بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾[1].
يوجد نوع من الارتباط والمناسبة لقصص المسيح والنصارى لهذه الآية وما بعدها، وكأنّها تفريع لما تقدّم من ذكر القسّيسين والرهبان، وكانوا قد أحدثوا رهبانيّة من الانقطاع عن التزوّج وعن أكل اللحوم وعديد من الطيّبات.
﴿طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ﴾، فقضية الغذاء المحلّل نفسه، وطريقة تنظيمه، وانعكاسات ذلك على تزكية النفس.
لقد ذكرت النصوص المفسّرة أن هذا المقطع جاء بسبب من تصميم بعض الصحابة على نبذ الطيّبات من الطعام والنساء، زهدا بمتاع الحياة الدنيا وشوقا إلى الآخرة: بعد أن حدثهم الرسول صلى الله عليه وآله ذات يوم عن القيامة وبيئتها، فقد ورد فِي كِتَابِ اَلْإِحْتِجَاجِ لِلطَّبْرِسِيِّ (ره) عَنِ اَلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ عَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ حَدِيثٌ طَوِيلٌ: يَقُولُ فِيهِ لِمُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابِهِ: ((أَنْشُدُكُمْ بِاللهِ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ عَلِيّاً أَوَّلُ مَنْ حَرَّمَ اَلشَّهَوَاتِ كُلَّهَا عَلَى نَفْسِهِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اَللهِ صَلَّى اَللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾))[2].
وسورة المائدة الكريمة تخضع - في دلالاتها - لعمارة فنية ترتبط موضوعاتها واحدا بالآخر، وما دامت فكرة السورة تحوم على مفهوم تزكية النفس من حيث صلة ذلك بالعناصر الحيوية من غذاء وجنس وتطهير وما إليها من الأحكام التشريعية التي صاغتها رسالة الإسلام، حينئذ فإن قضية الغذاء في سياقها تشكّل مظهرا مهما في تحديد المفهوم العبادي ووظيفة الإسلاميين حيال ذلك، فإذا كان تناول بعض الأطعمة مباحا والآخر محظورا بما تتركه من انعكاسات على النفس، فإن تناول المباح منه محكوم بمبادئ أيضا تتناولها مظان أخرى من نصوص التشريع، والمهم هو أن النص القرآني الكريم طرح في هذا المقطع الذي نتحدث عنه، قضية الامتناع عن تناول الطيّبات، صحيح أن الزهد بالطيبات يشكّل سمة إيجابية في سلوك الشخصية الإسلامية، من حيث انعكاساتها على تزكية النفس، إلا أنّ إهمالها نهائيا يفضي إلى تصوّر مخطئ عن مبادئ الله .
إن القسيسين والرهبانيين سمحوا لأنفسهم بممارسة هذا النمط من السلوك وهو أمر - كما تقول النصوص المفسرة - شرحه النبيّ صلى الله عليه وآله لأصحابه الذين عزموا على ترك الطيّبات ومنعهم من ذلك، موضحا لهم أن سياحة الإسلاميين هي الصوم، ورهبانيتهم هي الجهاد، أي: ليس ترك الطيبات مطلقا، بل الصوم بما يستتبعه من الإفطار وهو تناول الطيبات كما أنه ليس العزلة بل البروز إلى ساحة الجهاد.
ولعل سرّ ذلك من الوضوح بمكان. فالطعام والنساء ونحوهما تشكّل حاجات حيوية ملحة تترتب على إشباعها نتائج في غاية الأهمية تتصل باستمرارية التناسل البشري، كما أن الحضور في الساحة الاجتماعية تترتب عليها أيضا نتائج في غاية الأهمية تتصل بإشاعة مبادئ الإسلام وتوصيلها إلى الآخرين، مما يعني أنّ العزلة مطلقا سوف تفضي إلى عدم نشر مبادئ الله بين الآدميين، وأن الامتناع عن النساء سوف يفضي إلى قطع النسل البشري، وأن الامتناع عن الطعام سوف ينضي إلى شلّ الشخصية حيويا.
وبطبيعة الأمر، ثمة فارق بين النّهم أو الحرص على الطيبات (وهو ما ينكره المشرّع الإسلامي على أمثلة هؤلاء) وبين الامتناع عنها وهو ما ينكره أيضا لأن كليهما خروج عن الاعتدال، لذلك رسم المقطع القرآني الكريم أمثلة هذا السلوك بالتعدّي لحدود الله ﴿لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾، فالامتناع عن الطيبات هو تعد لحدود الله، مقابل الحرص عليها وهو تعدّ أيضا، والصائب هو تناولها وفق الاعتدال أو الحاجة، لأنّ تناولها وفق الحاجة إنما هو إشباع طبيعي لها لا يترتب عليه أيّ ضرر عباديّ، والضرر إنما يترتب حينما يتم الإشباع لما هو زائد على الحاجة أو حينما يمتنع الشخص عن تحقيق الإشباع أساسا، لأنه مضاد لمفهوم الحاجة نفسها.
[1] سورة المائدة، الآية: 87.
[2] تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 664.