بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
﴿وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ * وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾
صدق الله العلي العظيم
انطلاقًا من هذه الآيات المباركات نتحدث عن عدة محاور أسهب فيها علماء العرفان وعلماء التربية.
المحور الأول: ما هو منطلق الإيمان؟
ما هو منطلق الصلاح؟ ما هو السر الذي منه يتحول الإنسان إلى إنسان صالح، ويتحول الإنسان منه إلى إنسان مؤمن متكامل الإيمان؟ ما هو المنطلق؟ ما هو السر؟ الإنسان له أبعاد: بعد مع ما وراء الطبيعة، بعد مع المجتمع الذي يعيش فيه، بعد مع النظام الذي ينخرط فيه ويندرج تحته، كيف يحقق الإنسان الصلات مع هذه الأبعاد، فتكون له صلة بما وراء الطبيعة، وصلة بالمجتمع الذي يحفه ويكتنفه، وصلة بالنظام؟ جميع هذه الصلات تنطلق من منطلق واحد، وتنشأ من سر واحد، ألا وهو بحسب تعبير القرآن الكريم، والذي نص عليه علماء العرفان: انشراح الصدر، انشراح الصدر هو المنطلق، هو الأساس، يتحول الإنسان إلى إنسان متكامل الأبعاد إذا انشرح صدره.
القرآن الكريم يركز على هذا المنطلق في شخصية الإنسان، لا يوجد إنسان سوي كامل إلا إذا كان منشرح الصدر، ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ﴾، ويقول: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ﴾، ويقول عز وجل: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾، انشراح الصدر ما معناه؟ هناك ضدان: انشراح الصدر، وضيق الصدر، ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ﴾، فهناك حالتان متضادتان تتعاقبان على روح الإنسان.
الحالة الأولى: حالة الانشراح، بمعنى أن يشعر الإنسان أنه يريد أن يتصل بالآخرين، يريد أن يحقق لنفسه صلة، يريد أن يعطي، يريد أن يحسن، هذه الروح، شعور الإنسان بالحاجة إلى أن يعطي، بالحاجة إلى أن يقدّم، بالحاجة إلى أن يحسن، بالحاجة إلى أن ينتج، شعور الإنسان بالحاجة إلى العطاء والإنتاج يعبّر عنها بانشراح الصدر، هذا إنسان حصل على سر الشخصية المؤمنة، أنه يشعر بأنه ليس إنسانًا جامدًا، ليس إنسانًا متقوقعًا على نفسه، ليس إنسانًا منعزلًا، ليس إنسانًا منطويًا، إنسان يريد أن يعطي، يريد أن يقدم، يريد أن ينتج، يريد أن يحسن. إذن، هو عنده انشراح الصدر.
أما الآخر الذي يشعر بضيق في روحه، بضيق في أنفاسه، إما أنه لا يريد أن تكون له صلة بما وراء الطبيعة، أو لا يريد أن تكون له صلة بالمجتمع، أو لا يريد أن تكون له صلة بالنظام الاجتماعي، أنا لا أريد إلا أن أكون مع نفسي وفي نفسي ومن نفسي وإلى نفسي ليس إلا، هذا إنسان يعيش انطواءً وانقباضًا وضيقًا في الصدر، هذا ليس إنسانًا مكتمل الإيمان.
لذلك، نلاحظ الآية المباركة ركّزت على الصلات الثلاث، على الأبعاد الثلاثة، قالت: ﴿وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ﴾ هؤلاء عاشوا السر، عاشوا المنطلق، ألا وهو انشراح الصدر، لأنهم عاشوا انشراح الصدر حقّقوا الأبعاد الثلاثة: ﴿أَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾ هذا بعد، ﴿أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾ هذا بعد آخر، و﴿يَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ﴾ هذا البعد الثالث.
البعد الأول: إقامة الصلاة.
