إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

لن تسقط دمعة العباس سجى حسين

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • لن تسقط دمعة العباس سجى حسين


    أوتسقط؟

    حين يُذكر أبا الفضل، تتزاحم في الأذهان صور البطولة والإقدام، فتراه شجاعًا كأبيه حيدر، ساقي العطاشى، ناصر أخيه، وكفيل أخته، تجتمع فيه كل معاني القوة والمروءة

    فألحّ السؤال في ذهني: كيف كان حاله حين أوصاه أبوه علي؟ كيف كان شعوره عند استشهاد والده؟ وما الذي جال في خاطره عند فقدان أخيه؟ وكيف كان موقفه يوم كربلاء؟ آهٍ من كربلاء

    فأغمضت عيني، وكأنني عدت بالزمن، أسير في طرقات لم أرها من قبل، حتى وجدت نفسي أمام أرضٍ واسعةٍ تملؤها القبور. وسط هذا المشهد، شدّني صوت صراخ فتى صغير، كان بكاؤه هو الذي قادني إليه. اقتربت منه، وإذا به يردد كلمات تقطع نياط القلب، بين شهقة وأخرى، وبين دمعة ودمعة:

    “آه، أمي اعذريني… يُضربونك، يحرقون دارك، يُسلب حقك، وأنا لم أُلبِّ النداء؟!
    يُكسر ضلعك، وأنا ضلعي سليم؟!
    تحمرُّ عيناك من الضرب، وعيني سليمة؟!”

    ترددت على مسامعي أبيات قصيدة، كأنها صدىً قادم :

    أبتاه، تحيى الموت فهمس لروحي صوتٌ
    أنا لست موصىً كي أرى أمي تُهان

    وبين حيرتي ودموعي التي لم تفارقني، اختفى الفتى فجأة، وتغيرت الطرقات والأماكن من حولي. وجدت نفسي أتجول بين أزقة غريبة، حتى لفت انتباهي بابٌ تجمّع عنده الصغار والكبار، تتعالى أصوات بكائهم وعويلهم. أصابتني الدهشة والحيرة، فاندفعت نحو الباب، وكأن شيئًا ما كان يجذبني إليه.

    ما إن عبرت العتبة، حتى قادتني قدماي إلى غرفة يفيض منها صوت الحزن والفقد. تسللت عيناي إلى الداخل، فرأيت الفتى نفسه، لكن الزمن قد ترك أثره عليه. كان جالسًا في زاوية، عيناه تتنقلان بين والده وإخوته، نظراته تحمل ألف حكاية. ومن كلماتهم المتبادلة، أدركت من يكونون
    وإذا بالأب مسجّى على فراش الموت، يودّع أبناءه و اجتمعوا حوله. لكن عينيّ لم تستطيعا مفارقة ذاك الفتى الذي شدّني بحركاته المتوترة، بين وجعٍ ينهش قلبه، وخوفٍ يرسم ظلاله على ملامحه، وحزنٍ يكاد يخنقه. كان يقوم تارةً ويجلس تارة، أراه عند عتبة الباب كأنه يتردد في الاقتراب، ثم أجده عند قدمي والده يقبّلهما بحرقة، يعود ليمسح بيده على رأس أبيه، وكأنه يحاول أن يحفظ ملامحه قبل الفراق. وفي كل موقف، كانت عيناه تغرق في الدموع، محمرّةً كأنها تنزف دمًا، شاهدةً على الألم الذي لا يُحتمل
    ناداه والده بصوت ضعيف بالكاد يُسمع، فاقترب الفتى منه، يترقب كلماته الأخيرة. التفت الأب إلى ابنه، ونظر إليه بعينين مثقلتين بالوداع، ثم قال بصوتٍ مرتجف: “أختك… من بعدي أمانتك، هذه وصيتي لك.”

