يجنوا غير مضيعة الوقت في عرض آرائهم تبعا لأهوائهم .
ولو أنهم صنعوا صنع ابن قتيبة لجنبوا انفسهم كثير ا من النقد والرد, فابن قتيبة في معارفة كان أوعى منهم حين قال عن المسور : (وكان يعدل بالصحابة وليس منهم), ثم قال : وقد روى قوم عنه أنه سمع النبي (صلى الله عليه وآله) يقول : لو أن بني هشام بن المغيرة استأذنوني في أن ينكحوا ابنتهم علي بن ابي طالب فلا آذن ثم لا آذن .
فهو حين ينفي صحابية المسور, ينفي عنه عاصمية الصحابة, سواء قرئت جملة وكان يعدل ) بالتخفيف او التشديد . ثم يمرض القوم في زعم روايته عن النبي (صلى الله عليه وآله) انه سمعه يقول ... وهو يدلنا على عدم قناعته بصحبة المسور كما كشف عن قيمة روايته عنده, وما اقتضابه لحديثه إلا مؤشر على ذلك .
ثم ما يعنيه بقوله : (لو أن بني هشام) الخ, فهل يدل على حدوث الخطبة او إرادتها, وهذا ما سنقرأ الجواب عنه في الكلام على حديث المسور عند البخاري في صوره الآتية :
1- أخرج البخاري في صحيحه في كتاب فرض الخمس باب ما ذكر من درع النبي (صلى الله عليه وآله) وعصاه وسفيه وقدحه وخاتمه, و ما استعمل الخلفاء بعده من ذلك مما لم يذكر قسمته, ومن شعره ونعله وآنيته مما يتبرك اصحابه وغيرهم بعد وفاته .
قال : حدثنا سعيد بن محمد الجرمي, حدثنا يعقوب بن إبراهيم, حدثنا ابي ان الوليد بن كثير حدثه عن محمد بن عمرو بن طلحة الذي حدثه, ان ابن شهاب حدثه, ان علي بن الحسين حدثه, انهم حين قدموا المدينة من عند يزيد بن معاوية (بعد) مقتل حسين بن علي رحمة الله عليه, لقيه المسور بن مخرم فقال له : هل لك إلي من حاجة تأمرني بها ؟ فقلت له : لا . فقال : فهل انت معطي سيف رسول الله (صلى الله عليه وآله), فإني أخاف ان يغلبك القوم عليه, وأيم الله لئن اعطيتنيه لا يخلص إليه ابدا حتى تبلغ نفسي, إن علي بن ابي طالب خطب ابنة ابي جهل على فاطمة (عليها السلام), فسمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يخطب الناس في ذلك على منبره هذا, وأنا يومئذ محتلم, فقال : إن فاطمة بضعة مني, وأنا اتخوف ا ن تفتن في دينها, ثم ذكر صهرا له من بني عبد شمس فأثنى عليه مصاهرته إياه, قال : حدثني فصدقني, ووعدني فوفى لي, وإني لست أحرم حلالا, ولا أحل حراما, ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبنت عدو الله أبداً .
(صحيح البخاري 4/83 طـ بولاق, صحيح مسلم 4 / 326, باب مناقب فاطمة . مسند أحمد 4/326 ط مصر الأولى . سنن ابي داود 2/225, سير أعلام النبلاء 3/263, المعجم الكبير للطبراني 20/19، وغيرها) .
2- وأخرج في صحيحه أيضا في المناقب, باب مناقب قرابة النبي (صلى الله عليه وآله) ومنقبة فاطمة (عليها السلام) بنت النبي (صلى الله عليه وآله), وقال النبي (صلى الله عليه وآله) : فاطمة سيدة نساء أهل الجنة.
قال : حدثنا ابو الوليد, حدثنا ابن عينية, عن عمرو بن دينار, عن ابن ابي مليكة, عن المسور بن مخرمة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال:
فاطمة بضعة مني, فمن أغضبها أغضبني (صحيح البخاري 5/21 طـ بولاق).