إقامة الصلاة لها ثلاثة تفسيرات، الأول: أقاموا الصلاة بمعنى صلوا، يصلون. التفسير الثاني: أقاموا الصلاة يعني حققوا أهداف الصلاة، ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾، فمن نهى عن الفحشاء والمنكر نهيًا قوليًا وعمليًا فقد أقام الصلاة، لأنه حقق أهداف الصلاة. والمعنى الثالث: أقام الصلاة يعني أنه يعيش الصلاة في كل أوقاته، وهذا هو المطلوب، أن تكون صدقتك صلاة، أن تكون صلتك لرحمك صلاة، أن يكون ذهابك للمسجد صلاة، أن تكون علاقتك بصديقك صلاة، أن تعيش الصلاة في كل أوضاعك، الصلاة ليست هي الحركات التي نمارسها.
القرآن عندما يقول: أقاموا الصلاة، لا يقصد مجرد هذه الحركات التي نمارسها، أقم الصلاة يعني ليكن بينك وبين ربك صلةٌ في كل أوضاعك، هذا معنى إقامة الصلاة، ألا تنقطع عن ربك في أي وضع من الأوضاع، عندما تتصدق تستحضر ربك في الصدقة، عندما تزور فلانًا تستحضر ربك في زيارة فلان، عندما تقيم علاقة مع فلان تستحضر ربك في علاقتك مع فلان، عندما تنضم إلى وظيفة أو دراسة تستحضر ربك في انضمامك إلى هذه الوظيفة والدراسة، إقامة الصلاة يعني إيجاد الصلة مع ما وراء الطبيعة في كل أوضاعك وحركاتك وسكناتك.
لأنهم يعيشون انشراح الصدر، لأنهم يعيشون هذا المنطلق، لأنهم يريدون أن يعطوا، يريدون أن يحسنوا، لذلك كل أعمالهم تصدر عنهم بربطٍ بينهم وبين الله عز وجل، ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ﴾، كل شيء اربطه بالله تبارك وتعالى، كل شيء أوصله بالله تبارك وتعالى، ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾.
البعد الثاني: الإنفاق.
ذاك بعد عبادي، صلة بالله، هذا صلة بالمجتمع، ﴿وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾، لا بخل عندهم، لا يعيشون انكفاءً ولا انطواءً، ليست نعمتهم لهم، نعمتهم للمجتمع، يستفيد المجتمع من ثرواتهم ونعمهم وأموالهم، ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾، هؤلاء الذين يقدمون ثروتهم للمجتمع، يقدمون عطاءهم للمجتمع، كل حياتهم عطاء، كل حياتهم بذل، حققوا البعد الاجتماعي، كما حققوا البعد العبادي بمنطلق انشراح الصدر، حققوا البعد الاجتماعي أيضًا بمنطلق انشراح الصدر، لأن صدورهم منشرحة يعطون بلا مبالاة، يبذلون بلا مبالاة.
البعد الثالث: حفظ النظام.
هناك بعد آخر في الإنسان، كما أن للإنسان بعدًا روحيًا غيبيًا مع الله، يغذيه إذا شعر بالإحسان، كما أن له بعدًا اجتماعيًا مع أبناء جنسه وجلدته يغذيه بالإنفاق، ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾، الإنسان له بعد ثالث رئيسي، البعد مع النظام، الإنسان بطبيعته يريد الأمن، الإنسان ليس عدوانيًا بطبيعته، بل الإنسان مسالم بطبيعته، لو رجع إلى طبيعته وجبلته لرأى أنه يتجه نحو السلام، نحو الأمن، نحو الهدوء، نحو الاستقرار، لو خُلِّي الإنسان وطبعه، ولم يتلوث بفكر إرهابي أو فكر تكفيري أو فكر شيطاني فإنه طبعه السلام، طبع الإنسان هو السلام، فهو كما قلنا المنطلق واحد، انشراح الصدر، إذا انشرح صدره انفتح على الله، انفتح على المجتمع، انفتح على السلام والوئام، ومتى ما كان متضايقًا أو منغلقًا عن ربه، أو كان منغلقًا عن مجتمعه، أو كام عدوانيًا، فهو يعيش انقباضًا في الصدر، يعيش شخصية ضيقة، شخصية انطوائية، شخصية انعزالية، لو كان يعيش انشراح الصدر لانشرح على الكل، وانفتح على الكل، على جميع الأبعاد.