    وفي تلك اللحظة، ترددت في مسامعي أبياتٌ

    “وصيتي الأخيره… أعلى هاي الأميره
    تضمّه برموشك يا بدر العشيره
    تذكرني بامها، وأحس بألمها
    يراعي الحمية…”

    وبين الدموع، والبكاء، وصرخات الألم، شعرت أن روحي تفارق جسدي من هول المشهد. دعوت الله أن يُنقذني، فإذا بي أمام جنازة تُحمل على الأكتاف، والفتى ذاته هناك، لكن الزمن قد أثقل كاهله وأخذ منه ما أخذ. كان يمضي بالجنازة، محطّمًا بحزنه، حتى اخترقت السهام النعش، فسال دمعه، واشتعلت نيران قلبه، فسلّ سيفه، مستعدًا للقتال، لكن قبل أن يخطو خطوة، دوّى صوتٌ غارقٌ في الحزن، يجهش بالبكاء مع كل كلمة:
    “أخي… على مهلك، تريّث!”
    ومرة أخرى، عاد الصدى ليهمس في أذني بأبياتٍ تملؤها الحسرة

    سـل سـيفه قمر هاشم إجه يمه عضيده
    سـيـفك هذا مو يومه اليوم الطف أريده

    رأيتهم غارقين في الحزن، بين بكاءٍ وصراخٍ وعويل، والمشهد يزداد وطأةً على قلبي حتى شعرت أن التعب قد نال مني تمامًا. جلست على الأرض، أرخيت رأسي بين ركبتيّ، أبحث عن لحظة راحة وسط هذا الطوفان من الألم.

    لم تمضِ إلا لحظات، وحين رفعت رأسي، وجدت أن الليل قد حلّ. كانت أقباس النيران تشتعل هنا وهناك، تلقي بوهجها على خيامٍ مضيئة، تتردد من داخلها أصوات تتلو القرآن بخشوعٍ يبعث في النفس رهبةً لا توصف.

    نهضتُ أتجول بين تلك الخيام، مستسلماً لفضولي، حتى وقع بصري على الفتى ذاته. كان جالسًا عند باب خيمة، يرتدي زي الحرب، وعيناه تفيض بالدموع، تنهمر كأنها شلالٌ لا ينضب. دفعني شيءٌ ما إلى الاقتراب، إلى التحديق في ملامحه التي ازدادت وجعًا، كأن الليل بأسره قد أرخى سدوله في عينيه ،

    وسمعت حوارهما و كلماتهما مزّقت قلبي. كانت تقول له بصوتٍ مرتجف يملؤه الخوف: “أنا خائفة، يا أخي… لقد اجتمع العدو بعدده وعدّته ضدنا.” كانت شهقاتها المتتالية تعكس رعبًا لا يوصف، وكأنها تستشعر الكارثة القادمة.

    لكن صوته، ذاك الصوت الحنون الدافئ، كان كالمأوى وسط العاصفة. أخذ يطمئنها بلطف، يمسح عن قلبها الخوف قائلاً: “أُخيّة، أنا هنا، لا تقلقي، نامي هذه الليلة قريرة العين، كفيلك موجود.” ثم انحنى يقبّل رأسها ويدها، لكن دموعه خانته، تساقطت على يديها وحجابها كأنها تودعها بصمتٍ موجع.

    علي حسين الخباز, [19/03/2025 05:25 ص]
    لم أتمالك نفسي، وبكيت معه، فإذا به يبتعد قليلاً ويجلس عند عمود الخيمة، كأن صدره ضاق بما يحمله. وفجأة، سمعتها تقول بصوتٍ مخنوق: “أخي، كيف أنام… والليلة ليلة الوداع؟”

    اهتز كياني مما سمعت… “وداع؟!” هل هذه الليلة حقًا آخر لقاء؟!

    تحركت نحو الفارس، رأيته جاثيًا على الأرض، قد غرس سيفه فيها، قابضًا عليه بيدين متشنجتين. كانت عيناه تتنقلان بين الخيام والسماء، يهمس بكلمات لم أسمعها، لكن نبرة صوته المختنقة ودموعه المتساقطة جعلتني أجهش بالبكاء.