3- وأخرج ايضا في المناقب في باب ذكر أصهار النبي صلى الله عليه وآله منهم ابو العاص بن الربيع (ولم يذكر في الباب حديثا غير الآتي) قال : حدثنا أبو اليمان, أخبرنا شعيب عن الزهري, قال : حدثني علي بن حسين ان المسور بن مخرمة قال : إن عليا خطب بنت ابي جهل, فسمعت بذلك فاطمة, فأتت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالت : يزعم قومك أنك لا تغضب لبناتك, وهذا علي ناكح بنت أبي جهل, فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) فسمعته حين تشهد يقول : أما بعد, فإني أنكحت أبا العاص بن الربيع فحدثني وصدقني, وإن فاطمة بضعة مني, وإني أكره أن يسوءها, والله لا تجتمع بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبنت عدو الله عند رجل واحد . فترك علي الخطبة (صحيح البخاري 5/22 طـ بولاق . صحيح مسلم4/1903 . سنن ابن ماجة 1/644 . مسند أحمد 4 / 326, صحيح ابن حبان 15 / 408) .
وزاد محمد بن عمرو بن طلحة عن ابن شهاب عن علي عن مسور : سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) وذكر صهرا له من بني عبد شمس, فأثنى عليه في مصاهرته اياه فأحسن, قال : حدثني فصدقني, ووعدني فوفى لي .
4- وأخرج ايضا في كتاب النكاح في باب ذب الرجل عن ابنته في الغيرة والإنصاف (ولم يورد في الباب حديثا غير الآتي), قال : حدثنا قتيبة, حدثنا الليث عن ابي مليكة عن المسور بن مخرمة, قال : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول وهو على المنبر : إن بني هشام بن المغيرة استأذنوا في ان ينكحوا ابنتهم علي بن ابي طالب فلا آذن, ثم لا آذن, ثم لا آذن, إلا أن يريد ابن ابي طالب ان يطلق ابنتي وينكح ابنتهم, فإنما هي بضعة مني, يريبني ما رابها, ويؤذيني ما آذاها (صحيح البخاري 7 / 37 طـ بولاق . مسند أحمد 4/328 ) .
5- وأخرج ايضا في كتاب الطلاق, باب الشقاق, وهل يشير بالخلع عند الضرورة, وقوله تعالى (وإن خفتم شقاق بينهما) الآية, (ولم يورد في الباب غير الحديث الآتي, فلاحظ), قال :
حدثنا أبو الوليد, حدثنا الليث عن ابن ابي مليكة عن المسور بن مخرمة الزهري, قال : سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول : إن بني المغيرة استأذنوا في أن ينكح علي ابنتهم فلا آذن (صحيح البخاري 7/47 ط بولاق) .
هذه هي الأحاديث التي ذكرها مسندة في خمسة ابواب, وكأنه لم يكفه ذلك حتى اشار معلقا في أول باب كنية المشرك فقال: وقال مسور : سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول : إلا ان يريد ابن ابي طالب ...
وفي فتح الباري قال : هذا طرف من حديث تقدم, موصولا في باب فرض الخمس(فتح الباري 13 / 213) .
والآن وقد انتهينا من كشف هوية الثلاثة : ابي هريرة, وابن الزبير, والمسور بن مخرمة, نختتم\
اولا : الحديث عنهم بقوله (صلى الله عليه وآله) : والذي نفسي بيده لا يبغضنا رجل إلا أدخله الله النار (أخرجه ابن حبان في صحيحه كما في زوائد لنور الدين الهيثمي موارد الظمآن, ص 555 طـ مصر بتحقيق محمد عبد الرزاق حمزه, والحاكم في المستدرك 3 / 150, وقال : هذا الحديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه, وأخرجه الذهبي في تلخيصه بهامش المستدرك ولم يعلق عليه بشيء) .
وثانياً : قال ان نعود الى مناقشة متن الحديث, ننبه القارئ بحال بعض أعلام الرواة في السند كابن عيينة الذي رمي بالاختلاط, كما ذكره الحافظ برهان الدين سبط ابن العجمي في رسالته (الاعتباط بمن رمي بالاختلاط) (الاعتباط بمن رمي بالاختلاط, ص12 ط حبل 1350 هـ ), وكالزهري الذي كان من المنحرفين عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام), وكان يعمل لبني أمية, وقد تجنب حديثه غير واحد لذلك, حتى إن ابن عساكر اخرج في تاريخه بسنده عن جعفر بن إبراهيم الجعفري, قال ك كنت عند الزهري أسمع منه, فإذا عجوز قد وقفت عليه, فقالت : يا جعفري لا تكتب عنه, فإنه مال إلى بني امية وأخذ جوائزهم, فقلت : من هذه ؟ قال : اختي رقية خرفت, قالت : بل خرفت أنت, كتمت فضائل آل محمد, وقد حدثني محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله, قال : أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيد علي فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه, اللهم وال من والاه وعاد من عاداه, وانصر من نصره واخذل من خذله .