فالإنسان حينما تخبر عنه الآية المباركة: ﴿وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ﴾، جماعة لا يريدون مشاكل، لا يريدون أن يدخلوا في قضايا عدوانية، لا يريدون أن يدخلوا في قضايا هجومية، يريدون أن يعيشوا بأمن وسلام، ﴿وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ﴾، لا يقابلون السيئة إلا بالحسنة، لا يقابلون الإساءة إلا بالإحسان، لا يقابلون الاعتداء إلا بالأدب، ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾، ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾، هؤلاء هم الذين يعيشون انشراح الصدر، يحبون الإنسان لأنه إنسان، يحبون ابن آدم لأنه ابن آدم، جامع للصفات الإنسانية، ولا يحملون روحًا تكفيرية أو إرهابية أو عدوانية على أحد، ﴿وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ﴾، الذين انطلقوا من انشراح الصدر ووثقوا صلاتهم بالأبعاد الثلاثة - البعد العبادي، البعد الاجتماعي، البعد النظامي والإنساني - هؤلاء يستحقون ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ﴾، وما هي عقبى الدار؟
الآية التي بعدها تشرحها: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا﴾ ليس هم فقط ﴿وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ﴾، يأتون بأهلهم معهم، ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ﴾، آباؤهم، أزواجهم، ذرياتهم، يجتمعون معهم في جنانهم وحدائقهم ونعيمهم، ﴿وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾.
المحور الثاني: معنى الدار في القرآن الكريم.
نلاحظ الآيات المباركة تكرّر كلمة الدار، ﴿تِلْكَ الدَّارُ﴾، ﴿لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ﴾، ﴿لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾، ما هي الدار؟ هل هي هذه الغرفة التي نجلس فيها؟! الدار التي يركّز عليها القرآن ما هي؟
الأمر الأول: معنى الدار وأهميتها.
الدار مأخوذة من الدوران، ما تدور عليه حياة الإنسان فهي داره، يدور عليها بحياته، كما يذكر علماء النفس الأقدمون، يسمى علم النفس الفلسفي، الإنسان بطبعه يحتاج إلى ثلاث حاجات: غذاء، كساء، مأوى. لا يمكن أن يعيش بلا غذاء، لا يمكن أن يعيش بلا كساء يحميه من الحر والبرد، لا يمكن أن يعيش بلا مأوى، حاجة الإنسان إلى المأوى حاجة ضرورية أولية حياتية، إذن الإنسان تدور حياته مدار وجود مأوى، لذلك يسمّى المأوى دارًا.
الأمر الثاني: ما هي الدار الحقيقية للإنسان؟
الإنسان مخلوقٌ أبديٌ وليس مخلوقًا فانيًا، الإنسان لا يفنى أبدًا، الإنسان مخلوق أبدي باقٍ، كما ذكر أبو العلاء المعري:
خُلِق الناس للبقاء فضلّت
إنما ينقلون من دار أعمال إلى
أمةٌ يحسبونهم للنفاد
دار شقوة أو رشاد
الإنسان خُلِق ليبقى، ما خُلِق ليفنى، الإنسان مخلوق أبدي، بما أنه مخلوق أبدي فداره لا بد أن تكون دارًا أبدية، الدار الحقيقية للإنسان الدار الأبدية، ولذلك القرآن يركّز على هذه الدار الأبدية، يقول: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾، الحياة الحقيقية في الدار الآخرة، أما هذه الدار فهي دار حزن، دار بلاء، دار امتحان، دار سجن، هذه الدار التي يعيشها الإنسان دار محدودة، دار منقوصة، الدار الحقيقية هي الدار التي فيها الحياة الحقيقية، وهي الآخرة، ﴿الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ﴾.