    عندها، ترددت في ذهني كلماتها مرة أخرى، وكأنها صدى ينزف ألمًا:

    “مو سهل جرح الإحساس… بُعدك يشيّب الراس
    ليلة وداع، يعباس…

    كان يسير بين الخيام، يتفقّد حاجات أهلها، ثم يتجه إلى معسكر العدو، وأنا خلفه كظله، أراقب كل خطوة يخطوها. كان يمشي وقلبه معلق بالله، يردد آياته، يناجيه ويدعوه. وفجأة، توقف ليصلي، فشعرت بثقل في جسدي وعيونٍ أرهقها السهر، فلم أشعر بنفسي حتى غلبني النوم.
    استيقظت على صرخاتٍ مدويّة، ودويّ الخيول يهزّ الأرض من حولي. كان هناك صوتٌ يجذبني وسط الفوضى، فبحثت عنه، تجولت كثيرًا، حتى وجدت نفسي خلف الخيام… وهناك رأيتهما—الفارس وأخاه—يحتضنان بعضهما، والدموع تنهمر من عيونهما كسيل لا يتوقف. كان الأخ يتمسك به قائلاً: “عزّ عليّ مفارقتك، أخي!”، بينما أجابه الفارس بحبٍ وتفانٍ: “سيدي، أنا هنا لخدمتك، فداك نفسي سيدي
    لكن الأخ لم يستطع تركه، فاحتضنه مرة أخرى، ليطول العناق الأخير، ولم أسمع سوى شهقاتٍ متقطعة، وأنينٍ ممزوجٍ بحب الأخ لأخيه.
    فرأيت صورتهم مرسومة في ذهني، كأنها لوحة حيّة رسمتها الكلمات والدموع… لم أستطع سوى أن أردد القصيدة، وكأنها تنطق بما يعجز عنه لساني:
    اتشابگوا چن جسد واحد، والنبض واحد يدگ…
    الچان ينطي الهوا وسفه حسين صدره مختنگ ..
    يهمس العباس بإذنه: چنه لازم نفترگ…
    اتباعدوا جم خطوة، لاچن بعده ظلهم بالشبگ…

    لحظة، لن رجعوا ركض…
    بچي، طاحوا عالأرض…
    ولأن ماكو اليسند إلهم…
    نزل من ربهم ملك…

    كنت أرددها، وقلبي يختنق بألم الفراق، كأن الأبيات كانت صدى لوداعهم الذي ما زال يتردد في الأفق لا ينتهي
    غادر الفارس أخيرًا، لكني لم أستطع المغادرة معه، فقد كسرتني دموع الأخ، وقفتُ عنده، أستمع إلى نعيه الحزين، كلماته الموجعة تخترق القلب كسهمٍ مسموم.

    وبين حزني وانكساري، دوّى صوتٌ في الأفق، مزّق السكون كصرخة استغاثة: “أخي… يا حسين… أدركني!”

    هرول الأخ نحو ساحة المعركة، وأنا خلفه، أراقب أنفاسه المتقطعة حتى سقط ثم نهض، يسابق الريح نحو مصدر الصوت. وحين وصل، كان المشهد أعظم من أن يُحتمل—رأيت الفارس، مقطوع الكفين، سهمٌ مغروزٌ في عينه، وعمودٌ قد هشّم رأسه!

    أسرع الأخ نحوه، رفع رأسه في حجره، وصوته يختنق بالألم: “فداك أخوك، يا أخي… ماذا صنعوا بك؟ لقد قتلوني بقتلك ، يا أخي!”