قالت : وحدثني محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله, قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله (تاريخ دمشق (ترجمة الإمام) 2 / 65 ) .
وبلغ إنكار الصالحين عليه ان كتب اليه بعضهم كتابا فيه تقريع وتوبيخ, جاء فيه : واعلم ان ايسر ما ارتكبت واخف ما احتملت, انك آنست وحشة الظالم, وسهلت سبيل الغي بدونك الى من لم يؤد حقا, ولم يترك باطلا حين ادناك, اتخذوك قطبا تدور عليه رحى ظلمهم, وجسرا يعبرون عليه الى بلائهم ومعاصيهم, وسلما يصعدون فيه إلى ضلالتهم, يدخلون بك الشك على العلماء, ويقتادون بك قلوب الجهلاء ... وجاء في آخره : فداو دينك فقد دخله سقم, وهيئي زادك فقد حضر سفر بعيد (( وما يخفى على الله من شيء في الارض ولا في السماء )) (ابراهيم: 38) .
والسلام (ذكر الكتاب بطولة الغزالي في الاحياء 2/143, وابن ابي الحديد في شرح النهج 4/124، والمناوي في فيض القدير 2/407, وهامش الكشف الإلهي 1/122, وكلهم لم يصرحوا باسم الكاتب, لكن الحسن بن شعبة الحراني صرح في كتابة تحف العقول, ص 198 باسمه, وأنه الامام زين العابدين علي بن الحسين (عليه السلام), كما أنه ذكر الكتاب اطول مما ذكره الآخرون, فراجع) .
فمن الغريب العجيب ان يروي الزهري هذا الحديث عن علي بن حسين, ثم يزعم أنه حدثه عن المسور بذلك كما مر في الصورة الأولى عن البخاري .
وإذا عرفنا أن علي بن حسين الذي ذكره بصيغة التنكير هو الإمام علي بن الحسين زين العابدين الذي روى أبو هلال العسكري في كتابه بسنده, قال : بلغ علي بن الحسين رضي الله عنهما أن عروة بن الزبير وابن شهاب الزهري يتناولان عليا ويعبثان به, فأرسل إلى عروة فقال : أما انت فقد كان ينبغي ان يكون نكوص ابيك يوم الجمل وفراره ما يحجزك عن ذكر أمير المؤمنين, والله لئن كان علي على باطل لقد رجع أبوك عنه, ولئن كان على حق لقد فرّ أبوك منه .
وأرسل الى ابن شهاب فقال : وأما أنت يا ابن شهاب فما اراك تدعني حتى أعرّفك موضع كير (الكير بالكسر : زق ينفخ فيه الحداد . راجع شرح النهج 1/359ط الاولى ففيه قريب مما ذكر ابو هلال من تعيير الإمام لابن شهاب الزهري) . أبيك (الصناعتين, ص 13 ط سنة 1320 هـ) .
فمن كان هذا حاله مع الامام امير المؤمنين (عليه السلام) كيف يصدق في زعمه ان علي بن حسين حدثه عن المسور .. وهو الذي قرعه ووبّخه, لا بل حتى عيره بماضي أبيه الوضيع !!
ثم ما بال علي بن حسين يحدث الزهري وهو يعرف عداوته لجده بحديث ـ إن صح ـ فهو انتقاص لجده ؟ وما بال الزهري وهو الذي روى عن عدة من الصحابة, منهم انس, وسهل بن سعد, وحتى عن ابن عمر الذي ذكروا في ترجمته أنه روى عنه ثلاثة أحاديث, ما باله يروي هذا الحديث عن علي بن حسين ـ كما يسميه ـ وهو من التابعين, ولا يرويه عن المسور الصحابي الذي هو يرويه, وهو قد أدركه, وكان أشد لصوقا به من علي بن حسين نسبا وسببا فكلاهما زهري, ولأن اباه والمسور كانا معا من اصحاب ابن الزبير, وإلى ذلك أشار عبد الملك بن مروان حين اتصل به الزهري فاستنسبه فنسب نفسه, فقال عن أبيه : إن كان ابوك لنعارا في الفتن (ترجمة الزهري من تاريخ دمشق, ص 13 بعناية شكر الله قوجاني ط مؤسسة الرسالة ) .