أنت لا تستقر في هذه الدنيا، مستحيل، واحد يقول لك: والله أنا سعيد 100%! كذّاب، لا يوجد أحد سعيد مئة بالمئة، أو شخص يقول: والله أنا لا أشكو ولا مشكلة! كذّاب، لا يوجد، لا بد أن يعيش نقصًا في هذه الدار، نقصًا في جسمه، نقصًا في صحته، نقصًا في أمنه، نقصًا في رزقه، نقصًا في علاقاته، نقصًا نفسيته، هذه الدار دار المحدودية، دار النقص، ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ﴾، لا ينفك عن الابتلاء، لا يتصور أنه يخرج عن دائرة الابتلاء، أبدًا، مستحيل، هو دائمًا في مكان الابتلاء، هو دائمًا في موقع الابتلاء والامتحان، هي دار الابتلاء والامتحان وليست دار القرار. وقال تبارك وتعالى: ﴿وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ﴾، هذه ليست دار سلام، بل هي دار حروب ومجاعات وصراعات مستقيمة ومزمنة وأبدية. إذن، الدار الحقيقية الحافلة بالحياة والقرار والسلام هي الدار الآخرة، ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾.
المحور الثالث: معنى العاقبة.
ما هو معنى العاقبة؟ ما معنى عقبى الدار وعاقبة الدار؟ هذا يحتاج إلى شيء من التدقيق والتركيز. الفلاسفة يقولون: عاقبة الشيء ما يؤول إليه بطبعه ما لم يزاحمه مزاحم، كيف؟ نأتي الآن مثلًا إلى عالم الطبيعة، هذا العالم الذي نعيش فيه، نأتي ونأخذ البذرة، بذرة شجرة التفاح مثلًا، هذه البذرة بذرة سليمة نقية، نضعها في التراب، ما هي عاقبتها؟ عاقبتها أنها تنتج، تتحول إلى شجرة، هذه عاقبتها، البذرة تنطوي في داخلها على نواة الحياة، على نواة الإنتاج، على نواة الإثمار، لا توجد خلية حية في هذا الكون كله إلا وهي تنطوي على بذرة الإنتاج، وبذرة العطاء، الحياة تعني العطاء، الحياة تعني انشراح الصدر، الحياة تعنين أن تنتج، لا توجد خلية حية إلا وهي تضم بين أجزائها وجزيئاتها خلية الحياة وبذرة الحياة وبذرة الإعطاء والإنتاج.
إذن عاقبة الشيء أن ينتج، هذه عاقبتها، إذا لم ينتج تخلف عن عاقبته، عاقبة كل شيء أن ينتج، أن يعطي، عاقبة كل شيء أن يصل إلى كماله، عاقبة كل شيء أن يظهر المخبوء من طاقته، كل إنسان عنده مخبوء، هذا الطفل الصغير لا تدري ماذا سوف يصبح في المستقبل، يصبح عملاقًا، يصبح قزمًا، هذا عنده طاقات، طاقات مخبوءة في عقله، بين دفتيه، هذه الطاقات المخبوءة تحتاج إلى نظام حتى تخرج من القوة إلى الفعلية، حتى يصبح لهذا الطفل عاقبة، عاقبته أن ينتج، وأن تخرج المخبوءات من طاقاته، ”ما أضمر امرؤ في قلبه شيء إلا وظهر على قسمات وجهه أو فلتات لسانه“، لا بد أن تظهر هذه الطاقة المخبوءة.