    كانت الدماء تغطي ملامحه حتى لم أعد أميّز دموعه من جراحه. وآخر ما سمعته من الأخ، وهو ينهار فوق جسد الفارس:

    “الآن انكسر ظهري…”

    سقطتُ على الأرض من هول الموقف، لم تكفِ دموعي ولا صرخاتي عن التعبير عن الحزن الذي اجتاح كياني. ثم خفتت الأصوات، وحلّ سكونٌ موحش، حتى أيقظني صوتٌ بالكاد يُسمع، بين أنينٍ وحنينٍ ونبرة حبٍّ أخويٍّ مفطور:

    “أخي، قم… أنا أمانه أبيك لك. قد فرح الأعداء بمقتلك، قد أرعبونا، سلبونا…”

    رأيت جسد الفارس يهتز، كانت الدموع تتساقط على وجهه، تمتزج بدمائه المتجمدة. العتاب كان شديدًا، وصوته يرتجف وهو يسألها: “كيف لكِ أن تخرجي في هذا الليل؟! أخيّة، لماذا أتيتِ؟!”

    وهنا، تردد في ذهني صوتٌ مألوف، كأنما الزمن يعيد نفسه، وكأن القصيدة التي سمعتها يومًا وُلدت من هذا المشهد:

    “اشجابج الصوب النهر، حاجيني…
    خوفي لتموتين يم جفيني
    من المخيم ليش وحدج طالعة؟
    من يردج والجفوف امقطّعة؟!
    اشعندج بهالليل يم المشرعة؟”

    كان العتاب طويلًا، مفعمًا باللوعة والأسى، حتى شعرت أنني لا أتحمل أكثر. فأقسمت في أعماقي، وسط هذا الوداع المفجع، أن يخفف الله عني هول هذا المشهد…

    وحين فتحت عيني، وجدت نفسي بين جدران غرفتي. كنت هناك، لكنني لم أعد كما كنت… كل أسئلتي قد وجدت جوابها، وجوابها كان واحدًا—دموعٌ كثيرة، سقطت له وحده​

  • #2
    لن تسقط دمعة العباس سجى حسين

    اليوم, 09:27 am
    أوتسقط؟

    حين يُذكر أبا الفضل، تتزاحم في الأذهان صور البطولة والإقدام، فتراه شجاعًا كأبيه حيدر، ساقي العطاشى، ناصر أخيه، وكفيل أخته، تجتمع فيه كل معاني القوة والمروءة

    فألحّ السؤال في ذهني: كيف كان حاله حين أوصاه أبوه علي؟ كيف كان شعوره عند استشهاد والده؟ وما الذي جال في خاطره عند فقدان أخيه؟ وكيف كان موقفه يوم كربلاء؟ آهٍ من كربلاء

    فأغمضت عيني، وكأنني عدت بالزمن، أسير في طرقات لم أرها من قبل، حتى وجدت نفسي أمام أرضٍ واسعةٍ تملؤها القبور. وسط هذا المشهد، شدّني صوت صراخ فتى صغير، كان بكاؤه هو الذي قادني إليه. اقتربت منه، وإذا به يردد كلمات تقطع نياط القلب، بين شهقة وأخرى، وبين دمعة ودمعة:

    “آه، أمي اعذريني… يُضربونك، يحرقون دارك، يُسلب حقك، وأنا لم أُلبِّ النداء؟!
    يُكسر ضلعك، وأنا ضلعي سليم؟!
    تحمرُّ عيناك من الضرب، وعيني سليمة؟!”

    ترددت على مسامعي أبيات قصيدة، كأنها صدىً قادم :

    أبتاه، تحيى الموت فهمس لروحي صوتٌ
    أنا لست موصىً كي أرى أمي تُهان

    وبين حيرتي ودموعي التي لم تفارقني، اختفى الفتى فجأة، وتغيرت الطرقات والأماكن من حولي. وجدت نفسي أتجول بين أزقة غريبة، حتى لفت انتباهي بابٌ تجمّع عنده الصغار والكبار، تتعالى أصوات بكائهم وعويلهم. أصابتني الدهشة والحيرة، فاندفعت نحو الباب، وكأن شيئًا ما كان يجذبني إليه.

