إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

حجر بن عدي

تقليص
X
تقليص
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • حجر بن عدي

    بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ

    ( إِنّ الله اشْتَرَى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنّ لَهُمُ الْجَنّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ) (التوبة: ١١١).

    في البدء كانت الكلمة..

    وكانت وسيلة الرسول الأعظم الأولى، هي الكلمة..

    وكان إعلان موقف الإنسان من جبهة، أو تحوّله إلى جبهة أخرى يتمّ عن طريق الكلمة في البداية.

    وكان السند الرئيسي للمصلحين والمفكرين الذين رفعوا مجتمعهم إلى أعلى، هو الكلمة.

    ولكن..

    أية كلمة تلك التي تستخدم من قبل الأنبياء والرسل والمصلحين؟.

    لم تكن كلمة الرسل والأنبياء، كلمة خارجة عن نطاق هذا العالم.. ولم تكن كلمة المصلحين في كل أنحاء الأرض إلاّ من أجل إصلاح المجتمع الذي كانوا يعيشون فيه.. كلمة الرسل والأنبياء

    ٢



    والمصلحين كانت من أجل وضع الإنسان في محله، ومن أجل بعث روح التطلّع، والنظر إلى أعلى في داخل الإنسان، ولم يكن ذلك إلاّ عن طريق معارضة واقعه الفكري والاجتماعي الفاسد، الذي كان يعيشه، ومعارضة الأفكار التي تخدّر تطلّعه، وتقتل طموحه، والوقوف موقف الرفض من هذه الأفكار، ومحاربة ذلك المجتمع الذي يقتل (الإنسان) في الإنسان.

    ومن هنا كانت كلمة الله وَلَقَدْ كَرّمْنَا بَنِي آدَمَ وَفَضّلْنَاهُمْ عَلَى‏ كَثِيرٍ مِمّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) .

    وكانت كلمة الإسلام بالنسبة للإنسان:
    أتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر؟
    ومن هنا أيضاً كانت الكلمة الأولى، التي جاء بها الرسول الأعظم: (لا للآلهة)؛ لأنّها ستكون على حساب الإنسان، ومن ذات المنطلق كانت كلمة الإمام عليعليه‌السلام ، وأبو ذر، وعمار، وحِجر: (لا للخليفة المزيّف)؛ لأنّه سيمتهن كرامة الإنسان، ولأنّه سينحرف عن نهج الله، وكانت كلمة كل المؤمنين بالله: (لا للطواغيت).

    وعن طريق هذه الكلمة التي كانت تعني الالتزام بخطٍّ معيّنٍ، والصمود على ذلك الخط، استطاع الرسول الأعظم تغيير مجتمع كامل بجميع أجهزته التي تسيّره وتقوده.

    ٣



    وكان ذلك المجتمع مجتمع مكة والجزيرة.

    وحيث كانت الأوضاع لا تتناسب مع إِنسانية الإنسان، وكرامته، وحيث الفساد والانحراف عن مناهج الله التي خطّها.. وهكذا امتُهِنتْ كرامة الإنسان، وصودرت حريّته؛ لأنّه ابتعد عن مناهج الله، وتعوّد الناس على الذل، حتى أصبحوا لا يستطيعون العيش بدونه بسهولة.

    هكذا كانت تعيش الطبقات الضعيفة وجموع الفقراء والعبيد والأرقّاء.

    ويأتي النور، حينما يأتي الرسول، ويفجّر تلك الكلمة، عندما تنزل عليه رسالة السماء:

    (لا إله إلاّ الله).

    رفضاً لذلك الواقع الفاسد، الممتهن لكرامة الناس، وبعد أن عرف الناس لماذا جاء الرسول.. جاؤوا لكي يستمدّوا منه ما يروي ظمأهم، ويعيد إليهم كرامتهم، وسرعان ما تنتشر كلمة الله في تلك الفئة المستضعفة، فيأتي ياسر وعمار وبلال وصهيب وغيرهم.

    واستطاعت كلمة الله أن تغرس في هؤلاء حبّ التطلع، والعودة إلى (الإنسان) الذي نسوه منذ زمن بعيد، وخلّفوه وحيداً.

    وللمرة الثانية..

    ٤



    الرسول يرفض، لقد كانت المرة الأُولى بمثابة صفعة أيقظت زعماء قريش من أحلامهم.

    ولكن المرة الثانية كانت أعنف، كانت صدمة قاسية وعنيفة بالنسبة لهم.

    لقد عرضوا عليه كل شيء: المال، الجاه والزعامة، النساء، ولكنّه مع ذلك يرفض، لقد قال لهم:

    «لا.. لا والله، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي، ما تركت هذا الأمر، حتى يظهره الله أو أهلك دونه» .. لأنّي جئت من أجل معارضة هذا الواقع البعيد عن الله، والبعيد جدّاً عن كرامة الإنسان وحريته، ولذلك فإنّي لم آتِ إلاّ لكي أُغيّر الواقع، وأضع كل شيء في محلّه المناسب، وأضع أيضاً كل واحد في محله المناسب، وفق خطّة إصلاحية شاملة لهذا المجتمع.

    وكان - ولذا جاء - أن غيّر مجتمعاً كاملاً، لا بل أمّة كاملة، بصوت معارضته في البداية، ووضع خطّة إصلاحية تتفق مع إنسانية الإنسان، وتتماشى مع إرادة الله في الأرض، بل وتمثل إرادة الله في الأرض.

    ومن هنا كان صوت المعارضة الذي أطلقه الرسول.. هذا الصوت هو الذي خلق الإمام علياً وأبا ذرٍّ وسلمان وعمار وغيرهم، وكانت المعادلة التي صنعها ذلك الصوت: صوت الرفض (في مواجهة الواقع الفاسد) + خطّة إصلاحية (تتفق مع كرامة الإنسان) = تغيير المجتمع وإعادة صياغته من جديد.

    ٥



    ولكن مع ذلك..

    لم تكن مهمّة الرسول - فقط - أن يتحمل عبء الرفض، ومسؤولية المعارضة، وتطبيق كرامة الإنسان، وإِرادة الله على الأرض، لم يكن هذا فقط، وإنما كان عليه أن يتحمّل أيضاً مسؤولية الاستمرارية، مسؤولية الاستقامة في طريق الحقّ.

    ولذلك كانت فاطمة.. فاطمة: الاستمرار المعارض، الذي خلّفه الرسول الأعظم.

    فبعد أن قبض الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانزاح العبء الثقيل عن كاهل المنافقين، والذين أسلموا خوف السيف، عند ذلك كانت الردّة، وكان الانحراف، وكان الابتعاد الكبير عن الرسالة، بعد أن أُبعد الناس عن القائد الذي يمثّل الرسالة، وعندئذ بدأ الناس يسيرون إلى الوراء، ويحاولون العودة إلى عهد الاستغلال والاحتكار والاستعباد، والعودة إلى عهد ما قبل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

    وهناك كان على الصوت أن يرتفع.. صوت الرفض يجب أن يعلو؛ لكي يحطّم كل مَنْ يحاول كنس أهداف محمّد، كان على فاطمة أن تعارض، وأن ترفض الوضع الدخيل على الإسلام والمسلمين، وأن تطالبهم بالعودة إلى محمّد الذي كان بالأمس موجوداً، وتطبيق أهدافه، والرجوع إلى قيادة الله وتطبيق إرادته.. هذا الصوت هو الذي عرفه الناس أثناء خطبتها في المسجد، وهذا الصوت هو الذي دعا (الخليفة) الحاكم أن يقول: (أيها الناس، وُليّت عليكم ولست بخيركم).

    ٦



    وهكذا وبهذه الطريقة بيّنت للمسلمين الواقع الذي كانوا يعيشون فيه، وطرحت الطريق الأفضل الذي لا يمكن تطبيق إرادة الله إلاّ بالسير عليه، وكان ذلك الطريق هو: العودة للقيادة الشرعية للمسلمين.. ليس هذا فقط، بل استطاعت أن تخلق في نفوس المسلمين روح التحرر من خوف السيف، الذي رُفع يوم السقيفة.

    وبهذا ضربت الزهراء المثل الأعلى، في مسؤولية المرأة المسلمة، في المعارضة المبدئية لكل انحراف عن رسالة الإسلام.

    * * *

    وكان لابدّ للمسيرة أن تستمر ما دام هناك ظالم، وما دام هناك انحراف عن نهج الله، كان لابدّ لها أن تنمو وتكبر؛ لأنّ الزمن لا يخلو من طاغية يتمرّد على إرادة الله، ويسحق كرامة الإنسان.

    ولكن كيف يمكن أن تستمر المعارضة هذه، والرسول المؤسّس قد التحق بربّه، والزهراء قائدة المسيرة بعد الرسول قد لحقت بأبيها أيضاً، بعد أن أطلقت الصوت الرافض، وأعلنت المعارضة.

    صحيح أنّ صوت الزهراء قد بعث في الناس روح التمرّد من الخوف، وروح المعارضة عند وجود الانحراف عن رسالة الله،

    ٧



    وصحيح أيضاً أنّ نتيجة ذلك الصوت كان تحرّك أبي ذرٍّ تحركاً علنياً صارخاً، وكذلك غير أبي ذر.

    وماذا بعد هؤلاء؟ ماذا بعد أبي ذر، وأصحاب أبي ذر؟ أتبقى المسيرة معطلّة؟ بالطبع.. لا؛ لأنّ الأوضاع كلّها كانت تتطلب معارضة حازمة. الأوضاع كانت فاسدة؛ لأنّ إرادة الله قد غُطّيت، وكرامة الإنسان - بالتالي - قد امتهنت؛ لذلك فالمعارضة يجب أن تبقى، وأن تتحرّك، وتواصل التحرّك.

    ولكن كيف يمكن ذلك؟

    لم تكن مسيرة المعارضة لتتوقف، ولم يكن ذلك الصوت المعارض ليضيع.. كلا!