إذن، عاقبة الشيء ما يؤول إليه لولا المزاحم، هذه البذرة، بذرة شجرة التفاح، عاقبتها أن تصبح شجرة، لكن لو خضعت لهواء ملوث بالأدخنة، كهواء مجتمعاتنا مثلًا، كيف تنتج؟! شجرة زُرِعَت في مجتمع لا يستفيد من البترول إلا الدخان والغازات السامة، فكيف تنتج؟! لا تنتج، هذه البذرة حتى تتحول إلى شجرة مثمرة تحتاج إلى الهواء النقي، تحتاج إلى الماء النقي، تحتاج إلى السماد النقي، إذن عندما توضع هذه البذرة توضع في عالم التزاحم، البذرة فيها طاقة، تريد أن تنتج، ولكن يوجد مزاحم لهذه الطاقة، وهو الهواء الملوث، أو الماء الملوث مثلًا، فدار الدنيا وعالم المادة عالم التزاحم بين الأضداد، عالم الصراع بين الأضداد، الطاقة الإنتاجية لدى البذرة عاملٌ على الحياة، والهواء الملوّث عاملٌ على الموت، فيحصل الصراع بين الأضداد، قد تفلح البذرة وقد تخيب، إن أفلحت صار لها عاقبة، ما أفلحت صار لها سوء.
لذلك جعلت الآية المباركة مقابلة بين العاقبة والسوء، لما تكلمت عن المؤمنين قالت عاقبة، لما تكلمت عن المفسدين قالت سوء، لما تكلمت عن المؤمنين قالت: ﴿وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ﴾، العاقبة حصلت، أما الذين أفسدوا: ﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾، ما قال: عاقبة الدار، فهناك مقابلة بين العاقبة وبين السوء، هؤلاء لهم عاقبة الدار، هؤلاء لهم سوء الدار، كيف؟
كما قلنا: هذه الدار، دار الوجود الذي يدور بنا، هذا له مآل، له عواقب، كما أن البذرة عاقبتها أن تنتج، عاقبة الإنسان أيضًا أن ينتج، الإنسان الذي ينتج الحسن، يحسن لربه، يحسن لمجتمعه، يحسن لأمن وسلام مجتمعه، الذي يحسن دائمًا، يعطي، يحسن، هذا إنسان له عاقبة، عاقبته أنه ينتج، أما الإنسان الذي تغلبت عليه الأفكار الإرهابية والتكفيرية، تغلبت عليه الشرور العدوانية، بدل أن ينتج يقضي على الإنتاج، بدل أن يوجد الحياة يقضي على الحياة، بدل أن يولّد نشوةً للحياة يولّد كراهةً للحياة، ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ﴾.
هناك تيارات ابتليت بها الأمة الإسلامية رُبِّيَت على الروح العدوانية، رُبِّيَت على كراهة الآخر، رُبِّيَت على إقصاء الآخر، رُبِّيَت على تكفير الآخر، رُبِّيَت على الروح الضيقة، لأجل ذلك هي تعيش الرغبة في هدم الحياة، ومحو الحياة، فهي مصداقٌ للآية الأخرى: ﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ ما هو عهد الله؟
عهد الله: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾، الله يقول: كرمنا بني آدم، هؤلاء يقولون: لا توجد كرامة! ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ﴾ لماذا؟ لتتنحاروا؟! ﴿لِتَعَارَفُوا﴾، الله جعل عهدًا وميثاقًا، ألا وهو كرامة الإنسان، هؤلاء نقضوا هذا العهد، ﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾، الله يقول: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾، الله يقول: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، لكن هناك دعوة مقاطعة للقطع، ﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾، لا يوجد مصداق للإفساد في الأرض أوضح من سفك الدماء وقتل الطبيعة والقضاء على الحياة.
إذن، هذا الإنسان ما تحول إلى إنسان منتج، تحول إلى إنسان يقضي على الحياة، هذا يصبح مصداقًا لقوله: ﴿أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾، عاقبة الشيء أن ينتج، وعاقبة الدار أن تنتج، فمن لم يكن منتجًا فلم تكن له عاقبة الدار، وإنما كانت له سوء الدار.