    ما إن عبرت العتبة، حتى قادتني قدماي إلى غرفة يفيض منها صوت الحزن والفقد. تسللت عيناي إلى الداخل، فرأيت الفتى نفسه، لكن الزمن قد ترك أثره عليه. كان جالسًا في زاوية، عيناه تتنقلان بين والده وإخوته، نظراته تحمل ألف حكاية. ومن كلماتهم المتبادلة، أدركت من يكونون
    وإذا بالأب مسجّى على فراش الموت، يودّع أبناءه و اجتمعوا حوله. لكن عينيّ لم تستطيعا مفارقة ذاك الفتى الذي شدّني بحركاته المتوترة، بين وجعٍ ينهش قلبه، وخوفٍ يرسم ظلاله على ملامحه، وحزنٍ يكاد يخنقه. كان يقوم تارةً ويجلس تارة، أراه عند عتبة الباب كأنه يتردد في الاقتراب، ثم أجده عند قدمي والده يقبّلهما بحرقة، يعود ليمسح بيده على رأس أبيه، وكأنه يحاول أن يحفظ ملامحه قبل الفراق. وفي كل موقف، كانت عيناه تغرق في الدموع، محمرّةً كأنها تنزف دمًا، شاهدةً على الألم الذي لا يُحتمل
    ناداه والده بصوت ضعيف بالكاد يُسمع، فاقترب الفتى منه، يترقب كلماته الأخيرة. التفت الأب إلى ابنه، ونظر إليه بعينين مثقلتين بالوداع، ثم قال بصوتٍ مرتجف: “أختك… من بعدي أمانتك، هذه وصيتي لك.”

    وفي تلك اللحظة، ترددت في مسامعي أبياتٌ

    “وصيتي الأخيره… أعلى هاي الأميره
    تضمّه برموشك يا بدر العشيره
    تذكرني بامها، وأحس بألمها
    يراعي الحمية…”

    وبين الدموع، والبكاء، وصرخات الألم، شعرت أن روحي تفارق جسدي من هول المشهد. دعوت الله أن يُنقذني، فإذا بي أمام جنازة تُحمل على الأكتاف، والفتى ذاته هناك، لكن الزمن قد أثقل كاهله وأخذ منه ما أخذ. كان يمضي بالجنازة، محطّمًا بحزنه، حتى اخترقت السهام النعش، فسال دمعه، واشتعلت نيران قلبه، فسلّ سيفه، مستعدًا للقتال، لكن قبل أن يخطو خطوة، دوّى صوتٌ غارقٌ في الحزن، يجهش بالبكاء مع كل كلمة:
    “أخي… على مهلك، تريّث!”
    ومرة أخرى، عاد الصدى ليهمس في أذني بأبياتٍ تملؤها الحسرة

    سـل سـيفه قمر هاشم إجه يمه عضيده
    سـيـفك هذا مو يومه اليوم الطف أريده

    رأيتهم غارقين في الحزن، بين بكاءٍ وصراخٍ وعويل، والمشهد يزداد وطأةً على قلبي حتى شعرت أن التعب قد نال مني تمامًا. جلست على الأرض، أرخيت رأسي بين ركبتيّ، أبحث عن لحظة راحة وسط هذا الطوفان من الألم.

    لم تمضِ إلا لحظات، وحين رفعت رأسي، وجدت أن الليل قد حلّ. كانت أقباس النيران تشتعل هنا وهناك، تلقي بوهجها على خيامٍ مضيئة، تتردد من داخلها أصوات تتلو القرآن بخشوعٍ يبعث في النفس رهبةً لا توصف.

