بِسْمِ اَللهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
قال الله تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا﴾.[1]
في يوم القيامة عندما تقوم البيّنة على الكافرين والمجرمين وتظهر فضيحتهم على رؤوس الأشهاد وقد رأوا الجحيم بالرؤية الحقيقة يودّوا أنّهم ما كانوا يخلقون بل كانوا ترابا فيستوون الأرض قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا﴾[2].
فيحدث بينهم التخاصم والتشاجر وذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ﴾[3]، والمنع منه لديه سبحانه إنّما هو بعد الفراغ من الحساب وفي مقام الاعتذار بعد الاعتراف بالاقتراف لقوله تعالى: ﴿قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ﴾[4]، أمّا الختم على الأفواه فهو عند الحساب وهو قوله عز وجل: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾[5]، وفي تلك الأثناء حيث يحاولون الإنكار رأساً، فتتكلّم أيديهم وتشهد أرجُلُهم بما اقترفوه، فالمَواطن مُختلفة والمواقف متعدّدة :
فالموطن الأَوّل: موطن المُداقّة في الحساب، (يختم على أفواه أهل الإلحاد والإنكار).
والموطن الثاني: موطن الفراغ من الحساب، (يتخاصم فيه أهل النار).
والموطن الثالث: موطن الشفاعة لأهل الإيمان، (موطن النُطق بالصواب).
وقال تعالى: ﴿لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ﴾،
أي يتمنّون لو لم يبعثوا وكانوا ترابا، هم والأرض سواء، حتى لا يقعوا في مثل هذا اليوم الحق ﴿ولا يَكْتُمُونَ اَللهَ حَدِيثاً﴾، قال القمي: {يتمنّى الذين غصبوا حقّ أمير المؤمنين عليه السلام أن لو كانت الأرض ابتلعتهم في اليوم الذي اجتمعوا فيه على غصبه، إذا لكانوا نجوا من هذا الموقف الرهيب}[6].
ولكن لفظة لَوْ تُسَوّى تشير إلى مطلب آخر أيضا، وهو: إنّ الكفار مضافا إلى أنّهم يتمنون أن يصيروا ترابا، يحبّون أن تضيع معالم قبورهم في الأرض أيضا وتسوى بالأرض حتى ينسوا بالمرّة، ولا يبقى لهم ذكر ولا خبر ولا أثر.
وذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسيره للمقطع الأخير من هذه الآية: {﴿وَلا يَكْتُمُونَ اَللهَ حَدِيثاً﴾، لأنّه لا سبيل إلى الإنكار أو الكتمان مع كل تلكم الشهود. نعم، لا ينافي هذا الكلام ما جاء في الآيات الأخر التي تقول: هناك من الكفار من يكتم الحقائق يوم القيامة أيضا ويكذبون لأنّ كذبهم وكتمانهم واقع قبل إقامة الشهود وقيام الشهادة، وأمّا بعد ذلك فلا مجال لأي كتمان، ولا سبيل إلى أي إنكار، بل لا بدّ من الاعتراف بجميع الحقائق.
هذا ويحتمل بعض المفسرين أن يكون المراد من ﴿لا يَكْتُمُونَ اَللهَ حَدِيثاً﴾، أنّهم يتمنون لو أنّهم لم يكتموا في الدنيا أية حقيقة، خصوصا فيما يتعلق برسول الإسلام صلّى الله عليه وآله، وعلى هذا تكون هذه العبارة عطفا على جملة ﴿لَوْ تُسَوّى بِهِمُ اَلْأَرْضُ﴾.
ولكن هذا التّفسير لا ينسجم مع ظاهر ﴿لا يَكْتُمُونَ﴾، الذي هو فعل مضارع، ولو كان المراد ما ذكره هذا الفريق من المفسرين لوجب أن يقول: «لم يكتموا».
كيف هم يكتمون بما يحلفون ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ..﴾}[7] ؟
إنهم ﴿لا يَكْتُمُونَ﴾، واقعيا مهما حاولوا الكتمان بحلف أو أيا كان، فليس ﴿لا يَكْتُمُونَ﴾، تختص باختيارهم عدم الكتمان، بل وهو واقع الكتمان حيث لا يقدرون عليه؛ إذ لا يخفى على الله منهم شيء مهما اكتتموا. وكيف ﴿يَكْتُمُونَ اَللهَ حَدِيثاً﴾، وقد «ختم على الأفواه فلا تكلم وكلمت الأيدي وشهدت الأرجل ونطقت الجلود بما عملوا فلا يكتمون الله حديثا». وحتى حين يتكلمون ويحلفون بالله: ﴿..وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾[8]، لم يكتم حلفهم عن الله حديثا، فإنه يعلم السر وأخفى، ثم الشهود الأربع تشهد ما لا يمكن إنكاره!
[1] سورة النساء، الآية: 42.
[2] سورة النبأ، الآية: 40.
[3] سورة ص، الآية: 64.
[4] سورة ق، الآية: 28.
[5] سورة يس، الآية: 65.
[6] تفسير علي بن إبراهيم القمي، ج 1، ص 139.
[7] سورة المجادلة، الآية: 18.
[8] سورة الأنعام، الآية: 23.