المحور الرابع: علاقة الإمام المهدي بكون العاقبة للمتقين.
نلاحظ أن بعض الآيات القرآنية تركّز على المتقين، أن العاقبة للمتقين، ﴿إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾، عاقبة الوجود هي للمتقين، وفي بعض الآية الأخرى: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾، ما هو معنى هذه الأمور؟ ما هو معنى هذه الكلمات؟ خروج المهدي «عجل الله تعالى فرجه الشريف» أمرٌ لا بد منه، حتمي لمنشأَيْن: منشأ عقلي، ومنشأ اجتماعي.
المنشأ الأول: المنشأ العقلي.
لو لم يكن هناك يوم تقام فيه دولة العدالة التامة على الأرض كلها لكان تشريع الله للنظام لغوًا؛ لأن النظام لم يطبّق إلى اليوم، القرآن الكريم يقول: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾، إلى الآن ما قام الناس بالقسط، من يوم نوح إلى اليوم، نوح 950 سنة كل يوم يضربونه، كلما وعظهم ضربوه، من يوم نوح إلى يومنا هذا ما قام الناس بالقسط، إذن تشريع النظام لغو، النظام الذي يطبّق على الأرض لغوٌ، وصدور اللغو منه تعالى قبيحٌ منافٍ لحكمته، إذا كانت الغاية من تشريع النظام وبعث الأنبياء وإنزال الرسالات أن يتحقق قيام المجتمع الإنساني بالقسط، هذا إلى الآن ما تحقق، خمس سنين في حياة النبي صار فصارت هي الهدف؟! لا، أو كم سنة في حياة الإمام علي؟! لا، لا يفيد، قيام الناس، يعني المجتمع الإنساني كله، ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ﴾ كلمة الناس مطلقة، الهدف أن يكون المجتمع الإنساني مجتمع قسطٍ، هذا لم يتحقق إلى يومنا هذا.
إذن، العقل بنفسه يحكم، لا نحتاج إلى دليل، لا داعي إلى أن يقول شخص: ما هو الدليل على أن هناك مهديًا سيخرج؟ الدليل هو العقل، لا نحتاج إلى دليل آخر، لا نحتاج إلى دليل نقلي، لو لم يكن هناك يوم تتحقق فيه العدالة التامة لكان وجود النظام لغوًا، وجود التشريع لغوًا، وجود الأحكام لغوًا، لأنها لم تتحقق بأهدافها، ولم تتفعّل إلى يومنا هذا، فمقتضى حكمته تعالى أن يتحقق نظام العدالة في يوم من الأيام، هذا شيء عقلي لا بد منه.
مضافًا إلى أنه وعد، وخلف الوعد منه قبيحٌ تبارك وتعالى، ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾، إلى الآن المؤمنون ما استخلفوا الأرض، لا زالت أغلب مقاليد الأرض - اقتصادها وزراعتها وخيراتها - في يد غير المؤمنين، ﴿لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾، هذا لم يتحقق إلى الآن. قوله عز وجل: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾، يرثها بمعنى أن مقاليدها بيد الصالحين، الأرض عبارة عن الاقتصاد، هذا الاقتصاد الذي يحكم العالم يكون بيد المؤمنين يومًا من الأيام، هذا لم يتحقق إلى الآن، وخلف الوعد منه قبيحٌ تبارك وتعالى.
إذن، هناك منشأ عقلي بأن يوم المهدي لا محالة حاصل، يوم المهدي لا محالة قائم، يوم تحقق العدالة التامة على الأرض كلها. لذلك، ورد في تفسير هذه الآية المباركة: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ قال: ”هم والله شيعتنا، ويكون ذلك على يدي رجل منا أهل البيت، وهو مهدي هذه الأمة، وهو الذي قال عنه رسول الله : لو لم يبق من الدنيا إلا يوم، لطوّل الله ذلك اليوم، حتى يلي رجلٌ من أهل بيتي، اسمه اسمي، يملأ الأرض قسطًا وعدلًا، كما ملئت ظلمًا وجورًا“.