ولقد كان عمر الزهري عند وفاة المسور فوق عمر المسور حين سمع الحديث المزعوم, فقد مر أنه قال كاذبا : سمع الحديث وهو يومئذ محتلم ! والصحيح انه كان ابن ثمان سنين, بينما كان عمر الزهري عند وفاة المسور ثلاث عشرة سنة .
وهكذا سؤال بعد سؤال يوضح ما في الإسناد من خلل, مضافا إلى ما في المتن من علل, ويبقى بلا جواب .
ولنترك حال الرجال وما فيهم من مقال وإشكال, ولنعد الى متن الحديث لنتبين فيه مواطن العلل, ولنقرأه ثانيا حسب وروده في كتاب البخاري ـ الذي هو اصح كتاب بعد كتاب الله عند المغالين فيه ـ ولا نحاسبه على تقطيع اوصاله الى خمسة أحاديث ـ ولا على حشر بعضها تحت عناوين لا تمت اليها بصلة, ولا ... ولا ... فنحن والحديث الأول عنده فنقرأ فيه :
أولاً : قول المسور لعلي بن حسين ـ كما في الحديث : هل لك إلى من حاجة تأمرني بها ؟ فقال : لا .
فهل لنا أن نسأل المسور أي حاجة تلك التي يمكن له ان يقضيها غير ما يتعلق بالسلطة الاموية و التي كان بعد لا يزال ظالعا معها, لأن زمن السؤال قد حدده علي بن حسين حين قدموا المدينة من عند يزيد بن معاوية (بعد) مقتل حسين بن علي رحمة الله عليه, لقيه المسور بن مخرمة فقال له : هل لك ... الخ .
ونحن إذا نظرنا إلى طبيعة الحال في ذلك الوقت نجد أن مقام الإمام ـ علي بن حسين ! ـ أسمى وأرفع مما كان عليه المسور, فإن ما اظهره يزيد من التنصل من تلك الجريمة التي لا تغتفر حتى لعن ابن زياد, وقال : لعن الله ابن مرجانة .. بما استعظموه من قتلي الحسين, مالي ولابن مرجانة لعنه الله وغضب عليه (تاريخ الكامل لابن الاثير 4 /39 ط بولاق) .
قال ابن الأثير : ودعا عليا ليودعه وقال له : لعن الله ابن مرجانة, أما والله لو أني صاحبه ما سألني خصلة أبدا إلا أعطيته إياها, ولدفعت الحتف عنه بكل ما استطعت ولو بهلاك بعض ولدي, ولكن قضى الله ما رأيت, يا بني كاتبني حاجة تكون لك .
وذكر ابن الأثير وغيره ان يزيد بن معاوية لما وجه مسلم بن عقبة المري ـ وهو الذي سمي مسرفا ـ الى المدينة المنورة لمقاتلة أهلها حين خلعوا بيعته, قال له : فإذا ظهرت عليهم فابحها ثلاثا, فكل ما فيها من مال أو دابة او سلاح او طعام فهو للجند, فإذا مضت الثلاث فأكفف عن الناس, وانظر علي بن الحسين فاكفف عنه واستوص به خيرا, فإنه لم يدخل مع الناس, وإنه قد أتاني كتابه .
قال ابن الأثير : وقد كان مروان بن الحكم كلّم ابن عمر لما أخرج أهل المدينة عامل يزيد وبني أمية في أن يغيب أهله عنده فلم يفعل, فكلّم علي بن الحسين فقال : إن لي حرما وحرمي يكون مع حرمك, فقال : أفعل, فبعث بامرأته وهي عائشة ابنة عثمان بن عفان وحرمه إلى علي بن الحسين, فخرج علي بحرمه وحرم مروان الى ينبع, وقيل : بل أرسل حرم مروان وأرسل معهم ابنه عبد الله بن علي الى الطائف (المصدر السابق 4/49) .