    لأنّ هناك القطب الرئيسي في القضية، وحامي صوت المعارضة، والسند الخلفيّ للصوت الرافض، لقد كان هناك الإمام عليعليه‌السلام ، والمهم كيف يعارض؟

    لقد لبّى الناس نداء المعارضة.. وكلمات أبي ذرٍّ الرافضة، أعادت للناس صوت محمّد والزهراء، ولذلك تحوّلت إلى ثورة شعبية عارمة، وعلى رأس هذه الثورة الشعبية يأتي الإمام عليعليه‌السلام ، وتتوقف المعارضة الداخلية.. لتقوم في مواجهة حكمه الرسالي العادل فلول الانتهازيين والمنافقين، الذين ضربت الثورة مصالحهم ومراكزهم، ودمرت كل ما شيّدوه من مجدٍ زائفٍ على حساب الجماهير المحرومة.

    ٨



    غير أنّ من المحتمل جداً أن لا يستمر هذا الحكم، فلا زالت القوى الانتهازية والمنافقة، تعمل لإرجاع الوضع برِمّته إلى العهد البائد؛ لتستمر في نهب ثروات الأمّة، من هنا كان لابدّ من توفّر (فئة رسالية مجاهدة) تستمرّ في الدفاع عن رسالة الإسلام، حتى بعد سقوط الحكم العلوي، من هنا اهتمّ الإمام عليعليه‌السلام بتربية جيل من الطلائع الرسالية المجاهدة؛ لتستمر في حمل مشعل الثورة إلى الأجيال القادمة.

    وهكذا كان ميثم، وكان أبو ذر، وكان غيرهم.. وكان على الطريق (حِجْر بن عَدِي الكندي).

    وكان حِجْر منذ البداية مع الحقّ، وعلى طريق الحقّ، ولأنّه من الأفراد الذين تخرّجوا من مدرسة الإمام عليعليه‌السلام ، لذا كان الحقّ هو هدفه الأول والأخير، ولذا أيضاً سخّر حياته من أجل معارضة الظلم، ووقف عمره لكي تستمر مسيرة المعارضة للظلم، والمناصرة للحق.. ولقد ضحّى بدمه، ودم أصحابه؛ ليسقيَ شجرةً غرسها الرسول الأعظم، من أجل أن( تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا ) ، رجالاً يغيّرون على الظالم مقاييسه، ويفسدون عليه خططه.

    ونستطيع أن نعرف أهمية الرفض، وضرورة المعارضة لكلّ ظالمٍ، ولكلّ ما هو ظلم.. إذا عرفنا أنّ«أفضل الجهاد عند الله، كلمةُ حقٍّ عند إِمام جائر» (١) . وعرفت أنّ (الإسلام يطالب

    ____________________

    (١) الإمام الحسينعليه‌السلام : تحف العقول.

    ٩



    معتنقيه أن يرفعوا شعارات المعارضة والرفض الحازم، بوجه كل المجرمين والطغاة، سارقي قوت البشر وحريتهم وكرامتهم، لأنّ الإسلام رفع هذا الشعار النيّر: كونوا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً ).

    وأيضاً لكي:« يستريح برّ، ويُستراح من فاجر » (١) ، من أجل إيقاف الظالمين عند حدهم، والاعتراض على استغلالهم للشعوب، بالإضافة إلى إعادة كرامة الإنسان، التي ستهدر عندما يسكت الشعب.. هذا بالنسبة لمن يعارض ولمن يرفض الظلم، أمّا من يسكت.. مَنْ لا يعارض، ومَنْ يخنع، مَنْ لا يرفع صوته ضدّ الحاكم الجائر، فماذا سيكون مصيره؟.

    الإمام الحسينعليه‌السلام يخبرنا عن هذا فيقول:

    «سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: من رأى منكم سلطاناً جائراً، مستحلاً لحُرم الله، عاملاً في عباده بالإثم والعدوان، فلم يغيّر ما عليه بفعل ولا بقول، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله - أي مدخل السلطان الجائر-» (٢) .

    هذا ما ستكون نهايته الأخيرة.

    ____________________

    (١) نهج البلاغة.

    (٢) الإمام الحسينعليه‌السلام : تحف العقول.

    ١٠



    أمّا عيشه وحياته، في ظل ذلك الحكم، فلن يكون إلاّ شقاءً وعذاباً وجحيماً، والتاريخ مليء بالشواهد على ذلك، وهكذا أيضاً حال الجماعة والأمة المتخاذلة.

    ليس هذا فحسب.. ليس على صعيد الواقع الخارجي والنتائج، بالنسبة للمعارضة التي تحمل هدف: تحقيق إرادة الله، وإنّما الدرب الذي سار عليه حِجْر، كان ضمن المسيرة الثوريّة الرساليّة التي كان فيها محطات استشهاد الثائرين العقائديين، والتي أخبر عنها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينما قال:«سيقتل في عذراء سبعة نفر يغضب الله لهم وأهل السماء» (ومرج عذراء تمثل إحدى محطات المسيرة).

    بالطبع لن يغضب الله لسبعة قتلوا وفقط، إنّما لأنّهم كانوا على منهج الحقّ، وكانوا يمثّلون العناصر التي تسير على درب الله، من أجل أن تتمّ هدفها الثلاثي: الله، والحقّ، والحرية.

    ولكي تستمرّ المعارضة لكلِّ نظامٍ جائرٍ، ومن أجل أن نأخذ موقف المعارضة من كلّ حكم جائر، وكل سلطة مزيّفة.. علينا أن نعرف كيف كان موقف المعارضة، التي كان من زعمائها حِجْر بن عَدِي، وأن نعرف ما هو الطريق الأفضل للعمل، وكيف كانت تعمل؟.

    وهذا ما يتكفل به هذا الكتاب.

    محمّد فوزي

    ٣/٣/١٩٧٧

    الجزيرة العربية- القطيف

    ١١​

  • #2
    جنين الثورة

    يتكوّن في رحم الأحداث

    من أجل معرفة بداية المعارضة، وبالتالي فهم الطريق الذي سلكته، يجب علينا أن نتعرف على البيئة التي عاشت فيها حركة حِجْر... علينا أن نعرف الظروف السياسية والاجتماعية والدينية أيضاً، لنعرفَ بالتالي العوامل الرئيسية التي دفعت حِجْرَاً لكي يصبحَ ثائراً، وليس مجرد رجل معارضة... إِنّ تحوّل معارضته إلى ثورة ساخنة هزّت الحكم الأموي حتى بعد القضاء عليها، هذا لا يمكن تفسيره ووعيه إلاّ عندما نعرف كافة الظروف والعوامل، التي أثّرت في المجتمع آنذاك.

    فكيف كانت الأوضاع؟ وكيف عاش الناس؟

    وبعد ذلك كيف تحوّلت المعارضة إلى (ثورة الدم)؟.

    ١٢



    لأنّ مجتمع الكوفة كان مجتمعاً إسلامياً شيعياً، لذلك فإنّ أيّ دراسة تهمل هذه النقطة، هي دراسة سطحيّة وغير شاملة، لأنّ كل الأحداث، وكلّ النتائج كانت تسير ضمن المطابقة لهذه السمة، وهي كونه إسلامياً، موالياً للأمام علي، وأهل بيت الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكيف كانت حالة ذلك المجتمع من الناحية الدينية؟. أ- الإرهاب الفكري والسياسي:


    لم تكن الأحداث التي تجري داخل الكوفة، فقط هي التي تؤثّر على الحياة الطبيعية لمجتمع الكوفة، ولم تكن الإعدامات وغيرها في الكوفة - وما حولها فقط - تؤثّر على تحرّك الناس، وعلى الرأي العام، إنّما كانت الأحداث الخارجية - أيضاً - تؤثّر أكبر تأثير على المجتمع.

    ولأنّ المجتمع الإسلامي في العهد الأموي - خاصة في زمن معاوية - كان يعيش (أزمة انتهاكات)، من قبل الولاة والحكّام الأمويين، وكانت الانتهاكات الأمويّة للمقدسات الإسلامية على أشدّها.

    فبعد أن أغار بسر بن أرطاة، القائد الأموي على مكّة المكرّمة، واستباحها، وقتل شيوخها وأطفالها ونساءها، عرج على مدينة الرسول، مهبط الوحي، وقاعدة البناء الإسلامي، وقتل من بها من الشيوخ والنساء وحملة القرآن وحفّاظ الحديث.

    ١٣



    وتصل الأنباء إلى الكوفة.. ويخيّم على الناس ذهول عميق.. أترى تكون هي البداية؟ البداية التي تهدم كل ما بنى المسلمون وبهذا الشكل المريع!

    وقبل أن يفيق الناس من ذهول (كارثة الانتهاك الأموي للحرمين)، حتى يستيقظون على أثر الصدمة العنيفة بعد القرار الذي أصدره معاوية: شتم الإمامعليه‌السلام على كل منبر.. يستيقظون على قرار الاعتداء العلني على الرسالة، ويتذكرون قول رسول الله:«من سبّ علياً فقد سبّني، ومن سبّني فقد سبّ الله، ومن سبّ الله أكبّه الله في نار جهنم» .

    هكذا وللمرة الثانية يعتدي معاوية فيها على الرسول الأعظم، لقد كانت المرة الأولى عندما قال لأحد أصحابه:

    (إن أخا هاشم يصرخ به في كل يوم خمس مرات، أشهد أن محمداً رسول الله، فأيّ عمل يبقى بعد هذا لا أم لك، لا والله إلاّ دفناً دفنا)(١) .

    وهذه هي المرة الثانية التي يعتدي فيها على الرسول الأعظم، عندما يعتدي على الإمام عليٍّعليه‌السلام ؛ لأنّ الإمام علي هو نفس رسول الله، كما في الحديث السابق، وكما ينصّ القرآن في آية المباهلة حيث يقول فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ) .

    ____________________

    (١) مروج الذهب ج٣ ص٤٥٤.