المنشأ الآخر: المنشأ الاجتماعي.
في علم الاجتماع يوجد شيء يسمى سننًا اجتماعية، التاريخ يمشي على طبق سنن، مثلًا: كل مجتمع يعبث بالثروة مصيره إلى الفقر والتخلف، ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾، هذه سنة، كل من يلعب بالثروة يؤول أمره إلى الفقر والخوف. من السنن الاجتماعية: أن أي حضارة تحتاج إلى غربلة، أنت الآن مثلًا: زمان نوح ، لو اخترعت الطاقة الكهربائية في زمن نوح، توصل البشر إلى طاقة الاتصالات، لا يستطيعون التعامل معها لأنهم ليس عندهم أي خلفية ثقافية في التعامل مع هذه الطاقات، يحتاجون إلى تمهيد، كل طاقة لا تقوم إلا بتمهيد لها، كل دولة وحضارة تقوم تحتاج إلى سنن تمهّد لها.
المجتمع البشري يعيش تجارب، إلى أن يتهيأ لأعظم حضارة، وهي حضارة المهدي «عجل الله تعالى فرجه الشريف»، المجتمع يمر بفترات تمهيدية، يمر بفترات تجهّزه، وتكون إرهاصًا لتلك الدولة المهدوية العادلة، تحتاج إلى تمهيد، ومن جملة التمهيد: غربلة الإيمان، دولة المهدي تحتاج إلى إيمان، لا يوجد فيها هنا وهناك، ويومًا زين ويومًا شين، تحتاج إلى مؤمنين خُلَّص.
إذن، هناك سنة اجتماعية، وهي أن دولة العدالة التامة حتى تقوم على الأرض تحتاج إلى أناس عدول، لا تقوم العدالة إلا بالعدول، وحتى تتوفر الأرضية العادلة تحتاج الأرض إلى تصفية، تحتاج الأرض إلى غربلة، تحتاج الأرض إلى ابتلاء، فلا بد أن يمر المسلمون بأزمات حادة حتى يخضعوا لعملية الابتلاء والتمهيد والتمحيص، وهذا ما تحدثت عنه الروايات الشريفة، فقد ورد عن النبي : ”للقائم منا أهل البيت غيبةٌ وحيرةٌ، تضل فيها أقوامٌ“، يقولون: إلى متى؟! ”إلى أن يخرج بذخيرة الأنبياء، فيملؤها قسطًا وعدلًا، كما ملئت ظلمًا وجورًا“.
وورد عن الصادق : ”والله لتغربلن غربلة، ولتمحصن تمحيصًا، حتى يقول أحدكم: كفى!“، لا بد من غربلة، تزهق فيها الأرواح، تذهب فيها الأرزاق، يسلب فيها كثير من النعم، وهذه الغربلة وهذا التمحيص وهذا الابتلاء العسير سنةٌ اجتماعيةٌ لا بد منها حتى تتحقق دولة العدالة التامة على الأرض كلها. وورد في الحديث الشريف عن الصادق : ”لا يزال شيعتنا بغمٍّ وحزنٍ حتى يخرج قائمنا“، وقد ورد عنه: ”إني خاتم الأوصياء، وأنا من يدفع عن شيعتي البلاء“، وورد عن الصادق : ”إنَّ أهل زمان غيبته“ هل نحن منهم أم لا؟! ”إن أهل زمان غيبته القائلين بإمامته“، لم يتراجعوا، بل هم ثابتون على إمامته، ”القائلين بإمامته، المنتظرين لخروجه، الصابرين على المحنة، هم أفضل أهل كل زمان، فقد أوتوا من الفهم والعلم والمعرفة ما جعل الغيبة عندهم بمنزلة الشهود“، كأن الإمام معهم، كأنه حاضر بين أيديهم.
