الكلام في هذا الموضوع طويل الذيل، و الأخبار الواردة فيه كثيرة، و لكنّ اللازم أن نعرف أوّلا هل لأحد أن يسأل عن فلسفة الغيبة و عللها، و هل لواحد أن يقول: إذا لم أعرف سببها تركت القول بالمهدي الذي تقولون به، و قلت: لو كان إماما كما تزعمون لكان ظاهرا بين الناس يصبح و يمسي و يمشي في الأسواق؟
فنقول؛ بناء على ما يستفاد من الأخبار الكثيرة المستفيضة التي مرّت عليك و ستقف على بعضها الآخر-: إنّ المهديّ هو أبو القاسم محمّد بن الحسن العسكري المتولّد في النصف من شعبان سنة 256 مؤيّدا بتصريحات جماعة من الأعلام ممّن عرفت أسماؤهم و كلامهم بما لا مزيد عليه.
و بناء على أنّ اللّه تعالى حكيم لا يأمر بشيء و لا ينهى عن شيء و لا يفعل شيئا إلاّ عن مصلحة كما هو مقرّر في محلّه، و أنّ تلك المصالح ترجع إلى المكلّفين؛ إذ لا فقر في ساحته المقدّسة، و هو غنيّ مطلق، فأفعاله تعالى كلّها جارية على وفق المصالح النفس الأمريّة، عرفنا تلك المصالح أم لا، أدركنا تلك الجهات أم لا.
و من الأمور المعلومة التي لا يختلف فيها اثنان إنّما يقع في هذا العالم من الحوادث الاختياريّة و غير الاختياريّة لا بدّ و أن تكون بتدبير منه تعالى، بل و إنشائه، و من أهمّ تلك الأمور غيبة المهديّ المنتظر، فلا بدّ أن تكون جارية على وفق المصلحة و الحكمة، أدركنا تلك الجهة أو لا، عرفنا ذلك السبب أم لا.
إن لم نقل بذلك لا بدّ و أن ننكر أحد امور لا طريق لنا إلى إنكارها:
الأوّل: أنّ المهديّ المنتظر هو الحجة بن الحسن العسكري بلا فصل.
الثاني: أنّه غائب عن الأنظار بالمعنى الذي ستعرفه.
الثالث: أنّ غيبته بتقدير من اللّه تعالى و إرادته.
و أنت إذا تأمّلت في هذه الأمور الثلاثة عرفت عدم جواز إنكارها إمّا عقلا أو نقلا، و لازمه القول بأنّ الغيبة جارية على طبق المصلحة، و إلاّ لزم تكذيب أحد أمور ثلاثة:
روى الصدوق في «علل الشرائع» عن عبد اللّه بن الفضل الهاشمي، قال:
سمعت الصادق جعفر بن محمّد عليه السّلام يقول: إنّ لصاحب هذا الأمر غيبة، لا بدّ منها يرتاب فيها كلّ مبطل، فقلت له: و لم جعلت فداك؟قال: لأمر لم يؤذن لنا في كشفه لكم، قلت: فما وجه الحكمة في غيبته؟فقال: وجه الحكمة في غيبته وجه الحكمة في غيبات من تقدّمه من حجج اللّه تعالى ذكره، إنّ وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلاّ بعد ظهوره كما لا ينكشف وجه الحكمة لما آتاه الخضر عليه السّلام من خرق السفينة و قتل الغلام و إقامة الجدار لموسى عليه السّلام إلاّ وقت افتراقهما. يا ابن الفضل، إنّ هذا الأمر أمر من أمر اللّه، و سرّ من سرّ اللّه، و غيب من غيب اللّه، و متى علمنا أنّه عزّ و جلّ حكيم صدّقنا بأنّ أفعاله كلّها حكمة و إن كان وجهها غير منكشف لنا. [1]
هذا هو القول الفصل و الكلام الحقّ الذي يجب على كلّ مسلم الإذعان و التصديق به.
نعم ربّما يطلب الإنسان فلسفة بعض الحوادث و علل بعض أفعاله تعالى طلبا لمزيد الاطمئنان و سكون النفس، لا أن يدور تصديقه و تكذيبه مدار إحاطته بفلسفتها و عدم إحاطته.
فنقول: لا بدّ لنا قبل الخوض في فلسفة الغيبة و عللها من تقديم مقدمة شريفة على وجه الاختصار، و من أراد التفصيل فعليه بالكتب المؤلّفة في هذا الباب، و هي أنّ تقدّم الداعي في دعوته لا بدّ و أن يكون بأسباب ظاهريّة عاديّة، و لا يجوز له أن يتوسّل إلى غرضه بأسباب غيبيّة، و تعدّ ممّا وراء الطبيعة؛ لأنّ ذلك يستلزم بطلان الثواب و العقاب، بل لغويّة إرسال الرسل و الأنبياء.
يشترك في ذلك الرسول و الوصيّ، فهو من شرائط المبلّغ رسولا كان أو إماما، و لكن بينهما فرق، و هو أنّ الرسول من حيث إنّه مؤسّس يجب عليه الابتداء بالدعوة و التبليغ بحسب المتعارف بخلاف الإمام؛ لأنّ الحجّة قد تمّت على الناس بدعوة الرسول، فوجب عليهم أن يبحثوا أن يسألوا، و لا يجب على الإمام أن يتطلّبهم بالدّعوة.