    نهضتُ أتجول بين تلك الخيام، مستسلماً لفضولي، حتى وقع بصري على الفتى ذاته. كان جالسًا عند باب خيمة، يرتدي زي الحرب، وعيناه تفيض بالدموع، تنهمر كأنها شلالٌ لا ينضب. دفعني شيءٌ ما إلى الاقتراب، إلى التحديق في ملامحه التي ازدادت وجعًا، كأن الليل بأسره قد أرخى سدوله في عينيه ،

    وسمعت حوارهما و كلماتهما مزّقت قلبي. كانت تقول له بصوتٍ مرتجف يملؤه الخوف: “أنا خائفة، يا أخي… لقد اجتمع العدو بعدده وعدّته ضدنا.” كانت شهقاتها المتتالية تعكس رعبًا لا يوصف، وكأنها تستشعر الكارثة القادمة.

    لكن صوته، ذاك الصوت الحنون الدافئ، كان كالمأوى وسط العاصفة. أخذ يطمئنها بلطف، يمسح عن قلبها الخوف قائلاً: “أُخيّة، أنا هنا، لا تقلقي، نامي هذه الليلة قريرة العين، كفيلك موجود.” ثم انحنى يقبّل رأسها ويدها، لكن دموعه خانته، تساقطت على يديها وحجابها كأنها تودعها بصمتٍ موجع.


    لم أتمالك نفسي، وبكيت معه، فإذا به يبتعد قليلاً ويجلس عند عمود الخيمة، كأن صدره ضاق بما يحمله. وفجأة، سمعتها تقول بصوتٍ مخنوق: “أخي، كيف أنام… والليلة ليلة الوداع؟”

    اهتز كياني مما سمعت… “وداع؟!” هل هذه الليلة حقًا آخر لقاء؟!

    تحركت نحو الفارس، رأيته جاثيًا على الأرض، قد غرس سيفه فيها، قابضًا عليه بيدين متشنجتين. كانت عيناه تتنقلان بين الخيام والسماء، يهمس بكلمات لم أسمعها، لكن نبرة صوته المختنقة ودموعه المتساقطة جعلتني أجهش بالبكاء.

    عندها، ترددت في ذهني كلماتها مرة أخرى، وكأنها صدى ينزف ألمًا:

    “مو سهل جرح الإحساس… بُعدك يشيّب الراس
    ليلة وداع، يعباس…

    كان يسير بين الخيام، يتفقّد حاجات أهلها، ثم يتجه إلى معسكر العدو، وأنا خلفه كظله، أراقب كل خطوة يخطوها. كان يمشي وقلبه معلق بالله، يردد آياته، يناجيه ويدعوه. وفجأة، توقف ليصلي، فشعرت بثقل في جسدي وعيونٍ أرهقها السهر، فلم أشعر بنفسي حتى غلبني النوم.
    استيقظت على صرخاتٍ مدويّة، ودويّ الخيول يهزّ الأرض من حولي. كان هناك صوتٌ يجذبني وسط الفوضى، فبحثت عنه، تجولت كثيرًا، حتى وجدت نفسي خلف الخيام… وهناك رأيتهما—الفارس وأخاه—يحتضنان بعضهما، والدموع تنهمر من عيونهما كسيل لا يتوقف. كان الأخ يتمسك به قائلاً: “عزّ عليّ مفارقتك، أخي!”، بينما أجابه الفارس بحبٍ وتفانٍ: “سيدي، أنا هنا لخدمتك، فداك نفسي سيدي
    لكن الأخ لم يستطع تركه، فاحتضنه مرة أخرى، ليطول العناق الأخير، ولم أسمع سوى شهقاتٍ متقطعة، وأنينٍ ممزوجٍ بحب الأخ لأخيه.
    فرأيت صورتهم مرسومة في ذهني، كأنها لوحة حيّة رسمتها الكلمات والدموع… لم أستطع سوى أن أردد القصيدة، وكأنها تنطق بما يعجز عنه لساني:
    اتشابگوا چن جسد واحد، والنبض واحد يدگ…
    الچان ينطي الهوا وسفه حسين صدره مختنگ ..
    يهمس العباس بإذنه: چنه لازم نفترگ…
    اتباعدوا جم خطوة، لاچن بعده ظلهم بالشبگ…

