تأليف: علي حسين الخباز
يقول الراوي: إن سحائب الجراح تطل عند مقدم كل عاشوراء حزين... تجيء لتدلي شهادتها للتواريخ... تحتضنها السماء بود؛ كي يصحو المصاب شاهدا وشهيد...
حين اعتلى الجائر يزيد عرشه في سنة (60) للهجرة،
عانق إرث دم، وعرشاً شيدته سقائف الرذيلة من أضلع الفقراء.
ويقول يزيد لنفسه: لا شيء... لا شيء..
نقول له عبر هذه القرون: لا شيء سوى سرب أحقاد يملأ القلب والتناحرات بلاد. يعود يزيد لنفسه المغرورة ثانية، وهو يصيح بها: لا شيء، فالعرش قادر على ان يمسح الدمع لفقد عزيز، وان كان أبا وخليفة..!
ولا شيء يوثق الخطى لو استحث المسير... دعني الان اطرد عني كل هم، فلا فرق عندي بين الدمعة والفرحة، ما دام في الامة من لم يزل لا يركع الهام ليزيد.
ويصرخ بأعلى صوته: أين هم النفر الذين أبوا بيعتي؟ فباسم هذا العرش الذي لا يغمض له عين، حتى أرى الطرقات ثكلى بالموجوعين، أنا من سيجعل الابواب تنتحب لغربتها عند سنابك الخيول..
أنا الخليفة، أنا يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، ويعني أني لست معاوية ابي، أنا لا أحتاج الى دهاء يبعد الخطوات عني، ولا يهمني ما تقوله التواريخ بعدي، لا متسع عندي للمعنى سوى ما اشاء أنا وما اريد... أكتب يا هذا اكتب: من يزيد أمير المؤمنين الى الوليد بن عتبة، خذ الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن ابي بكر، وعبد الله بن الزبير، اخذا شديدا، واضرب برأس من أبى وابعثه إلي.
حدثنا الراوي حينها عن العتمة التي تخشى النور دائماً، تترقب كل فجر يولد خشية وهج يعري التواريخ، وعتمة السقائف لا تلد إلا سقائف غدر وجور، مع دمع كل حرف يقرأه الوليد بن عتبة، تشتبك المخاوف رعدات فرائص، ويزداد القلق ليرسم متاهات الخطى.
فإذا بالوليد بن عتبة يتوسل: يا مروان، بك عند المواجع استغيث... فابعد عني صدود زعل النديم.، وانصت إلي، فلا وقت للنزوات، فالان يا مروان صرت أشعر كيف تشهق بالدم الدموع، والقلب يأكله الصدأ، والأمر خطير.
ويستغيث الوليد بن عتبة: مروان، أشر علي يا مروان، فمعاوية قد مات، ويزيد يتوعدني بأخذ البيعة اليوم ممن رفضوه بالأمس القريب.
يجيبه مروان بن الحكم بحسرة الخبير: دعني استجلي الامر، عل العقل يجود لمخرج تتهاوى عنده الازمات، وبعد برهة صمت متلعثمة و... و... و... ولا شيء امامنا سوى ان نستدعيهم الساعة فتدعوهم سرا، فان قبلوا فبها، وان رفضوا...؟
يصيح الوليد بدهشة مستفسرة: وإن رفضوا؟
مروان يجيبه بكل هدوء الاغبياء: دع السيف يقبل الاعناق بشغف الحبيب (ههههههه) ماذا تنتظر؟ ثم يهمس بأذنه: وإياك ان يعلموا بموت معاوية، والا سيعيث كل من ينادمنا على هواه، ويدعو القوم الى نفسه، وكلهم يرون انهم الاقرب اليه.
لا أدري، فابن عمر لا أراه يرى القتال، ولا أظنه يحب أن يولى على الناس الا أن يدفع اليه... يكفية النسك الخادع، وهو عندي ميت منذ زمان. وأما عبد الرحمن بن ابي بكر فكيسنا اقرب من العرش اليه، والآخران..؟ آه... آه من الآخرَين.
إني لأرى الحوادث ولودة حرب تعانق الدماء، هي قبضة سيف إما لك وإما عليك... وإياك ان تفلت الفرصة من بين يديك، فخلف بوابة الصمت ستولد حينها امة تسعى لوهج الفجر، الفجر الذي ذبحناه؛ كي لا يطلع صبحه إلا حينما نريد.
يقول الراوي: هناك صخب في همس الجناة يصحو الليل على خطوات عبد الله بن عمر بن عثمان رسول الوليد اليهم: ما لهذا الليل الزاحف خلف محنته؟
عبد الله بن الزبير: اخذتني الحيرة من دعوة الامير، فالساعة ليست مرعى لقاء..! ما الامر؟ حدثني يا ابا عبد الله ما تراه؟
الحسين (عليه السلام): ما هي الا غمزة من غمزات المكر، وخديعة حبلى بالخراب... ارى أن معاوية الواهي قد مات، ويزيدهم يخشى أن نوقظ صمت الامة تلك التي رزحت بالظلم، واعتمرها الجور، فأرسل الباغي كي يبتز منا البيعة.
عبد الله بن الزبير: البيعة؟
الحسين (عليه السلام): البيعة تحت سياط السيف قبل ان يفشو بين الناس الخبر فتصحو الجراح.
عبد الله بن الزبر: حدثني عما ستصنع فاستريح؟
الراوي: تستيقظ الازمنة على مروج عزم حسيني السمات: لا بد من مواجهة فصيحة مجبولة بصهيل الموقف الرصين .
عبد الله بن الزبير: اترك الامر يا ابا عبد الله... وكن حذرا من الغيلة.
يعود الراوي الى حسرته، وهو يرى ان الخطوات الواثقة مهرة الواثقين، فمن ذا الذي يقايض الصوت بصدى الواهين، والليل يصحو على ثلاثين سيفا هاشمي السمات، وإذا علا الصوت، كان جرس حرب ضروس.