من حرف يمني إلى قلب غزّي
رزنة صالح
الرسائلُ حينَ تُكتبُ للشهداءِ، يجبُ أن تُعطَّرَ بريحانٍ من الروحِ، فلا عطرٌ في العالمِ يُوازي عبقَ أجسادِهم الطاهرة.
لذلك يكتبُ المرءُ ويحذفُ، يرتّبُ ثيابَ حروفِه، يُدثّرها من رهبةِ الموقفِ، ثم يعود. لكنه ينتفضُ ليكتبَ من جديد، لأنَّ الكلماتِ صِلةٌ بين الأرواحِ. هكذا أقولُ كثيرًا، وربما أنني مُصابةٌ بهوسِ التعلُّقِ بالأرواحِ، لا أعلم!
أُدوِّنُ لكِ هذه السطورَ يا هبة، وأنا التي لم أعرفكِ إلا في الحرب. رأيتُ كلماتِكِ، فقلتُ: ليتني سبقتُ الصاروخَ، فأصبحتُ أعرفُها عن كثب! لم أتحدث معكِ قط ولكن وصلني بك الحرف لتكون صلة دموية من وريد القلم!كتبتِ كثيرًا عن الحريةِ والشهادةِ في آنٍ واحد، فكأنكِ كنتِ تعلمينَ أنَّ المحاطَ بالمحتلِّ لا يملكُ إلا إحدى الحسنيين.
بعدَ هذه الحربِ الطاحنةِ، التي تناثرتْ أشلاؤها حتى على قلوبِنا، توقَّف القصفُ يا هبة، ونهضتِ المساجدُ بدمارِها تُصلِّي. قبَّلتِ المباني أجسادَ من سقطوا تحتها، تحاولُ أن تُعيدَهم للحياةِ، حتى البيوتُ تَحنُّ!
الكلماتُ تسكنُ تابوتَ الصمتِ في غزة منذَ رحيلِك، حتى عقدُ السعادةِ كانَ يَنقصُهُ خبر النصر بقلمك !
كلُّ شيءٍ في غزةَ يَنقصُكِ أنتِ.
هل تعلمينَ يا هبة؟ رأيتُ بيوتَ المدينةِ تذهبُ لتُصلِّي صلاةَ الموتِ، وقد توضَّأتْ بدماءِ أهلِها الطاهرة. رأيتُ الحياةَ تبتسمُ، لكنها فقدتْ أسنانَها، فعجزتْ أن تجعلَنا نضحكُ بعدَ كلِّ هذا الموت. كيف ينسى المرءُ كلَّ تلكَ الأرواح؟ كيف ينسى ويعيشُ كأنَّ شيئًا لم يكن؟ أصبحتِ الأرضُ قبرًا مفتوحًا، جفَّتْ مرايا العمرِ، وتسلَّلتْ أظافرُ الكهولةِ تخدشُ قلوبَنا. صفعتنا ملامحُ الشهداءِ، فصارتِ الذكرياتُ وشمًا ثابتًا على جلدِ الذاكرة!
لا أُخفيكِ، فرِحْنا بالنصرِ يا هبة، وأظنُّكِ لو كنتِ هنا لفرِحتِ أيضًا، ولَاخترقَ حرفُكِ صدرَ المدينةِ. لكنهُ الموتُ يا هبة، يسبقُ كلَّ شيءٍ!
أرى غزةَ الآن، تلك التي تغنَّيتِ بها طويلًا، ممتدَّةً على الأرضِ كأنها حوريَّةٌ، تزحزحتْ عنها صخرةُ الكآبة، وتشمُّ رائحةَ الصباح. آهٍ يا هبة، كم تبدو قناديلُ الأبجديةِ خافتةً بعدكِ!
انتصرتْ غزةُ، لكن العيونَ لا تزالُ تتسلَّلُ إليها خوفًا عليها، والمؤامراتُ تتخمَّر. لكن، تقطنُ في قلبِ المرءِ ثقةٌ بالله، بأنَّ النصرَ معَ الصبر.
دعيك من كلماتي المبعثرة وحنجرتي المرهقة و
حدِّثيني، عن لونِ السماءِ… عن فستانِكِ المُطرَّزِ بدماءِ الشهادة… هل تكتبينَ في الجنةِ يا هبة؟ كيف تبدو أشكالُ الحروفِ هناك؟ صِفِي لي ألوانَ الخيول، وأشكالَ الأشجار، وأماكنَ الشهداءِ… هل رأيتِ أحبَّتَكِ؟ هل كتبْتِ إليهم؟ هل تبعثينَ لنا، نحنُ العالقونَ هنا، حرفًا من حبٍّ؟
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الكاتبة الشهيدة هبة ابو ندى
حدِّثيني يا هبة، ودثِّري مهجتي بطمأنينةِ الحديثِ عن منازلِ الشهداءِ.
نسيتُ أن أخبرَكِ أنني فتحتُ روايتَكِ مرارًا، حاولتُ قراءتَها، لكنني في كلِّ مرةٍ أعتصرُ ألمًا، فأقفُ عند الصفحةِ الأولى. ما كلُّ هذا الأنينِ والقوَّةِ التي خِطْتِها في رداءِ الحرفِ يا هبة؟ كيف دوَّنتِ هذا الإبداعَ في هذا العمرِ الصغير؟ كيف سطَّرتِ الحبَّ والحربَ في آنٍ واحد؟
يا هبة… على مِثْلِكِ يجبُ أن تُقيمَ الحروفُ مأتمًا للعزاء، على مِثْلِكِ تحزنُ الأرضُ وتفرحُ السماء!