وجاء في إرشاد المفيد : ان مسرف بن عقبة لما قدم المدينة ارسل إلى علي بن الحسين (عليه السلام) فأتاه, فلما صار إليه قربه وأكرمه وقال له : اوصاني امير المؤمنين ببرك وتمييزك من غيرك ... الخ (الارشاد, ص 276) .
فمما تقدم تبين ان الامام علي بن الحسين عليه السلام كان أرفع مكانة وأجل قدرا وأقوى موقعا لدى الحاكمين من المسور بن مخرمة, الذي رفسه مروان برجله كما مر, وجلدوه الحد كما تقدم, فهو أذل من أن يتمكن من قضاء حاجة لأحد عند الأمويين .
وثانيا : لنقرأ قول المسور لعلي بن الحسين : فهل انت معطي سيف رسول الله (صلى الله عليه وآله), فإني أخاف أن يغلبك القوم عليه, ونحن لا نناقشه في أمر السيف وكيفية وصوله إلى علي بن الحسين, وهو من مواريث النبوة ... وهذا عنده وقومه ينافي القول بعدم ميراث الأنبياء, ولكن هل لنا أن نسأل المسور : من هم القوم الذين يخشى أن يغلبوا علي بن الحسين على سيف جده غير بني أمية, وإذا كانوا هم فهل كان ذلك قبل واقعة الحرة أو بعدها ؟
فإن كان قبلها فالإمام علي بن الحسين كان أعزّ منه منعة, وهم كانوا أذل وأضعف جندا, خصوصا بعد ان اخرج الامويون واتباعهم من المدينة, حتى ان مروان استودع الامام عياله كما مرّ .
وإن كان بعدها فالإمام هو الوحيد الذي لم يتعرض له بسوء بوصية من يزيد وقد مر ذلك ايضا, فأي حال تلك التي كان المسور يخشاها على الإمام ان يغلب فيها على سيف جدّه ؟
ولو لم يكن ثمة تحديد زمني في الحديث حيث ورد ان المسور لقي علي بن الحسين (عليه السلام) (حين قدموا المدينة من عند يزيد بن معاوية بعد مقتل الحسين بن علي رحمة الله عليه (راجع ذلك في الصورة الاولى من أحاديث البخاري) . أقول : لو لم يكن ذلك التحديد لاحتملنا أن المسور قال ذلك بعد ان بلغه طلب عبد الملك بن مروان من الامام علي بن الحسين ذلك السيف يستوهبه منه ويسأله الحاجة, فأبى عليه, فكتب إليه عبد الملك يهدده وأنه يقطع رزقه من بيت المال, فأجابه (عليه السلام) : أما بعد فإن الله ضمن للمتقين المخرج من حيث يكرهون, والرزق من حيث لا يحتسبون, وقال جل ذكره (إن الله لا يحب كل خوان كفور) (سورة الحج، الآية 38) . فانظر أينا اولى بهذه الآية (المناقب لابن شهرآشوب 3/302 ط النجف, بحار الانوار 46/95 نقلا عن المحاسن للبرقي) .
وفي جواب الإمام علي بن الحسين هذا ما يقطع جهيزة كل متنطّع لتصويب عرض المسور بن مخرمة, فهو لم يخش عبد الملك بن مروان ولا سلطته, وهو هو في عتوه وجبروته .
وثالثا : لنرى ثالثة الأثافي, وتلك هي فرية المسور في قوله : إن علي بن ابي طالب خطب ابنة ابي جهل على فاطمة (عليها السلام), فسمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يخطب الناس في ذلك على منبره هذا وأنا يومئذ محتلم فقال : إن فاطمة بضعة مني ... الخ .
الا مسائل : ما هو الربط في هذه الرواية بين قصة طلبه السيف وبين قصة الخطبة المزعومة ؟
والجواب هو ما أربك شرّاح صحيح البخاري فصالوا وجالوا , ليوافقوا بين القصتين فلم يوفقوا .