    ١٤



    وبالطبع ليس شتم الإمام عليعليه‌السلام هو المهم؛ لأنّ«السبُّ لي زكاةٌ ولكم نجاةٌ» (١) ، ولكن ليست كل القضية هنا إنّما القضية هي: الهدف من وراء سبّ الإمام عليّعليه‌السلام ماذا كان؟ وما هي غاية تلك الحملة؟.

    لم يكن الهدف من شتم الإمام على المنابر إلاّ إيجاد الفاصل الطبيعي، والحاجز القلبي بين الإمام وبين المسلمين، وبالتالي - كنتيجة طبيعية لهذا - إيجاد الفاصل الكبير بين مبادئ الإمام، أهداف الإمام، تعاليمه، وبين المسلمين، في الوقت الذي كان فيه المسلمون بأمسّ الحاجة إلى أفكار الإمام، ومبادئه، وتعاليمه؛ لكي يعرفوا الحقّ بعد أن عاشوا زمناً طويلاً في ظلّ الباطل، وليذوقوا مع مبادئ الإمام لذّة العيش بحريّة، في ظلّ سجن الاستعباد الأموي، أي بصورة موجزة:

    خلق الفاصل بين الإمام والجماهير، وبالتالي بين مبادئ الإمام وحركة الجماهير. ب- تصفية العناصر الثورية:


    في ذات الوقت الذي كان الشيعة يعيشون في الكوفة، حيث محاولة (خنق الرابطة الحية) التي تربط الجماهير بالإمام عليعليه‌السلام ، كانت السلطة تشدّد ضغطها من الجانب الآخر، الذي كان امتداداً للإجراءات الأمويّة، وتكميلاً للصورة التي كانت

    ____________________

    (١) نهج البلاغة.

    ١٥



    ناقصة، ووضع لمسات الإرهاب، والتلوين بالدم الشيعي؛ لكي يصنعوا من الصورةِ تلكَ صورةً واضحةَ الملامح، محدّدة الصفات.

    وتنظر السلطة الأمويّة إلى الإمام الحسن كخطّ استمراري، يغذّي الروح الثوريّة، التي غرسها والده الإمام عليعليه‌السلام ، وترى أنّ وجوده يعني وجود الإمام علي، وإنّ الجذر وإنْ قلعت الفروع من الأعلى، فلابد أن يعوّض باستمرار بأغصان جديدة؛ لأنّ الجذر ينمو باضطراد.

    وضمن الخطّة الأمويّة لإبعاد (شبح) الإمام علي يُغتال الإمام الحسنعليه‌السلام .

    ولكن هل ينقطع المدد؟ بالطبع كلاّ.. فالإمام الحسين حيٌّ، وأصحاب الإمام علي لا زالوا يتحرّكون.

    وفي المقابل هل تسكت السلطة؟ إنّ الجواب معروف سلفاً، ليس ذلك فحسب، وإِنّما قامت بالمرحلة الثانية من الخطّة، وهي تصفية العناصر الشيعية المؤمنة، التي تُمَثْل القوى المعارضة، فكان الذبح، وكان الصلب وتعليق الرؤوس، وكان هدم البيوت على أصحابها، فتفرق كثير من الشيعة، وهاجروا إلى مناطق أخرى، خوفاً على أنفسهم، وحفاظاً على عقيدتهم، وهروباً من العبودية إلى الحرية، ومن الذلّ إلى الحياة الكريمة.

    وفي طريق تلك المرحلة كانت المدينة وكان القتل، وأيضاً

    ١٦



    كانت اليمن وذبح الأطفال الصغار، كما فعل بسر بن أرطاة مع طفلين صغيرين لعبد الله بن العباس (الوالي على اليمن).

    وكذلك أيضاً ولأول مرّة في التاريخ الإسلامي، سُبِيَتْ بعض النساء المسلمات، ووقفن في السوق للبيع! وفعل ذلك بسر مع نساء همدان بعد أن قتل كلَّ الرجال الذين كانوا معهم.

    وهذان ليسا إلاّ شاهدين فقط(١) ، من ألوف الجرائم التي ارتُكِبَت بحقّ الشعب المسلم في العهد الأموي.

    هكذا كانت التصفية عامة، ولكن من يقول أنّه شيعيّ (رافضيّ)، على الأخص بالنسبة للعناصر المعروفة، حيث كان العمل التصفوي لهذا الفرد لا يقلّ عن القتل، وتشريد العائلة، أو هدم البيت عليها!.. كل ذلك من أجل جعل الجوّ المسيطر على الكوفة، جو الإرهاب والخوف؛ حتى لا تفكر الكوفة بالثورة وإلى الأبد.

    وتبع هذه الحملات التصفويّة المحمومة، سلسلة من القرارات، كانت تمثل تكميلاً ومرحلة متطورة في القمع والإرهاب في الصفوف الشيعية، فجاءت لتكون تتويجاً، وقمّة لذلك النضال(؟) من أجل إخماد صوت الحقّ والحرية، الذي يتطلّع إليه كل الناس.

    وكانت بداية تلك القرارات:

    ____________________

    (١) للمزيد راجع الغدير ج١١ ص١٧.

    ١٧



    (انظروا إلى من قامت عليه البيّنة أنّه يحبّ علياً وأهل بيته، فامحوه من الديوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه)(١) .

    كانت البداية: قيام البيّنة.

    والنتيجة ستكون: المحاربة الاقتصادية فقط.

    وتطوّر الأمر.. وصل إلى كلِّ والٍ الكتاب الثاني، الذي وضّح القرار الأوّل وعمّمه، فكان الكتاب كالتالي:

    (من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكّلوا به وإهدموا داره)(٢) .

    في هذا القرار مجرد التهمة هو سبب كافٍ، ومبرر معقول للتنكيل بمن يُتَهم أنّه موالٍ لعليعليه‌السلام .

    وكان في الأخير: (خذوهم بالتهمة، واقتلوهم بالظِنّة).

    وهذه القرارات لم تكن لشيء آخر، إلاّ لتبرير التصفية فقط، ففي ذات مرّة أراد زياد عرض أهل الكوفة على البراءة من الإمام عليعليه‌السلام في ساحة المسجد، وعرف منذ البدء أنّهم سيمتنعون عن ذلك، ومن هنا يستطيع أن يستأصلهم، وحتى لو استلزم ذلك قتلهم كلّهم، ولكنّ أسباباً معينةً حالت دون ذلك.

    ____________________

    (١) العقد الفريد ج٤ ص٣٦٦.

    (٢) العقد الفريد ج٤ ص٣٦٦.

    ١٨



    ولكي تأخذ القرارات موضعها من التنفيذ بعد أن فشلت عمليات الاستفزاز الأمويّة، لجأ زياد إلى تصعيد الحملة الاستفزازية في شتم الإمام عليعليه‌السلام ، هذا الأمر الذي دعا الشيعة من أهل الكوفة إلى أن يعترضوا عليه ويرموه بحصى المسجد.

    وكانت هذه فرصته التي ينتظرها.. أنّه - فقط - يريد دليلاً صغيراً، ومستمسكاً واحداً للقتل، ولسفك الدماء، ووجد في ردّ أهل الكوفة عليه فرصة سانحة لكي يشبع نهمه، ونظره من رؤية الدماء (ترقرق بين العمائم واللحى).

    فنزل من المنبر باتجاه القصر، ليعيد حمامات الدم من جديد، فقطع أيدي ثمانين رجلاً ممن رموه، وممن لم يفعلوا، كل ذلك من أجل فرض سيطرة جوّ الإرهاب والقمع السياسي، لمقاومة أي تحرّك، وقبر أيِّ نداء.

    ولذلك عاشت الكوفة قمعاً سياسياً.. وأيّ قمع! وإرهاباً بالسيف.. وأيّ إرهاب!.

    هكذا كانت الحالة السياسية:

    التصفية + الصلب + هدم البيوت وتشريد العوائل. هل كان في صالح الشعب؟


    إنّ أيّ قرار، أو خطوة سياسية وفي أيّ مجتمع سوف تأتي:

    أمّا في صالح الشعب..

    ١٩



    أو في غير صالحه - أي ضد الشعب - ولذلك فإِنّ القرارات السياسية التي تفرض على مجتمع ما، فإنّها تفرض على ذلك المجتمع سلوكاً معيّناً، وتطرح فيه حالة تأتي كنتيجة لتلك القرارات.

    ولأنّ الإجراءات الأمويّة التي بدأت باغتيال الإمام الحسنعليه‌السلام وانتهاءً بالحملات التصفويّة للعناصر الشيعية المؤمنة... لأنّ هذه الإجراءات كانت موجّهة ضدّ الشعب، لذلك فإِنّ الشعب قد كفّ عن المطالبة بحقوقه الجزئية، أو بالتظلم من بعض الولاة الجائرين، لدى الخليفة (الحاكم)، كما كان يفعل في زمن عثمان بن عفان، لأنّه وجد نفسه أمام السلطة الأمويّة وهو يواجه الحياة أو الموت، بالإضافة إلى أنّه لم يعترف بشرعيّة حكم معاوية وخلافته. ومن هنا فإنّه وجد في السلطة القائمة عدوه الرئيسي الشرس الذي لابدّ أن يسقط.

    لقد كان عثمان يغلّف بعض تصرفاته (المرفوضة) من قبل الشعب بغطاء شرعي، يبرر به انتهاكات بعض ولاته، إلاّ أنّ الأمويين ما كانوا بحاجة إلى التمرير والتغطية، وإنما كانوا حكّاماً تسلطوا على الناس بقوة السيف، ويجب أن ينهبوا ما يشاءون ما دام السيف بيدهم.

    ومن هنا فقد كان (الحكّام الأمويون يغتصبون المقاطعات من أهلها الشرعيين، في الفتوحات الإسلامية، ويضعون نِسَباً عالية في أخذ الخراج من المسلمين، بالإضافة إلى الضرائب، والأتاوات

    ٢٠



    الكبيرة التي كانوا يفرضونها على الزراعة والتجارة، حتى كان البعض- تهرباً من ذلك يلجأ إلى تسجيل مقاطعاته باسم أحد الحكّام، أو أحد أقرباء الدولة، لكنها كانت تتحوّل تدريجياً إلى جيب ذلك الشخص القريب من جهاز الدولة)(١) .

