بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِ على محمد وآل محمد
ورد عن الإمام علي الهادي في كلام له لأحد أصحابه: «مَا ذَنْبُ اَلْأَيَّامِ حَتَّى صِرْتُمْ تَتَشَأَّمُونَ بِهَا، إِذَا جُوزِيتُمْ بِأَعْمَالِكُمْ فِيهَا».تحف العقول، ص482.
مشاعر الإنسان وأحاسيسه النفسية، لها تأثير على تشكيل تصوره ورؤيته لأمور الحياة، وعلى طريقة تعامله معها.
فإذا كانت مشاعره وأحاسيسه إيجابية، كانت رؤيته للأمور أكثر واقعية وتوازنًا، وكان أقدر على التعامل السليم مع ما يواجهه من قضايا وأحداث.
أما إذا كان يعيش حالة سلبية في مشاعره وأحاسيسه، فستكون رؤيته للأمور أكثر تشويشًا واضطرابًا، وقد يندفع لاتخاذ مواقف سيئة ضارة.
تأثير مشاعر التفاؤل والتشاؤم
والشعور بالتفاؤل أو التشاؤم من المشاعر البالغة التأثير على رؤية الإنسان ومواقفه.
والتفاؤل هو: قوة الأمل وتوقع الخير، أما التشاؤم فهو: حالة نفسية تجعل الشخص يتوقع دائمًا حدوث الأسوأ.
وحين يعمر الأمل والتفاؤل نفس الإنسان يعيش الطمأنينة في داخله، وينبعث تفكيره بإيجابية، وتكون جوارحه أكثر طاقة وقدرة على مواجهة المشكلات.
أما حين تسيطر عليه حالة التشاؤم، فستنقبض نفسه، ويتشوش تفكيره، وتتعثر حركته العملية.
إنّ المتفائل حتى لو واجه مشكلة أو صعوبة فإنه يتوقع تجاوزها ومعالجتها، ويستثير قدراته الذهنية، وطاقته الفعلية، بحثًا عن الحلول والمعالجات، أما المتشائم فإنه غالبًا ما يستسلم أمام المشكلة، لضعف توقعه للخلاص منها، أو قدرته على معالجتها.
المتفائل يفكر في حلٍّ لكلّ مشكلة، والمتشائم يضع مشكلة أمام كلّ حل.
لذلك يوصي أمير المؤمنين علي بالتفاؤل كطريق للنجاح، حيث روي عنه: «تَفَأَّلْ بِالْخَيْرِ تَنْجَحْ».
وورد في المأثور: (تفاءلوا بالخير تجدوه).
وكان من أبرز صفات رسول الله أنه كثير التفاؤل.
إنّ المتشائم حتى وإن كان يعيش في خير ونعمة، فإنه يعاني من هواجس وقلق زوال ذلك الخير، وفقدان تلك النعمة.
التشاؤم يتعب الإنسان نفسيًا، بينما التفاؤل يخفف عنه وطأة المشاكل التي يواجهها.
والتشاؤم قد ينعكس على علاقة الإنسان مع محيطه الاجتماعي؛ لأنه يكون أقرب إلى سوء الظنّ في الآخرين، فيفسّر كلّ نظرة أو كلمة أو تصرف من الآخرين تجاهه تفسيرًا سلبيًا.
وعلى العكس من ذلك، فإنّ المتفائل يكون إيجابيًا في نظراته وتصوراته عن الآخرين.
إنّ حالة التفاؤل والأمل لا تعني عدم أخذ التحدّيات بعين الاعتبار، ولا عدم الحذر أمام احتمالات السوء والخطر، لكنّها تعني التشخيص الموضوعي للأمور بوعي وواقعية، والعمل بثقة لتجنب الأخطار وإدارة التعامل معها.
الأوهام والتصورات الزائفة
هناك نوعان من البواعث التي تدفع إلى التشاؤم في نفس الإنسان.
النوع الأول هو الأوهام والتصورات الزائفة، حيث تنتشر في بعض الأوساط أفكار وتصورات عن أشياء باعتبارها مؤشرات للسوء والشر، فعند مصادفتها، يتوقعون حدوث المخاطر.