وللطرافة ننقل للقارئ بعض ما ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري حيث قال : وقال الكرماني : مناسبة ذكر المسور لقصة خطبة بنت ابي جهل عند طلبه للسيف من جهة ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يحترز عما يوجب التكدير بين الأقرباء, أي فكذلك ينبغي ان تعطيني السيف حتى لا يحصل بينك وبين أقربائك كدورة بسببه, أو كما أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يراعي جانب بني عمه العبشميين فأنت ايضا راع جانب بني عمك النوفليين, لأن المسور نوفلي (فتح الباري 7/22) .
أقول : هكذا قال, والصحيح ان المسور زهري لا نوفلي .
ثم قال : أو كما أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يحب رفاهية خاطر فاطمة (عليها السلام) فأنا ايضا أحب رفاهية خاطرك لكونك ابن ابنها, فاعطني السيف حتى أحفظه لك .
قلت ـ والقائل هو ابن حجر : وهذا الاخير هو المعتمد, وما قبله ظاهر التكليف, وسأذكر إشكالا يتعلق بذلك في كتاب المناقب إن شاء الله تعالى .
أقول : وما ذكره في كتاب المناقب ليس إلا تعليقة على الحديث الثاني في شرح قوله (صلى الله عليه وآله) : (فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني) فقال : وهو طرف من صفة خطبة علي ابنة ابي جهل, وسيأتي مطولا في ترجمة أبي العاص بن الربيع قريبا, وهذا ليس فيه أي إشكال .
وأما ما ذكره في كتاب المناقب ايضا في ترجمة ابي العاص بن الربيع وهو الحديث الثالث كما مر, فقد قال : وإنما خطب النبي (صلى الله عليه وآله) ليشيع الحكم المذكور بين الناس ويأخذوا به, إما على سبيل الإيجاب, وإما على سبيل الأولوية, وغفل الشريف المرتضى عن هذه النكتة فزعم ان هذا الحديث موضوع, لأنه من رواية المسور وكان فيه انحراف عن علي, وجاء من رواية ابن الزبير وهو اشد من ذلك, ورد كلامه بإطباق اصحاب الصحيح على تخريجه ! انتهى ما عند ابن حجر وهو خلاصة ما سطر (فتح الباري 8 / 87) .
الا على العقول العفا إن كان هذا الرد الباهت يصلح لرد قول الشريف المرتضى, وكم في تلكم الكتب من اخبار موضوعة وقد نقدوها سندا ودلالة, وابن حجر نفسه في مقدمة شرحه التي سماها (هدى الساري) ذكر شواهد كثيرة لا يسع المقام ذكرها فلتراجع .
ثم كان ما أورده اصحاب الصحيح انزل من اللوح المحفوظ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, ولو انصف ابن حجر نفسه قبل انصافه الشريف المرتضى فلم يذكر رده الذي هو غاية ما عنده, لكان به اولى وعليه أبقى .
ثم إنه أطال الكلام في الاختلاف في اسم المخطوبة من بنات ابي جهل, كما أطال في شرح قوله ك (حدثني فصدقني) . ولم يأت بطائل .
ورابعا : نعود الى قول المسور : فسمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يخطب الناس في ذلك على منبره هذا وأنا يومئذ محتلم .
وهذا من أكاذيبه التي أربكت شراح الصحيح ايضا فقالوا وقالوا, وإلى القارئ بعض ما قالوا :
قال ابن سيد الناس : هذا غلط, والصواب ما وقع عند الإسماعيلي بلفظ كالمحتلم!!
قال : والمسور لم يحتلم في حياة النبي (صلى الله عليه وآله), لأنه ولد بعد ابن الزبير, فيكون عمره عند وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) ثمان سنين ...
ثم قال ابن حجر : قلت كذا جزم به وفيه نظر, فإن الصحيح ان ابن الزبير ولد في السنة الاولى, فيكون عمره عند الوفاة النبوية تسع سنين, فيجوز أن يكون احتلم في أول سني الإمكان ! أو يحتمل قوله : (محتلم) على المبالغة والمراد التشبيه, فتلتئم الروايتان, وإلا فابن ثمان سنين لا يقال له محتلم ولا كالمحتلم, إلا ان يريد بالتشبيه انه كان كالمحتلم في الحذق والفهم والحفظ ن والله أعلم (فتح الباري 11/241) .