    ومن هنا عاش الشعب فقيراً، حتى المال الذي كدح سنيناً من أجل أن يحصل عليه، كان يؤخذ منه على شكل ضرائب، أو غير ذلك، وهكذا عاش الناس في ظل الحكم الأموي:

    دينياً: الإرهاب الفكري وأزمة الانتهاكات.

    سياسيّاً: تصفية العناصر الثورية.

    اجتماعياً: التلاعب بالأموال، وحرمان الشعب.

    ولذا كان على ثورة حِجْر، ليس فقط أن تعارض، وإنما تعارض - وعلى الأصعدة الثلاثة - وبعد ذلك تضع خطّة إصلاحية إسلامية، وهذا ما فعلت!.

    ولكن كيف عملت؟.

    ____________________

    (١) ١٠ - ١ = صفر ص١١٤.

    ٢١



    هكذا خَرَجَتْ المُعارَضَةُ إلى العَلَنِ

    تعليق


    • #3
      هكذا خَرَجَتْ المُعارَضَةُ إلى العَلَنِ

      إذاً..

      كان الوضع فاسداً، من جميع النواحي السياسية والاجتماعية والدينية، كان فاسداً ومُتعفّناً.

      فماذا فعلت الثورة على هذه الجبهات الثلاث؟.

      وكيف حاولت تغيير ذلك الفساد الشامل؟.

      لأنّ الفساد كان يعمّ جميع النواحي الهامّة في المجتمع، لذلك كان على الثورة أن لا تصلح ثقباً دون آخر.. إنّ على الثورة أن تصلح جميع الثقوب، لكي يبدو (ثوب المجتمع) جميلاً، وفي نفس الوقت يحميه من لسعات البرد الأمويّة. من هنا كان على الثورة أن تعمل على الجبهات الثلاث. الإمام يُبعث:


      وحيث كانت (العادة الأمويّة) من شتم الإمام متجذّرة في

      ٢٢



      خّطَبِ الولاة والأمراء، وحيث كان الاعتداء يتمّ في كل يوم على الرسالة الإسلامية، لذا كان الاهتمام الأوّل يجب أن يبدأ من هذه النقطة؛ لأنّ دافع الناس، هو الرسالة الإسلامية، حيّة الناس آنذاك لم تكن طبيعية بغير الرسالة، نقطة انطلاقهم، وهدفهم أيضاً لم يكن سوى الرسالة، لذلك كان لابدّ للثورة أن تبرز هذه النقطة: قضيّة الاعتداء على الرسالة وعلى الرسول.. كان يجب عليها أن تظهر للناس قضية شتم الإمام عليعليه‌السلام .

      وذلك لعدة أمور:

      ١ - بما أنّ شتم الإمام يعني الاعتداء على الرسالة؛ لأنّه اعتداء على الرسول - كما بيّنا - وهو أمر يجب معارضته ورفضه، ورفض أصحابه - وفقاً لما يقوله الإسلام -( لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادّونَ مَنْ حَادّ اللّهَ وَرَسُولَهُ.. ) وقضية الرفض هذه لا يمكن أن تكون من (وراء الستار)، إنّما يجب أن تكون ظاهرة وعلنيّة؛ لكي تأخذ أثرها في الجماهير، وتبعث فيهم روح التحمس والرفض، وهذا لا يتمّ إلاّ بإظهار قضية الإمام.

      ٢ - لأنّ الإمام عليعليه‌السلام لا زال موجوداً في نفوس الجماهير المؤمنة، لذلك كان على المعارضة أن تثير قضية الإمام، لكي تعيده بمبادئه، وليس كما هو موجود في النفوس، وبالتالي إيجاد التطلّع في الناس إلى الحقّ والحرية، باعتبار أنّ الإمام علي كان

      ٢٣



      يمثّل ثورة إسلامية ضدّ قيم الباطل، وفي سبيل توفير الحرية والقوت للفقراء، وفي سبيل الناس.

      وبإحياء قضية الإمام، يمكن إعادة الرباط القومي الذي يشدّ الجماهير بالإمام عليعليه‌السلام ، وبمبادئ الإمام وأفكاره، وهذا ما تخشاه السلطة الأمويّة، أن تعود إلى الناس صورة الإمام، وتعود معه - طبيعياً - صورة العدالة، والحق، والحرية، وكرامة الإنسان.. وكان هذا هو الشبح الذي يهدد السلطة الأمويّة.

      ومن هذا المنطلق أي إِحياء قضية الإمام، وهي قضية الإسلام والعدالة والحرية، نرى حِجْرَاً كزعيم للثورة.. في كل وقت عندما كان يسمع شتم الإمام، يقف ويقول: (بل إياكم يلعن الله..)، ولهذا أيضاً نراه عندما يرتقي المغيرة بن شعبة - والي الكوفة - المنبر ويصل إلى شتم الإمام.. عند ذلك يقوم حِجْر ويقول:

      «بل إياكم يلعن الله، وأنا أشهد أنّ من تزكّون أحقّ بالذم، وأنّ من تذمون أحقّ بالفضل» .

      وهكذا انطلقت المعارضة - الثورة - في إِحيائها لقضية الإمام عليعليه‌السلام ، لكي يعود علي للجماهير، يصافحهم، يسأل عنهم، ويشعر بشعورهم، ويعطيهم من مواقفه الثورية، ومن تعاليمه، لكي يستعينوا بها في درب الموت الأُموي.. أي المنطلق، إسلامي وهو رفض الاعتداء على الرسالة.. والوسيله،

      ٢٤



      إحياء قضية الإمام في وقت كان الناس فيه بأمسّ الحاجة إلى قيادة الإمام وتعاليمه.

      بهذا الشكل عملت الثورة على الجبهة الدينية. المعارضة تتكتل:


      أمّا في الجبهة السياسية.. وحيث كان الضغط والإرهاب والقمع الأموي للشيعة عامة، ولكل من يُفكّر في مسار التفكير العلوي.. حيث كانت التصفيات الأمويّة للعناصر الشيعية الثائرة، والقرارات التي زرعت الجوّ الإرهابي في الكوفة، كان على الثورة أن تعمل في سبيل مواجهة هذا الإرهاب لكي تقاومه، ولذلك لجأت إلى أسلوب (التكتّل).

      ولأنّ الشيعي الرافض للحكم الأموي، وغيره من الحكومات الظالمة، أصبح مضطرّاً إلى أن يخفي هويته.. مبدأه العقائدي، اتجاهه السياسي، وانعكست هذه الظاهرة على المجتمع، فأصبح الناس يعيشون عزلة فكريّة عن بعضهم البعض، فكلّ فرد يشعر أنّه معزول فكرياً عن الآخر، ونتيجة لهذا الشعور لا يتجاوب مع أيِّ فرد يتحدّث معه حول قضايا (المبدأ والهوية والاتجاه)؛ لأنّ كل هذا كفيل بتحديد مصيره.

      من هذه الحالة كان على المعارضة أن تجمع الناس، وأن تجعلهم يتكتلون ضمن دائرة محددة، تكتسب القوّة من تلاقي أفكار هؤلاء الأفراد الذين هم ضمن هذه الدائرة، وتخرجهم من عزلتهم

      ٢٥



      الفكريّة.. فجمعت الناس تحت لواء الثورة على الباطل.. ولأنّ هؤلاء كانوا واثقين تماماً من منطلقات- الثورة- الإسلامية، لذلك فقد التفوا حولها بسرعة، وأصبحوا يعقدون (اجتماعات سرية) ليلاً، من أجل أن يتلقّى كلّ فرد المهام المحددة له، وكيفية العمل آنذاك بالإضافة إلى أنّهم كانوا يعقدون (اجتماعات علنية) في المسجد، وغيره من مراكز التجمع الجماهيرية، لكي لا يشعر الفرد الشيعي أنّه معزول عن بقية إخوانه الذين يفكّرون بنفس تفكيره، ومظهر من مظاهر التلاحم الشعبي للوقوف أمام القمع الأموي.

      ونستطيع أن نعرف هذا جيداً، ونعرف مدى كثافة وخطورة تلك المجتمعات، إذا تأملنا قليلاً في الرسالة التي بعث بها (عمرو بن حريث) والي الكوفة إلى زياد، يبيّن له فيها التطورات الأخيرة التي حدثت في الكوفة، والتي كانت من الخطورة إلى حدٍّ أنّ زياد - بعد أن علم بها - أتى على الفور؛ لتدارك الموقف.

      وليست هذه هي المرّة الأولى التي يحذّر فيها زياد، فقد سبق أن حذّره أحد أصحابه، وهو عمارة بن عقبة.

      وعن طريق التكتّل، ومحاولة التجمع، وإزالة حواجز العزلة الفكريّة بين كل فرد وآخر، استطاعت الثورة بزعامة حِجْر أن تجعل من حلقتها ما يقرب من ثلثي المسجد(١) من

      ____________________

      (١) الغدير ج١١.

      ٢٦



      الناس المجتمعين.. وعن طريق (التكتّل والتجمع) الذي سلكته الثورة، استطاعت أن تقاوم النشاط السياسي الأموي المضاد، وأن تصمد في مواجهة الأجهزة الأمويّة. الجماهير تستجيب:


      أمّا كيف استطاعت الثورة أن تعمل في المجال الاجتماعي، فهذا ما سيتّضح إذا علمنا أنّ الحياة الاجتماعية، والحالة الاجتماعية ليست في الواقع إلاّ انعكاساً صافياً للناحيتين الدينية، والسياسية على (مرآة) المجتمع، ولذلك فإنّ أيّ قرار سياسيّ لن تعرف آثاره، ولن ترى نتائجه إلاّ في الوسط الاجتماعي.

      فتصفية العناصر المؤمنة، والطلائع الشيعية الثائرة، لم تكن إلاّ خطوة سياسية، ولكن آثارها انعكست على الناحية الاجتماعية، حيث أخذ الناس يتفرّقون ويعيشون عزلة فكريّة عن بعضهم البعض.