يجب على الناس أن يقصدوا الإمام و يسألوا عنه معالم دينه بعد حفظه و دفع العدوّ عنه كما وجب عليهم بالنسبة إلى الرسول، فإذا خالفوا هذا التكليف و تركوه قائما بنفسه يخشى القتل و يخاف العدوّ من غير رادع و مانع جاز له الاعتزال و السكوت و ترك وظيفة التبليغ و الدعوة، و المسؤوليّة في ذلك متوجّهة إلى الناس لا إلى الإمام، و إلى ذلك أشار المحقّق الخواجة نصير الدين الطوسي طاب ثراه في كتابه «تجريد الاعتقاد» بقوله: الإمام لطف، و تصرفه لطف آخر
الأوّل: التأديب للشيعة و مجازاتهم، بل و لغيرهم
إنّ الأمّة التي فيها الرسول أو الإمام إذا لم تقم بواجب حقّه و عصت أو امره و لم تمتثل نواهيه، و بالجملة لم تؤثّر فيها دعوته، بل و تجاوزت في الحدّ حتّى صارت توذيه بكلّ وسيلة، جاز له تركها و الاعتزال عنها تأديبا و تنبيها، فلعلها ترجع و تؤوب إلى رشدها، و تطيع و تنقاد و تدرك فوائد وجود الرسول و الإمام بين أظهرها مبلّغا هاديا، و مرشدا داعيا، و من هذا الباب قوله تعالى: وَ أَعْتَزِلُكُمْ وَ مََا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللََّهِ [3] الآية.
إذا كان الاعتزال و ترك الدعوة تأديبا للأمّة و تنبيها لهم تكون مصلحتهم فيه و إن كانوا لا يعلمون و خيرهم في ذلك و إن كانوا لا يشعرون.
هذا الاعتزال و ترك الدعوة لا حدّ له، و لا أمد معيّن، و لا يمكن أن يقال في تحديده شيء، بل حدّه و أمده رجوع القوم عن غيّهم إلى رشدهم، و يقظتهم بعد رقدتهم، و تنبّههم بعد غفلتهم و التفاتهم إلى ما يترتّب على وجود الرسول أو الإمام بين أظهرهم.
و التأريخ يخبرنا عمّا لاقى أهل بيت الوحي و الرسالة و آل محمّد عليه و عليهم أفضل الصلاة و السلام من أنواع الأذى و الشدّة، و عدم قيام الأمّة بواجب حقّهم الذي جعله اللّه أجر الرسالة. نعم، لم يزالوا في ضغط و عناء و شدّة و بلاء من أسر و قتل و حبس و صلب و تشريد و تطريد و نفي عن الأوطان و تبعيد.
المهديّ المنتظر أحاط بجميع ذلك خبرا و علما، و علم أنّ هذه الخطّة ستكون بالنسبة إليه، بل أشدّ و أعظم و أدهى و أمرّ لما علموا من مبدئه، و أنّه يقول بالخروج بالسيف، فاعتزل ناحية، و ألقى حبلها على غاربها؛ لعلمه أنّها ستعامله معاملة آبائه و أجداده الكرام و بني أعمامه و أقربائه، و ليس غرضه إلاّ التأديب و التنبيه، و رجوعها إلى رشدها، و إدراكها واجب حقّه، و الفوائد المترتّبه عليه.
«علل الشرائع» العطّار عن أبيه، عن الأشعري، عن أحمد ابن الحسين بن عمر بن محمّد بن عبد اللّه، عن مروان الأنباري، قال: خرج من أبي جعفر عليه السّلام: «أنّ اللّه إذا كره لنا جوار قوم نزعنا من بين أظهرهم» [4] . الحديث.
الثاني: الحرّية في الدعوة و الاستقلال بالأمر
كلّ من يقوم بالإصلاح أعمّ من أن يكون دنيويّا أو دينيّا لا بدّ له من أعوان و أنصار و عقد عهود و مواثيق مع بعض الأقوياء؛ لإعانتهم له أو سكوتهم عنه، و لازم هذا العقد و العهد عدم تعرّض هؤلاء و ترك دعوتهم و المماشاة معهم وفاء بالعهد حتّى إذا تمّ له الأمر و انقضى زمان العهد عاملهم كغيرهم، و لازم ذلك تعطيل إجراء بعض الأحكام بالنسبة إلى المعاهدين، بل و المعاملة معهم على خلاف الواقع خوفا و تقيّة. قال تعالى:
إِلاَّ اَلَّذِينَ عََاهَدْتُمْ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَ لَمْ يُظََاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ [5] الآية.
و المهديّ المنتظر إذا ظهر لا بدّ و أن يجري في دعوته و تقدّمها على الأسباب العاديّة و تكليفه الحكم بالواقع، و أن لا يتّقي أحدا كما هو ظاهر كثير من الأخبار؛ لأنّ زمانه زمان ظهور الحقّ بأجلى مظاهره، و التقيّة تنافي ذلك، و لازم هذا أن لا تكون لأحد في عنقه بيعة، فلا بدّ أن لا يضطرّ إلى عقد معاهدة توجب عليه العمل بالتقيّة، و هذا لا يتمّ إلاّ بعد تماميّة الأسباب العاديّة لنصرته.
«كمال الدين» و أبو الوليد معا عن سعد عن اليقطيني و ابن أبي الخطّاب معا، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه، قال: يقوم القائم و ليس في عنقه لأحد بيعة [6] .
و فيه عن الطالقاني، عن ابن عقدة، عن عليّ بن الحسن بن فضّال، عن أبيه، عن أبي الحسن عليّ بن موسى الرضا، قال: «كأنّي بالشيعة عند فقدانهم الرابع من ولدي يطلبون المرعى فلا يجدونه» . قلت: و لم ذلك يا ابن رسول اللّه؟قال: «لأنّ إمامهم يغيب عنهم» . فقلت: و لم؟قال: «لئلاّ يكون لأحد في عنقه بيعة إذا قام بالسيف» [7] .
الحديث.
تعليق