    لحظة، لن رجعوا ركض…
    بچي، طاحوا عالأرض…
    ولأن ماكو اليسند إلهم…
    نزل من ربهم ملك…

    كنت أرددها، وقلبي يختنق بألم الفراق، كأن الأبيات كانت صدى لوداعهم الذي ما زال يتردد في الأفق لا ينتهي
    غادر الفارس أخيرًا، لكني لم أستطع المغادرة معه، فقد كسرتني دموع الأخ، وقفتُ عنده، أستمع إلى نعيه الحزين، كلماته الموجعة تخترق القلب كسهمٍ مسموم.

    وبين حزني وانكساري، دوّى صوتٌ في الأفق، مزّق السكون كصرخة استغاثة: “أخي… يا حسين… أدركني!”

    هرول الأخ نحو ساحة المعركة، وأنا خلفه، أراقب أنفاسه المتقطعة حتى سقط ثم نهض، يسابق الريح نحو مصدر الصوت. وحين وصل، كان المشهد أعظم من أن يُحتمل—رأيت الفارس، مقطوع الكفين، سهمٌ مغروزٌ في عينه، وعمودٌ قد هشّم رأسه!

    أسرع الأخ نحوه، رفع رأسه في حجره، وصوته يختنق بالألم: “فداك أخوك، يا أخي… ماذا صنعوا بك؟ لقد قتلوني بقتلك ، يا أخي!”

    كانت الدماء تغطي ملامحه حتى لم أعد أميّز دموعه من جراحه. وآخر ما سمعته من الأخ، وهو ينهار فوق جسد الفارس:

    “الآن انكسر ظهري…”

    سقطتُ على الأرض من هول الموقف، لم تكفِ دموعي ولا صرخاتي عن التعبير عن الحزن الذي اجتاح كياني. ثم خفتت الأصوات، وحلّ سكونٌ موحش، حتى أيقظني صوتٌ بالكاد يُسمع، بين أنينٍ وحنينٍ ونبرة حبٍّ أخويٍّ مفطور:

    “أخي، قم… أنا أمانه أبيك لك. قد فرح الأعداء بمقتلك، قد أرعبونا، سلبونا…”

    رأيت جسد الفارس يهتز، كانت الدموع تتساقط على وجهه، تمتزج بدمائه المتجمدة. العتاب كان شديدًا، وصوته يرتجف وهو يسألها: “كيف لكِ أن تخرجي في هذا الليل؟! أخيّة، لماذا أتيتِ؟!”

    وهنا، تردد في ذهني صوتٌ مألوف، كأنما الزمن يعيد نفسه، وكأن القصيدة التي سمعتها يومًا وُلدت من هذا المشهد:

    “اشجابج الصوب النهر، حاجيني…
    خوفي لتموتين يم جفيني
    من المخيم ليش وحدج طالعة؟
    من يردج والجفوف امقطّعة؟!
    اشعندج بهالليل يم المشرعة؟”

    كان العتاب طويلًا، مفعمًا باللوعة والأسى، حتى شعرت أنني لا أتحمل أكثر. فأقسمت في أعماقي، وسط هذا الوداع المفجع، أن يخفف الله عني هول هذا المشهد…

    وحين فتحت عيني، وجدت نفسي بين جدران غرفتي. كنت هناك، لكنني لم أعد كما كنت… كل أسئلتي قد وجدت جوابها، وجوابها كان واحدًا—دموعٌ كثيرة، سقطت له وحده​​

    تعليق


    • #3
      رائع صور بالكلمات أدهشني حقا كيف كتبت بطريقة رائعة احسنتم

      تعليق

      المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
      حفظ-تلقائي
      Smile :) Embarrassment :o Big Grin :D Wink ;) Stick Out Tongue :p Mad :mad: Confused :confused: Frown :( Roll Eyes (Sarcastic) :rolleyes: Cool :cool: EEK! :eek:
      x
      يعمل...
      X