      وإشاعة الجو الإرهابي، بالقتل والتنكيل والقمع، لم تكن إلاّ مرحلة ضمن خطّة سياسية تستهدف قتل الروح الثورية في الجماهير، وهذه المرحلة السياسية لم يكن لها أيّ تأثير، إلاّ على الحالة الاجتماعية للشيعة في الكوفة، حيث أثرت - عكسيّاً - وبفعل قيام أفراد مناضلين في إحياء روح المجتمع الشيعي مرة ثانية.

      وأيضاً.. الاحتكار، الاستغلال، تسخير الناس بالجملة، وتدويل الأموال بيد فئة قليلة من المجتمع لم يكن إلاّ خطّة

      ٢٧



      سياسية، اقتصادية من أجل السيطرة على المال، وعلى الموارد الاقتصادية للمجتمع، ولكن آثارها لم تكن إلاّ اجتماعية، ولم تنعكس إلاّ على الصعيد الاجتماعي، وكان ذلك الانعكاس، الحرمان العام.. وهنا كانت القضية الرئيسية، لأنّ الوضع الديني الذي كان سائداً، والحالة السياسية التي كان يعيشها المجتمع اندمجتا، وكانت الحالة الاجتماعية هي النتيجة.. وكان أبرز ما في الحالة الاجتماعية، قضية الفقراء، وقضية الحرمان، وقضية الحقوق.

      ولأنّ الاستغلال حين يكون في مكان ما يكون الفقر فيه.

      وحيث يكون الاحتكار والاستئثار تكون الفاقة.

      وعندما يكون الفقر تكون قضية الفقراء.

      وعندما تكون قضية الفقراء فلابد أن تكون هنالك إغيديولوجية تطالب بحقوق الفقراء.

      وعندما توضع الإيديولوجية موضع التنفيذ.. تكون الثورة.

      ولأنّ حرمان الناس من حقوقهم كان أبرز قضية اجتماعية، وأكبرها سعة وشمولية، لأنّها تشمل قضية أكبر قطاع اجتماعي (لأنّها تشمل معظم الشعب).

      لهذا انطلقت ثورة حِجْر لكي تعارض وجود الحرمان، أو المحرومين؛ لأنّ مبدأه الذي هو منطلق ثورته يفرض على الثورة أن تطالب بحقوق الفقراء والمحرومين؛ لأنّه:

      (ما جاع فقير إلاّ بما متع به غني) .

      ٢٨



      وكان عليه أن يقوم في سبيل الفقراء والمستضعفين..

      ( وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ ) .

      ومن هم المستضعفون؟. إنّهم:

      ( الّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظّالِمِ أَهْلُهَا ) .

      وبالطبع هذا لا يعني المتسلطين على الحكم، والذين يظلمون مباشرة، وإنّما أيضاً يشمل كل من يسكت على ظلم هؤلاء لأنّ:

      (من رضي بعمل قوم حشر معهم).

      ولأنّ الدين الإسلامي (منطلق ثورة حِجْر) كان يفرض مناصرة الفقراء، والمطالبة بحقوقهم، لهذا بدأ حِجْر في المطالبة للفقراء.. ولكن كيف؟

      في سبيل أن يضمن ثقة الجماهير به وبحركته، ومن أجل إحباط الدعاية الأمويّة المضادة التي تقوم بها السلطة ضدّ حركته، وتشويهها أمام الجماهير.. في سبيل ذلك، بدأ حِجْر معارضته العلنية - وبالطبع لم يكن هدفه أن يكسب ثقة الجماهير فقط - إنّما يكسب ثقة الجماهير؛ لكي يستعين بهم في ثورته من أجلهم.

      ولذا بدأ يطرح نفسه على الساحة الشيعية كمعارض علني للسلطة الأمويّة، وبدأ بمعارضة شتم الإمام، على المنبر.. وتطوّر الأمر شيئاً فشيئاً، إلى أن بدأ يحرّك الجماهير عن طريق التوعية، إلى أن أصبحت الجماهير قادرة على رفع صوت الرفض، وهذا ما أدركه، وتيقن منه حِجْر بعد (حادثة الرفض الجماعي)..

      ٢٩



      حيث كان المغيرة بن شعبة، والي الكوفة الأموي يخطب على المنبر، وكعادته بدأ يشتم الإمامعليه‌السلام .

      وعند ذلك قام حِجْر وأشار بيده، ثم قال بصوت رفيع سمعه كل من في المسجد وخارجه:

      (أيها الإنسان، إنّك لا تدري بمن تولعت لهرمك (يعني لقد أصبحت مخرّفاً)، وقد أصبحت مولعاً بذم أمير المؤمنين، وتقريظ المجرمين).

      وعند ذلك كانت الاستجابة الجماهيرية، وراء صرخة حِجْر، عندما قام أكثر من ثلثي من في المسجد يقولون:

      (صدق والله حِجْر وبرّ، مر لنا بأرزاقنا وأعطياتنا، فإنّ ما أنت عليه لا يجدي علينا نفعاً).

      وتتطوّر المطالبة بحقوق الفقراء إلى مرحلة أخرى وتقفز، لتأخذ شكلها العملي عندما كانت القافلة محمّلة بالذهب والفضة، وأحمال الأموال، وكانت تتجه آمنة مطمئنّة إلى الشام، أثر كتاب تلقّاه المغيرة من معاوية طلب من المغيرة إرسال مال له، ويأتي هذا الأخير ليفرّغ بيت مال المسلمين، ويحمّل القافلة.. وينظر الفقراء إلى القافلة نظرات غاضبة؛ لأن المال مالهم، وكسيرة في نفس الوقت؛ لأنّها لا تستطيع أن تفعل شيئا.

      ويعلم حِجْر وأصحابه بالخبر، وتتأكد لديهم صحّة الأنباء التي

      ٣٠



      سمعوها، ويجتمعون اجتماعاً عاجلاً، لبحث الموقف.. وفي أقلّ من ساعة، كانوا خارج الكوفة، مختفين وراء باب السور.. وتأتي القافلة، تتهادى بأحمالها، وتعبر الباب للخروج، فيقف حِجْرَاً أمامها، وتجفل مقدمة القافلة ويأخذ بزمامها فيما بعد.. فيصيح عليه أحد الحرس. ثم يعود بها إلى الكوفة ليوزعها على الفقراء (لا والله حتى يوفّى كل ذي حقٍّ حقه).

      وبعد هذا..

      وبعد أن شعر الحكم الأموي بأنّ الثورة تحركت إلى مواقعها الأمامية للمواجهة الفعلية؛ بدأ في ملاحقة واعتقال أفراد من الثوار، وأيضاً يسلم حِجْر نفسه لضمان استمرار الثورة حيّة، وكإحدى طرق التقيّة والمرونة الرساليّة الثورية.

      ولكن هل تنتهي فصول الثورة؟

      بالطبع كلاّ.. ثمّ كلاّ أيضاً. لأنّ الثورة - أي ثورة رسالية - لا تنتهي بانتهاء الثائر، وإنّما تبقى حيّة في ضمير الأمّة، وتبقى دماً في شريان الأمّة، لا تستطيع الأمّة العيش بدون ذلك الدم. ذلك الدم الذي أعطى ولا زال يعطي ثوّاراً.. ويعلّم الأمّة:

      (أن عمل الثورة - أي ثورة - السياسي يجب أن لا ينفصل عن العمل الإسلامي، وعن الأهداف السماويّة، وفي سبيل أن يبقى الدين الإسلامي هو المنطلق، والجماهير المؤمنة هي الغاية).

      ٣١



      في الطريق إلى الشهادة

      تعليق


      • #4
        في الطريق إلى الشهادة

        في مسيرة كل ثورة نقاط ضوء مشعّة، تظل مشتعلة للأخير، لكي تنير الدرب أمام الأجيال القادمة.

        وفي حيّة كل ثائر مواقف مبدئية شجاعة لا تستحقّ منّا الإعجاب والثناء والتقدير فقط، وإنّما هي جديرة بأن تكون قدوة للثائرين على مرّ الأيام.

        ولأنّ الإنسان يجب أن يكون دائماً في ثورة تغييريّة ضد شهوات نفسه وذاته.. ضدّ القيم الفاسدة التي تعشعش فيه، ضدّ مجتمعه الخامل الذي يحول بينه وبين التطلع إلى السماء.. وضدّ الحاكم الذي يمنعه من الانطلاق، لهذا السبب يجب أن يتخذ له مثلاً وقدوة؛ لكي يسير على طريقه، ويستنير بنوره، لذلك سنستعرض بعض المواقف الثورية المبدئية في حيات الثورة.. والثائرين في طريقهم إلى الشهادة ضدّ الجلاّدين.

        ٣٢



        وعلينا في البداية أن نحدد موقفنا الذي نحن فيه، لكي نجعل من (ثوار الحقّ) نموذجاً لمواقفنا التي يجب أن نتخذها، وبالذات هذه المواقف؛ لأنّها تقطع أيّ عذر، أو تبرير قد نتخذه تجاه المواقف الثورية للأئمةعليهم‌السلام ، كالتعلل بأنّهم كانوا معصومين، وأنّه لا قِبَل لنا ولا قدرة على الاقتداء بهم.

        وكمحاولة من أجل السير في ضوء تلك الثورة المضيئة، وفي سبيل أن نعرف كيف نثور؟ بل وكيف نستمر في الثورة؟ علينا أن نذهب إلى تلك المشاعل الحمراء، التي أوقدها الثوّار العقائديون، وأيضاً من أجل أن نستفيد من ضوئها الثوري؛ لكشف أعداء الثورة، ولخدمة المسيرة الثوريّة المبدئية. رَفَضَ أن يتنازلَ عن مبادئهِ ذرّة

        فرفضوا أن يتنازلوا عن دمهِ قطرة:


        عجيبة قضية المبادئ.. وأعجب منها روح من يُضَحْي في سبيلها.. ذلك أنّه عندما تكون القضية، قضية: أن يكون الدين ومبادئ الحقّ والعدل، أو لا يكون، فإنّ كلّ شيء يصبح رخيصاً، المال والبنون والنفوس.