إذن، لا ييأس المسلمون، مهما مرَّ عليهم من فجائع، مهما مرَّ عليهم من كوارث، مهما اعتدى إرهابيون أو تكفيريون وقتلوا المؤمنين وسحلوهم واعتدوا عليهم، مهما حدث من كوارث في أي بقعة من بقاع أرض الإيمان، فإنها تقع في سلسلة التمهيد لخروجه، فإنها تقع في سلسلة الإرهاص لدولته، فإنها تقع في سلسلة الابتلاء والتمحيص لتنقية الصفوة العادلة الذين تقوم عليهم دولة العدالة التامة، كل هذا لا يوجب اليأس، كل هذا لا يوجب القنوط ولا يوجب ردة الفعل، بل يزيدك إيمانًا وصبرًا وتسليمًا، كما ورد عن الإمام أمير المؤمنين علي : ”أعجبهم إيمانًا، وأشدهم يقينًا، قومٌ آمنوا برسول الله ولم يدركوه، وحُجِبَت عنهم الحجة - إمامهم ليس معهم، مغيب عنهم - فآمنوا بسوادٍ على بياض“، هؤلاء أشد الناس إيمانًا، أعجبهم إيمانًا، أشدهم يقينًا.
إذن، لنكن مصداقًا للآية المباركة: ﴿وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ﴾، لنكن موضوعيين، لنكن مهتمين بالمصالح الإسلامية العليا، لا يهمنا أن فئةٍ تكفيريةً تقصينا، لا يهمنا أن فئةً تعتدي علينا، لا يهمنا أن فئةً تريد أن تجرنا لحرب السباب والشتم والصراع، كل ذلك لا يزلزلنا؛ لأننا نرى أن المصلحة الإسلامية العليا تقتضي أن نظهر بمظهر الأخوة، أن نظهر بمظهر الأدب، أن نظهر بمظهر التسامح، أن نظهر بمظهر الإخلاص للمجتمع الإسلامي، أن نتعامل بإقامة الصلاة وبالإنفاق، ﴿وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ﴾.
الإمام علي قال: ”لأسالمن ما سلمت أمور المسلمين“، المهم أن المجتمع الإسلامي يبقى مجتمعًا حيًا، وجود فئة شاذة لا يؤثر على القضية أبدًا، نحن مع الجو الإسلامي العام، نحن مع الأمة الإسلامية الجمعاء، ”لأسالمن ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن جورٌ إلا عليَّ خاصة“، ويقول الإمام الحسن الزكي : ”إني خشيت أن يجتثَّ المسلمون“ المسألة لا تتعلق بي أنا، لو كانت تتعلق بي أنا لبذلت نفسي للشهادة، ”إني خشيت أن يجتثَّ المسلمون عن وجه الله، فأردت أن يكون للدين ناعٍ“، إذن المصلحة الإسلامية العليا تقتضي أن نطبّق آداب القرآن وأحكام القرآن، مهما أسيء، مهما اُعْتُدِي، وأن نكون نحن الممثلين لآداب القرآن وتعاليم القرآن، مهما انحرف عنها أي منحرف.
حينئذ، تظهر العاقبة للتقوى، العاقبة للمتقين، كم من المتقين ماتوا واستشهدوا وذهبوا إلى ربهم، لكن كل هذه التضحيات والبطولات والشهادات لن تذهب سدى، إنها في طريق التمهيد والإرهاص إلى تحقيق عاقبة التقوى. نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا من المتقين، وأن يجعلنا ممن وُعِدُوا بالعاقبة الحسنة، اللهم اجعلنا ممن تنتصر به لدينك، اللهم اجعلنا ممن تنتصر به لمحمد وآل محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين
تعليق