كان العرب في الجاهلية تنتشر بينهم هذه الحالة، ويطلق عليها التطيُر، من الطِّيرة، بكسر الطاء وفتح الياء، وهو التشاؤم من بعض الأيام أو الطيور أو الأسماء أو التصرفات.
ومنه ما حكاه القرآن الكريم في قصة ثمود، حيث قالوا لنبيهم النبي صالح : ﴿قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ﴾ [سورة النمل، الآية: 47] أي تشاءمنا.
وكانوا في الجاهلية يتشاءمون من سماع نعيق الغراب، وخوار البقر، ورؤية ذي آفة أيّ إعاقة.
وجاء اسم التطيّر من انبعاث حالة التشاؤم من الطير.
قال ابن حجر: (إنّهم كانوا في الجاهليّة يعتمدون على الطّير فإذا خرج أحدهم لأمر فإن رأى الطّير طار يمنة تيمّن به واستمرّ، وإن رآه طار يسرة تشاءم به ورجع، وربّما كان أحدهم يهيّج الطّير ليطير فيعتمدها) .
والتطيّر نوع من الإيحاء النفسي بالتشاؤم، وهو ما ينتج أثرًا في نفس الإنسان وسلوكه، وليس الأثر من الواقع الخارجي.
قال ابن القيّم: (التّطيّر إنّما يضرّ من أشفق منه وخاف، وأمّا من لم يبالِ به ولم يعبأ به شيئًا لم يضرّه ألبتّة).
وبعد البعثة النبوية تصدّى رسول الله لثقافة التطيّر والتشاؤم.
ورد عن رسول الله : «إِذَا تَطَيَّرْتَ فَامْضِ» .
وعنه : «ذَاكَ شَيْءٌ تَجِدُونَهُ فِي أَنْفُسِكُمْ، فَلا يَصُدَّنَّكُمْ» .
وعنه : «الطِّيَرَةُ شِرْكٌ» .
وجاء عنه : «مَنْ ردَّتْهُ الطِيَرَةُ عنْ حاجتِهِ فقدْ أشرَكَ» قالوا: يا رسول الله، ما كفّارة ذلك؟ قال: «أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمُ: اللَّهُمَّ لاَ خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ، وَلاَ طَيْرَ إِلَّا طَيْرُكَ، وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ».
الفشل والنكسات
النوع الثاني من بواعث التشاؤم، هو التأثر بنكسات تحصل للإنسان، فتسبب له اضطرابًا نفسيًا يتحول إلى تشاؤم، وحالة سلبية تؤدي به إلى التراجع وفقدان الثقة في النفس.
فبعض الطلاب حين يفشل في الامتحان قد يتوقف عن الدراسة وينسحب، وكذلك لو لم يجد قبولًا جامعيًا مناسبًا.
والبعض قد تصيبه انتكاسة في حياته الزوجية فيعزف عن الزواج.
والبعض قد يتشاءم من مرض يصيبه، فيُعين المرض على نفسه، حيث تضعف مناعته، ولا يثق بجدوى إجراءات العلاج.
والبعض قد يتعثر في مشروعه الاقتصادي، فيصاب بالتشاؤم، ويتراجع عن تكرار المحاولة والسعي. وقد يصبح فريسة للاكتئاب والأمراض النفسية.
لكنّ التجارب تثبت أنّ الفشل هو طريق النجاح، حين يستفيد الإنسان من تجربته الفاشلة، ما يؤدي به إلى النجاح.
إنّ على الإنسان ألّا يستسلم للفشل، ويرفع الراية البيضاء أمامه، بل يتسلّح بالإرادة والثقة، والاستفادة من التجربة، ليخوض غمار المحاولات الجديدة.
وكما يقول المثل الغربي: (أنت لا تفشل إلّا إذا توقفت عن المحاولة).
يقول رجل الأعمال الأمريكي المتخصص في التنمية البشرية «روبرت كيوساكي» إنّ «الفشل جزء من عملية النجاح، وتجنّب الفشل تجنّب للنجاح أيضًا».