        حتى لو كلّفت القضية أن تضع حياتك في كفّة، والمبدأ في أخرى، فعليك أن تضحي بحياتك من أجل إعطاء الحياة للمبدأ.

        ومن هنا كانت عظمة إبراهيمعليه‌السلام حينما أشعلت النار

        ٣٣



        وأضرمت من الحطب، ووضع في الآلة التي ستقذفه إلى ضرام النار.. حتى تلك اللحظة، لم يفكّر أن يتراجع، ليعيش بدون مبدئه، كان يفكّر أنّ عليه أن يبقى صامداً؛ لكي يعطي الحياة للمبدأ.

        وكانت عظمة محمّد أن واصل مسيرته، وجهاده في سبيل المبدأ، وتحمل كل أشواك الطريق.

        وكانت عظمة حِجْر أنّه واصل مسيرته للأخير، ولم يتراجع.

        لقد جاهد وناضل وسجن أيضاً، وإلى الرمق الأخير كان لا يزال صامداً على مبدئه.

        ولقد طورد، وقتل أمامه ابنه، ووضعت حياته ثمناً لشراء ضميره، فلم يقبل أن يبيع، ولقد حاول أعداؤه - جهد ما استطاعوا - أن ينزعوا منه صموده، فلم يقدروا، ولقد أرادوا أن يجعلوا منه عبداً خاضعاً لهم - بعد شرائهم لمبدئه - لكنّه رفض إلاّ أن يعيش حرّاً مع مبادئه.

        ولذلك نرى حِجْر..

        وقد صعد زياد المنبر، وأخذ يخطب في الناس، وقبل نهاية الخطبة، ذكر أصحاب عثمان، وترحّم له ولهم، وأخذ يمدحهم (بما ليس فيهم طبعاً)، وبعد ذلك ذكر الإمام وأصحابه، فشتمهم واسترسل إلى أن أوشك وقت صلاة العصر أن ينتهي.. نرى حِجْرَاً يقوم من مكانه منادياً:

        الصلاة!! الصلاة!.

        ٣٤



        ولم يتحرك أحد.. بينما استمر زياد في شتمه للإمام، وقام حِجْر للمرة الثانية ونادى بصوت أعلى:

        الصلاة!! الصلاة!.

        ولمّا لم يتحرّك أحد.. قام للمرة الثالثة قائلاً ومقاطعاً لزياد:

        (شاهت الوجوه ذلاًّ.. يمنعكم زياد صلاتكم)!.

        ثم قام وكبّر للصلاة، وابتدأ يُصلّي، مما أجبر زياد على أن يقطع الخطبة، وينزل من المنبر.

        هكذا تمرّد حِجْر مؤكداً:

        أن مبادئ الله يجب أن تنفذ، وأن تطبق، حتى ولو كان الوالي أو الحاكم يريد أن يؤخر ذلك.. أحكام الدين يجب أن تمارس من دون إذن الحاكم.. الصلاة يجب أن تكون في خطّ الصلاة أي ضدّ الخنوع، والخضوع، والاستسلام للحاكم المستبد.

        * * *

        (إنّ أصحابك قد استجابوا لأمير المؤمنين(؟؟..) وإنّ أمير (...؟ يقول: إن تبرءوا من عليّ، يخلَ سبيلكم، وتعودوا إلى أهلكم، وإن لم تفعلوا، فإنّه القتل).

        هذه كلمات أحد رسل زياد لحجر، عندما قبض عليه واعتقل وأودع السجن، بعد أن كُبّل بالحديد، وعزل عن الناس، إلاّ قلّة من أصحابه من (رفقاء الدرب)، وحينما سمع حِجْر ذلك ضحك، وبالطبع لقد كان الجواب معروفاً.

        ٣٥



        لقد وضعوا حياته ثمناً لبراءته من الإمام، ولتخليه عن مبادئه، إلاّ أنّه كان يقول، ضمن موقفه، وفي كل وقت:

        (أتأمرونني أن أترك دين الله وأخسر دنياي وآخرتي؟ أتخيرونني بين الحقّ والباطل وتريدون أن أختار الباطل على الحقّ)؟.

        هكذا كانت قضية حِجْر مع المبادئ، لقد رفض أن يتنازل عن مبادئه ذرة واحدة.. فرفضوا أن يتنازلوا عن دمه قطرة واحدة.. عندما يحضر الجلاّد لقتلك

        فأعلن كلمتك بصراحة:


        أن يصمد الإنسان على موقف، ويبدأ منه مسيرته، ويستمر على ذات الموقف.. وينتهي هو لكي يبقى موقفه، وتبقى مسيرته، ينتهي وهو لا يزال على ذات الموقف.. أي أنّه:

        يبدأ منه، ويعيش معه، وينتهي إليه، ولا يتردد لحظة واحدة في اختيار المواقف تجاه الأحداث لأنّه يعرف من أين ينطلق، وكيف يسير، ويعرف تماماً أن مصيره سيكون مع ذلك الموقف، بل لا يفكر لحظة، في أن يتردد.. فكل ذلك من صفات المؤمن العقائدي الذي لا يخشى في سبيل الثورة الاسلامية لومة لائم.

        وهكذا كان كل الأبطال وكل الأنبياء وكل الذين اتبعوهم اتباعاً رسالياً، وكل الثائرين من أجل الله.. صموداً في الموقف،

        ٣٦



        صموداً في الانطلاق، صموداً في المسيرة، وأخيراً تتويجاً لذلك الصمود بالنصر أو الشهادة.

        وهكذا كان حِجْر وأصحاب حِجْر لأنهم كانوا ينتمون إلى جيل الأنبياء العظام والذين جاهدوا في سبيل قضية الله في الأرض..

        فعندما كان المغيرة يخطب في أحد الأيام ويكثر من شتم الإمام، كان حِجْر - دائماً - يقوم ويعترض كلامه، فما كان من المغيرة ذات مرة، إلاّ أن هدده قائلاً: (يا حِجْر اتق غضب السلطان، فإنه كثيراً ما يهلك أمثالك)!.

        وبالرغم من هذا التهديد الشديد لحجر، إلاّ أنّه استمر في معارضته ورفضه، ذلك لأنّه يعرف موقفه من الباطل، ويعرف أن صموده على هذا الموقف يعني انتصار الرسالة وانتصار الحقّ، وفي هذه المرة، وحيث لم يكن التهديد من قبل السلطة كافياً، فكّر الوالي الجديد في وسيلة أخرى لتجميد نشاط حِجْر، فاستعمل وسيلة الترغيب، ووعده بالأموال، والعطاءات الخاصة، والهدايا المستورة، فبمجرد أن جاء زياد بن أبيه إلى الكوفة والياً عليها، طلب حِجْر إليه، وقال له ضمن كلامٍ طويل: (وهذا سريري فهو مجلسك).

        ويسكت حِجْر ولا يعطيه جواباً مقنعاً، ولكنّه يعطيه الجواب الصارم، عندما يخرج ويعاود نشاطه الثوري، ويعاود عقد الاجتماعات مع عناصره، لكي يثبت للناس أن الثائر الرسالي، موقفه واحد، وعمله يتّجه في اتجاه واحد، سواء كان الوالي هو المغيرة أو زياد, معاوية أو غيره.. وكان هذا الموقف صامداً حتى في ليلة الشهادة.

        وبعد أن عرف الثوار إلى أين هم صائرون، بعد أن عرفوا أنّ تلك السيوف التي تبرق الآن لمّاعة بيضاءٍ، سيختفي بريقها ولمعانها حينما تأخذ طريقها إلى رقابهم.

        في تلك الليلة كان اختبار الموقف الأخير، قال لهم الجلادون: (يا هؤلاء.. لقد رأيناكم البارحة قد أطلتم الصلاة، وأحسنتم الدعاء.. فأخبرونا قولكم في عثمان؟.

        وكان الموقف واحداً.. كان منذ البداية واحداً، واستمر إلى النهاية.. إنّه واحدٌ، رُغم أنّ السيف الذي يواجههم الآن، هو غير السيف الذي طاردهم في الكوفة، لكن ما دام السيفان يلتقيان على درب الباطل.. ويسيران في نفس الاتجاه، فإنّ الموقف هو واحد، وإن اختلف السيفان. ولذلك قالوا وبصوت واحد: (إنّه أوّل من جار في الحكم، وعمل بغير الحقّ).

        ويسألونهم ثانية: (أوَ تتبرءون من هذا الرجل؟) أي الإمام، فقالوا وقضيّتهم لا تزال ترتسم أمامهم: (بل نتولاّه، ونتبرّأ ممن تبرّأ منه).

        وهكذا علّم حِجْر كل الثائرين: (إذا جاء الجلاد لقتلك). (فأعلن كلمتك بصراحة).

        هذه بعض المواقف التي كان عليها حِجْر لأنّه كان يريد إقامة

        ٣٧

        الحقّ، وتحطيم الباطل، ولذلك ضحّى، ومن أجل ذلك ثار، وكان موقفه صامداً وواحداً، ولم يتغير؛ لأنّه كان يريد إقامة أمر الله، لهذا كان شديداً في الحقّ لأنّه:

        (لا يقيم أمر الله إلاّ من لا يصانع (لا يُداري أحداً في الحقّ)، ولا يضارع (لا يتشبه بالباطل) ولا يتبع المطامع).

        ومن هنا رفض أن يحني رقبته للجلاد الأموي؛ لأنّه منذ البدء رفض الخنوع، والانحناء أمام الباطل الأموي، وتابع رفضه هذا للأخير قائلاً:

        (ما كنت لأعين الظالمين).

        وبقوله هذا لخّص لنا كل منطلقاته، ووضّح هدف ثورته.. وعلّمنا أيضاً أنّه:

        (إذا جاء الجلاّد لقتلك)

        (فلا تمدّ عنقك لسيفه)!.