فانظر بربك الى هذا التمحل الفاسد, في توجيه كلام المسور المعاند, فهل تجد له في كلام ابناء آدم من شاهد ؟ هذا ما يتعلق بأول حديث رواه البخاري, أما حديثه الثاني فليس فيه ما يستدعي المناقشة والوقوف عنده, وإنما هو جزء من الحديث الأول .
وأما الحديث الثالث وفيه قال المسور :
إن عليّاً خطب بنت ابي جهل فسمعت بذلك فاطمة, فأتت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالت : يزعم قومك أنك لا تغضب لبناتك, وهذا علي ناكح بنت أبي جهل .
أقول : ومن قول فاطمة (عليها السلام) لأبيها يظهر ان الأذى كان قد لحق ببنات النبي (صلى الله عليه وآله) قبلها من أزواجهن فلم يغضب لهن, حتى ذكرت له زعم قومه أنه لا يغضب لبناته مستثيرة فيه غيرته وحميته وشففته .
وإذا صح زعم المسور في ذلك فالنقد يتوجه ألى أصهار النبي (صلى الله عليه وآله) عدا ابي العاص الذي خصه البخاري بالعنوان وذكره المسور في حديثه, فلا يبقى إذن سوى عثمان الذي كانت عنده أم كلثوم ورقية وماتتا عنده, وإليه يتوجه النقد, فهل شعر المسور بذلك ؟ وهل يقبله وهو الذي كان مع عثمان كما مر ؟ ولعل من أجل هذا أعرض شراح الصحيح عن شرح هذه الجملة من حديثه, خصوصا الحافظ ابن حجر الذي تخطى ذلك الى شرح جملة (وهذا علي ناكح بنت أبي جهل), فقال : وفي رواية الطبراني عن ابي زرعة عن ابي اليمان (وهذا علي ناكحا) بالنصب, وكذا عند مسلم من هذا الوجه . أطلقت عليه اسم ناكح مجازا باعتبار ما كان قصد يفعل ...
واختلف في اسم ابنة أبي جهل ...
فاستعرض الأقوال في اسمها, ولا يعنينا تحقيق ذلك كثيرا الآن ...
إلى ان قال في شرح قوله : (حدثني فصدقني) لعله كان شرط على نفسه ان لا يتزوج على زينب, وكذلك علي, فإن لم يكن كذلك فهو محمول على ان عليا نسي ذلك الشرط, فلذلك اقدم على الخطبة, أو لم يقع عليه شرط, إذ لم يصرح بالشرط, فلذلك أقدم على الخطبة, أو لم يقع عليه شرط, إذ لم يصرح بالشرط, لكن كان ينبغي له ان يراعي هذا القدر, فلذلك وقعت المعاتبة, وكان النبي (صلى الله عليه وآله) قل ان يواجه احدا بما يعاب به, ولعله انما جهر بمعاتبة علي مبالغة في رضا فاطمة (عليها السلام), وكانت هذه الواقعة بعد فتح مكة, ولم يكن حينئذ تأخر من بنات النبي (صلى الله عليه وآله) غيرها, وكانت أصيبت بعد أمها بأخوتها, فكان إدخال الغيرة عليها مما يزيد حزنها .
هذا ما قاله اشهر شراح الصحيح ان لم يكن أعلمهم, فاقرأ ذلك واحكم عليه بما تقتضيه شريعة الإنصاف دون اعتساف .
ولنعد إلى فقرات الحديث لنقارن بينها وبين ما مر عنه في الحديث الأول في تحقيق النص الذي سمعه من النبي (صلى الله عليه وآله) فسنجد بينهما من التفاوت ما يدعو الى الريبة في الأمر, حتى في الصحيح, لاتفاق سند الحديثين من الزهري الى المسور, وإنما ذكر البخاري الحديث الاول عن محمد بن عمرو بن طلحة عن الزهري, والحديث الثاني ذكره عن شعيب عن الزهري, ثم قال : وزاد محمد بن عمرو بن طلحة ... الخ, فذكر بعضا من تلك الزيادة خصوصا جملة : (وإني لست أحرم حلالا, ولا أحل حراما), فراجع الحديث وقارن بينهما بدقة, لترى مدى التفاوت متنا مع اتحاد السند, وأنه لأمر مريب ! .
يتبع
تعليق