هذه المقولة قد تقاربها مقولة شهيرة نستخدمها في مجتمعاتنا، مفادها بأنّ «من لا يعمل لا يخطئ».
النجاح الباهر بعد الفشل
نجد في الحياة المعاصرة نماذج وأمثلة كثيرة لمن حقّق نجاحًا باهرًا بعد نكسات فشل مريرة.
ومن تلك النماذج تجربة صاحب شركة (علي بابا) الشهيرة عالميًا، الملياردير الصيني الذي يُعدّ أغنى رجل في الصين (جاك ما)، الذي كتبوا عنه أنه فشل مرتين في امتحان قبول الجامعة، وتقدّم للعديد من الوظائف لكنه رُفض، وتقدّم لامتحان الشرطة وفشل، وتقدم لشركة (كنتاكي) ضمن 24 شخصًا، فقبلوا 23 وهو لم يقبل، توجه نحو إنشاء موقع إلكتروني استثماري، فواجهته انتكاسة ايضًا، لكنه أخيرًا نجح في إنشاء شركته المعروفة (علي بابا) حيث تصل أرباحه سنويًا ترليون دولار، أي مليون مليون دولار.
يعمل في شركته أكثر من 22 ألف موظف في أكثر من 70 مدينة حول العالم، وهي من أكبر أسواق التجارة الإلكترونية في العالم.
كان يكرر: (الفشل ليس سوى فرصة لطريق آخر).
موقف تربوي توعوي
نلتقي بهذا الموقف التربوي التوعوي، الذي واجه به الإمام الهادي عليه السلام أحد أصحابه، لتحذيره من مشاعر التشاؤم، وقبول الأفكار الوهمية الخرافية، وتوجيهه إلى الثقة بالله تعالى، والتعامل بواقعية وموضوعية مع أحداث الحياة.
قَالَ اَلْحَسَنُ بْنُ مَسْعُودٍ : دَخَلْتُ عَلَى أَبِي اَلْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الهادي وَقَدْ نُكِبَتْ إِصْبَعِي، وَتَلَقَّانِي رَاكِبٌ، وَصَدَمَ كَتِفِي، وَدَخَلْتُ فِي زَحْمَةٍ فَخَرَقُوا عَلَيَّ بَعْضَ ثِيَابِي، فَقُلْتُ: كَفَانِي اَللَّهُ شَرَّكَ مِنْ يَوْمٍ فَمَا أَشَأمَكَ، فَقَالَ لِي: «يَا حَسَنُ هَذَا وَأَنْتَ تَغْشَانَا تَرْمِي بِذَنْبِكَ مَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ»، قَالَ اَلْحَسَنُ: فَأَثَاب إِلَيَّ عَقْلِي، وَتَبَيَّنْتُ خَطَئِي، فَقُلْتُ: يَا مَوْلاَيَ أَسْتَغْفِرُ اَللَّهَ، فَقَالَ : «يَا حُسْنُ مَا ذَنْبُ اَلْأَيَّامِ حَتَّى صِرْتُمْ تَتَشَأَّمُونَ بِهَا إِذَا جُوزِيتُمْ بِأَعْمَالِكُمْ فِيهَا؟».
ثم قال : «لاَ تَعُدْ وَلاَ تَجْعَلْ لِلْأَيَّامِ صُنْعًا فِي حُكْمِ اَللَّهِ».
إنّها رسالة مهمة خاصة لشبابنا وفتياتنا الذي تواجههم التحدّيات المختلفة، فعليهم ألّا يتشاءموا ولا يتراجعوا أمام أيّ انتكاسة أو فشل في مسيرتهم الدراسية أو العملية أو العائلية والاجتماعية، بل يتسلّحون بالثقة والتوكل على الله، والإرادة الواعية، فذلك هو طريق التقدّم والنجاح.
اللهم خذ بأيدي أبنائنا وبناتنا إلى ما فيه الخير والصلاح، ووفقهم للنجاح في دنياهم وآخرتهم، وانفع بهم وطنهم ومجتمعهم.