        ٣٨



        يوميات الثائر

        تعليق


        • #5
          يوميات الثائر

          إلى هنا كنّا قد عرفنا حِجْرَاً (الثائر)، ولكي تتكامل رؤيتنا إلى حِجْر، ولكي نعرف حِجْرَاً، بصورة أكثر، تعال نتعرف على مسيرة ثورته، وكيف كانت الأحداث تتابع..

          بدأت المعارضة تتحول إلى عمل ثوري، عندما بدأت تمارس المعارضة عملياً، ولأنّها قد كثّفت من (اجتماعاتها السريّة) مع عناصرها، لهذا كان على السلطة أن تتدارك الوضع الخطير، فأرسل عمرو بن حريث - والي الكوفة بالنيابة - كتاباً إلى زياد يخبره فيه بالوضع، وبسرعة قدم زياد إلى الكوفة من البصرة، وصعد المنبر، وخطب في الناس:

          (أمّا بعد: فإنّ غب (عاقبة) البغي والغي وخيم، وإنّ هؤلاء جمّوا (كثروا) فأشِروا وأمِنوني فاجترؤوا على الله (...؟)، ولئن لم تستقيموا

          ٣٩



          لأداوينّكم بدوائكم، ولست بشيء إن لم أمنع باحة الكوفة من حِجْر، وأدعه نكالاً لما بعده). المطاردة:


          وبعد خطبته أمر برئيس شرطته (محمّد بن الأشعث) فأتاه، فقال له زياد: (أذهب وائتني بحجر في الحال)، فذهب الأخير إلى دار حِجْر، ولكنّ أصحاب حِجْر شتموه وقالوا: (لن نأتيه، ولا كرامة لكما)، فرجع ابن الأشعث وأخبر زياداً، فصعد زياد المنبر، وخطب في الناس قائلاً:

          (يا أهل الكوفة أتشجون بيدٍ، وتأسون بأخرى؟ أبدانكم معي، وقلوبكم مع حِجْر الأحمق (...؟)، والله لتظهرنَّ لي براءتكم، أو لآتينَّكم بقوم أقيم بهم أودكم).

          فقالوا: معاذ الله أن يكون لنا رأي إلاّ طاعتك، وما فيه رضاك.

          فانتهز زياد الفرصة فقال:

          (فليقم كل رجل منكم فليدع - من عند حِجْر - مَن من عشيرته وأهله). ففعل هؤلاء وانسحب أكثر أصحاب حِجْر عنه.

          وهنا قد يثار السؤال الذي هو: لماذا تفرّق الناس عن حِجْر بعد أن كانوا ملتفّين - أكثرهم - حوله؟

          ٤٠



          والجواب يتلخص في نقطتين:

          ١ - القمع العنيف والإرهاب الذي كان يمثله زياد، حيث أنّه لم يكن في يوم من الأيام ليرتاح، ما لم يقتل ويسفك، ويكفي أن نعرف أنّه قطع أيدي ثمانين رجلاً في يوم واحد، لأنّ بعضهم رماه بالحجارة، فكان هذا الإرهاب، خصوصاً بعد التهديد الشديد لرؤساء القبائل، بوجوب سحب من كان مع حِجْر وهو من قبيلتهم، وبالفعل لم يكن هناك أيّ رادعٍ، يردع زياد عن ارتكاب أيِّ جريمة بحقِّ الجماهير..

          ٢ - عدم النضج الثوري عند الجماهير التي اتبعت حِجْرَاً نضجاً كافياً، صحيح أنّها آمنت بوجوب الثورة والقيام بها، ولكن لم تنضج عندها تلك الفكرة نضجاً تامّاً، ولعلّ الوقت القصير لثورة حِجْر - بالنسبة إلى عمر الثورات - قد أدّى إلى عدم هذا النضج، فجاءت هذه الهجمة من زياد على حين غرّة بالنسبة للجماهير الثائرة.. أي أنّ الإرهاب مع عدم النضج الثوري، كانا من العوامل الرئيسية التي أدّت بمجموعة كبيرة من الأفراد الذين كانوا حوله إلى الانسحاب.

          وعندئٍذ، وبعد انسحاب معظم أصحاب حِجْر، قال زياد لرئيس شرطته: (انطلق إلى حِجْر فائتني به، وإلاّ فشدوا عليهم بالسيوف حتى تأتوني به) وذهب ابن الأشعث إلى حِجْر يدعوه إلى زياد، ومنعه أصحاب حِجْر عنه للمرة الثانية، وشدّ

          ٤١



          عليهم ابن الأشعث يريد أسرهم، فقال أبو العمرطة الكندي لحجر: (يا حِجْر إنّه ليس معك رجل معه سيف غيري، فما يغني سيفي عنك؟ قم فالحق بأهلك يمنعك قومك)، وهنا داهمهم رجال زياد، وجهاً لوجه، ولكن أصحاب حِجْر استطاعوا فتح ثغرة والوصول إلى دار حِجْر.

          وعندما رأى حِجْر أنّ أصحابه أصبحوا قلّة ضئيلة، أمرهم بالانصراف قائلاً: (لا طاقة لكم اليوم بمن قد اجتمع عليكم، وما أحب أن تهلكوا). فانصرفوا، وتبعهم أصحاب زياد فاعتقلوا بعضهم، وقتل الآخرون.

          وبعدها هرب حِجْر خفية، وذهب إلى بيت رجلٍ من بني حوت، وعندما عرف الرجل أنّ الأعداء قادمون، أخذ سيفه ليدافع به عن حِجْر، ولكنّ حِجْرَاً استوقفه، وسأله عمّا إذا كان في البيت كوّة، أو نافذة؛ ليخرج منها، فلمّا أجابه بالإيجاب خرج منها، وذهب إلى النخع (مكان لإحدى القبائل) فدخل دار (عبد الله بن الحرث النخعي) أخي مالك الأشتر، وبينما هما كذلك، إذ سمعوا حوافر خيل تقترب، فسألوا: ما الخبر؟ فقيل: إنّها شرطة زياد، ولكن كيف علمت الشرطة بمكان حِجْر مع العلم أنّه بالغ في التكتّم والتخفّي؟.

          والجواب هذا:

          ٤٢



          أنّ امرأة سوداء رأته، وهو يدخل النخع، وعندما رأت شرطة ابن زياد سألتهم عن سبب مجيئهم فقيل لها: للبحث عن حِجْر بن عَدِي، فقالت لهم: إنّه في النخع... وعندما أحسّ حِجْر بهذا خرج إلى الأزد (وهو مكان لإحدى القبائل)، ونزل عند (ربيعة بن ماجد)، واختفى هناك، ولم تستطع الشرطة العثور عليه.

          وعندما علم زياد أن أصحابه فشلوا في القبض على حِجْر، استدعى محمّد بن الأشعث - رئيسهم - وقال له:

          (والله لتأتيني به أو لأقطعنَّ كل نخلة لك.. وأهدم دورك، ثمّ لا تسلم منّي أبداً). الاعتقال:


          وعندما رأى حِجْر أنّ ثورته قد تستخدم ضدها الدعاية الأمويّة المضللة، فتفقد قاعدتها الجماهيرية، وذلك عن طريق القتل، والسلب، والترويع، والهجوم على أماكن القبائل بحجّة التفتيش، وربط كل هذه المشاكل بقضية حِجْر، مما يحدث سخطاً على حِجْر - الذي ترتكب الجرائم باسم التفتيش عنه - فمن أجل الحفاظ على القاعدة الشعبية للثورة، وبعد أن علم أنّ اختفاءه ليس في صالح قضيته أرسل إلى محمّد بن الأشعث يسأله أن يأخذ له أماناً من زياد؛ لكي يذهب إلى معاوية، فجمع ابن الأشعث جماعة، ودخلوا على زياد، واستأمنوه على حِجْر حتى يذهب إلى

          ٤٣



          معاوية، فأعطاهم الأمان، وأرسلوا إلى حِجْر فحضر إلى زياد... وعندما حضر، قال له زياد بشماتة من سيطر بعد التعب:

          (مرحباً.. مرحباً بك يا أبا عبد الرحمان، حرب في أيام الحرب، وحرب وقد سالم الناس!! على أهلها تجني براقش).

          وبعدها أدخل حِجْر السجن، وسجن لمدة عشر ليال، وقبل انقضاء مدة سجنه جمع زياد بعض رؤساء القبائل وهم: عمرو بن حريث، وخالد بن عرفطة، وقيس بن الوليد، وأبو بردة بن أبي موسى الأشعري، لكي يشهدوا على حِجْر أنّه (جمع الجموع، وأظهر شتم الخليفة، ودعا إلى حرب أمير المؤمنين (؟؟..)، وزعم أنّ هذا الأمر (الخلافة) لا يصلح إلاّ في آل أبي طالب، وأظهر عذر أبي تراب، والترحم عليه، والبراءة من عدوه، وأهل حربه).

          وكان صحيحاً أنّ حِجْرَاً جمع الناس حوله لكي يثور على الحكم الظالم، كل هذا صحيح، وهذا ما أدركه زياد، فقال: (ما أظن هذه شهادة قاطعة، وأحب أن يكون الشهود أكثر من أربعة). فدعا الناس؛ ليشهدوا على حِجْر، فشهد هؤلاء الأربعة وغيرهم، على ما جاء في كتاب زياد لمعاوية في الشهادة على حِجْر، وكان مما جاء فيه:

          (أمّا بعد، فإنّ الله قد أحسن عند أمير المؤمنين البلاء، فأداله عدوه وكفاه مؤنة من بغى عليه، وإنّ طواغيت الترابيّة السبأيّة، وعلى رأسهم حِجْر بن عَدِي، خالفوا أمير المؤمنين، وفارقوا جماعة المسلمين، ونصبوا لنا الحرب، فأظهرنا الله عليهم، وأمكننا فيهم، وقد دعوت خيار أهل المصر، وأشرافهم، وذوي النهى والدين، فشهدوا بما رأوا وعلموا، وقد بعثت بهم - بحجر وأصحابه - إلى أمير المؤمنين وكتبت شهادة صلحاء المصر، وخيارهم في أسفل كتابي هذا).

          وكان حِجْر وأصحابه قد وصلوا إلى منطقة مرج عذراء وسجنوا هناك، وكان عددهم اثني عشر رجلاً، وأتمّوا أربعة عشر رجلاً عندما أرسل إليهم زياد اثنين من أصحاب حِجْر.

          وكان مرج عذراء بانتظار الثوار.

          ٤٤



          في مرج عذراء

          - ما اسم هذه المنطقة؟

          - إنّها عذراء.

          - عذراء! متى؟ كيف.. كنت في عذراء؟ وهل هذه بالفعل هي عذراء؟ ثم تبسّم حِجْر قائلاً:

          - (الحمد لله.. أما والله إنّي لأول مسلم نبحت عليه كلابها، ثمّ أنا اليوم أحمل مصفوداً إليها).

          ومرّ بخاطره فتحهُ لعذراء، وكيف جاهد في سبيل إدخال نور الإسلام إليها، ثمّ ها هو اليوم في عذراء مرّة ثانية، لكنّ الفرق أنّه كان في الأولى قائد جبهة الحقّ، دخلها منتصراً، وها هو الآن يدخلها كقائد لجبهة الحقّ، ولكن مُصفّد.

          وهكذا كانت مرج عذراء موطن البطولة..

          لقد استضافت حِجْرَاً عندما جاء إليها مجاهداً في سبيل الحقّ، وها هي تستضيفه ثائراً من أجل الحقّ، ومصفوداً في الأغلال.

          ٤٥



          وهكذا منع الثوار دخول دمشق، لأنّ دخولهم كفيل بتفجير (القنبلة الثوريّة) في مجتمع الشام.

          وفي ليلة الشهادة:

          اغتنم حِجْر وأصحابه فرصة التفرّغ، وذهبوا إلى الله، وغرقوا في الابتهال إلى الله، لا من أجل النجاة، وإِنّما من أجل أن يزيدهم حبّاً في الشهادة، وأن يرزقهم القتل في سبيله (وقتلاً في سبيلك فوفق لنا)، لم يكونوا يطلبون من الله غير الشهادة؛ لأنّ الشهادة كانت في ذلك الوقت - وإلى الآن - اللغة الوحيدة التي يفهمها الطغاة، ويخشاها الظالمون، وكان صوت الشهيد عندما يستشهد، يظلّ يقلق الحاكم طول حياته. ولذلك كان معاوية يردد عندما كان يحتضر: (يومي منك يا حِجْر طويل).

          وبعد أن تزودوا من الله - ولله - جاءهم جلاّدوهم لتنفيذ الحكم، ولكنّهم لم يروا في وجوه الثوّار ما ينبئ عن تغيّر في الموقف.. فقرءوا عليهم كتاب معاوية حيث جاء فيه: أنّ البراءة = الحياة، وعدم التبرؤ = الموت.

          ولكنّ موقفهم كان واحداً عندما قالوا، بكلّ إيمان المجاهدين، وعقيدة الصامدين، وقوّة الشهيد من أجل الله، قالوا: اللهم إِنا لسنا فاعلي ذلك.

          وهكذا جعلوا من أنفسهم قرباناً لله.

          أسرعوا للموت، كل واحد منهم كان يريد أن يستشهد قبل الآخر، مما دعا الجلادين إلى الاستغراب من هذا، قائلين: (ما أسرعكم إلى الموت) أي ما الذي يجعلكم تسرعون للموت؟..

          ٤٦



          فقال الجميع: من عرف مستقرّه سارع إليه.

          ويحفرون قبورهم، لا لكي يدفن فيها ذلك الثائر وينتهي، إنّما لكي تبقى منطلقاً للإشعاع الثوري في روح الأمّة الإسلامية، وتحضر الأكفان، على أمل الشهادة، ويحدّثهم حِجْر قائلاً: قال لي رسول الله:

          «يا حِجْر، تقتل في محبّة عليٍّ صبراً، فإذا وصل رأسك إلى الأرض مادت، وأنبعت عين ماء، فغسلت الرأس.»

          وقدّم حِجْر للقتل، فقال: دعوني أتوضأ، فلما توضأ قال: دعوني أصلّي لربي ركعتين، فوالله ما توضأت إلاّ صليت ركعتين؛ لكي يثبت أنّ الثورة لم تنفصل، ويجب أن لا تنفصل عن الصلاة، بل كانت مكمّلة للصلاة..

          وتقدم قليلاً، ولكنّه توقّف.. وفكّر قليلاً، ثم دعا بابنه همام، وأمر السيّاف بقتل ولده أوّلاً، وأمام التساؤل الذي أحاط بهم قال حِجْر: (لقد خفت أن يرى هول السيف على عنقي؛ فيرجع عن ولاية عليّعليه‌السلام فلا نجتمع في دار المقام التي وعد الله بها الصابرين).

          ويتقدّم همام.. وفي لحظة..

          يبرق السيف، ويختفي، ثمّ يقع الجسد، الذي كان ثائراً، يسقط همام على الأرض، وينبع الدم ليكون بحيرة صغيرة من الدم الساخن على جانبي رأسه، فيأتي حِجْر، ويطبع على جبينه قبلة الثائر للثائر، قبلة من ربّى ابنه على الثورة فأنتج، ويقول:

          ٤٧



          (بيّض الله وجهك كما بيّضت وجهي عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (في حفظ رسالته).

          وبعد ذلك يتقدم حِجْر إلى الشهادة، بعد أن احتفل بعيد ميلاد ابنه همام، وقبل أن يقتل يوصي الحاضرين، ولكن كيف كانت وصيته؟ هل كانت أن يحافظوا على عائلته، ولا يأخذوا أمواله؟ كلاّ، إنّما كانت الوصية:

          - (لا تغسلوا عني دماً..). (ولا تطلقوا عني حديداً..). (وادفنوني في ثيابي..).

          وأمام دهشة الجميع، وتساؤلهم عن ذلك، استطرد قائلاً: (فإنّا جميعاً نلتقي غداً في الجادّة)..

          ويتقدم السيّاف إليه، فيجفل حِجْر، ويقول له السيّاف: (زعمت أنّك لا تجزع من الموت).

          فقال حِجْر: (ومالي لا أجزع، وأنا أرى قبراً محفوراً، وكفناً منشوراً، وسيفاً مشهوراً) أي أنني إنسان، وأنني بشر أخاف مثلما يخاف بقيّة الناس، وأجزع كما يجزع الناس، ولكنّي في سبيل مبادئي لا يهمنّي إن قدّمت حياتي طعمة للسيف.

          وبعدها يقول له السيّاف: (مد عنقك).

          فيقول حِجْر بكلّ تحدٍّ، وبكلّ ثبات على الموقف: (إنّ ذلك لدم ما كنت لأعين عليه، وما كنت لأعين عليه، وما كنت لأعين الظالمين). لماذا؟

          لأنّ الرأس المناضل، المجاهد في سبيل تحقيق الحرية للجميع بترسيخ حكم الله، هذا الرأس لا يمكن أن يخضع لسيف الباطلّ حتى ولو سيطر عليه؛ لأنّ (الحقّ يعلو) في مثل هذه المواقف، وهذا الدم المراق، لن يراق ببساطة، أن يمدّ عنقه ليذبح كما يذبح الحيوان.

          وبعد ثوان.. كان المجاهد العظيم يتمرغ في دمائه، ولحيته البيضاء قد تحولت إلى حمراء، يعلوها تراب الصحراء.. وبعد هذه الثواني ابتدأت حياة حِجْر من جديد؛ لأنّ يوم الشهادة للثائر، هو يوم ولادته، ويوم ولادته هو يوم شهادته.

          هذه هي صفحات من حياة أحد الثوار، الذين جاهدوا، وناضلوا، وقدّموا حياتهم ثمناً لبقاء رسالة الله ولم تنتهِ حياتهم، إنّما ستستمر مع بقاء الرسالة باقية.

          ولأنّ النداء، لا زال يأتي، من مرج عذراء، فسيبقى حِجْر رمزاً للشهادة، ومعلّماً للثائرين من أجل الله.

          فسلام عليك يا حِجْر يوم فتحت مرج عذراء..

          وسلام عليك يوم استشهدت بها..

          وسلام عليك يوم تبعث في يوم القيامة، مع الشهداء والصديقين.

          ٤٨



          الفهرس

          جنين الثورة ١٢

          يتكوّن في رحم الأحداث.. ١٢

          أ - الإرهاب الفكري والسياسي: ١٣

          ب - تصفية العناصر الثورية: ١٥

          هل كان في صالح الشعب؟ ١٩

          هكذا خَرَجَتْ المُعارَضَةُ إلى العَلَنِ. ٢٢

          الإمام يُبعث: ٢٢

          المعارضة تتكتل: ٢٥

          الجماهير تستجيب: ٢٧

          في الطريق إلى الشهادة ٣٢

          رَفَضَ أن يتنازلَ عن مبادئهِ ذرّة ٣٣

          فرفضوا أن يتنازلوا عن دمهِ قطرة: ٣٣

          عندما يحضر الجلاّد لقتلك.. ٣٦

          فأعلن كلمتك بصراحة: ٣٦

          يوميات الثائر ٣٩

          المطاردة: ٤٠

          الاعتقال: ٤٣

          في مرج عذراء ٤٥



          ٤٩
          جميع الحقوق محفوظة لموقع الحسنين عليهما السلام مؤسسة الإمام حسين عليه السلام​
          المصدر شبكة الامامين الحسينين عليهما السلام

          تعليق


          • #6
            احسنتم ويبارك الله بكم
            شكرا لكم كثيرا
            مأجورين
            ​​​​​​

            تعليق

            Smile :) Embarrassment :o Big Grin :D Wink ;) Stick Out Tongue :p Mad :mad: Confused :confused: Frown :( Roll Eyes (Sarcastic) :rolleyes: Cool :cool: EEK! :eek:
            x
            يعمل...