بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
قال الله تعالى: ﴿جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ۚ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾[1].
﴿جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ﴾، سمّيت الكعبة بهذا الاسم لأنها قريبة الشكل من الجسم المكعّب الذي يتساوى طوله وعرضه وارتفاعه، ودعاها الله البيت الحرام لشرافتها وحرمتها عند الله تعالى وعند كل مسلم ومسلمة ومؤمن بالله ومؤمنة، ولجهات أخر لسنا في مقام ذكرها. والبيت الحرام: عطف بيان في مقام المدح. وقياما للناس: أي يقيمون عندها شعائر دينهم كحجهم وعمرتهم وغيرهما من عباداتهم وأضاحيهم وصلواتهم وأدعيتهم. وجعلها سبحانه وما حولها حرما آمنا لمن دخله في حجّ أو تجارة أو ما سوى ذلك.
وورد عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اَللهِ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، ﴿جَعَلَ اَللّٰهُ اَلْكَعْبَةَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرامَ قِياماً لِلنّٰاسِ﴾، قَالَ: ((جَعَلَهَا اَللهُ لِدِينِهِمْ وَمَعَايِشِهِمْ))[2].
حيث جعلت بشعائرها الزمانية والمكانية والعملية ﴿قِيَامًا لِّلنَّاسِ﴾، فالكعبة البيت الحرام هي منطقة أمان في المكان والزمان لا للإنسان فحسب بل وللنبات والحيوان أيضا نفسيا وفي ضمير الإنسان، منطقة أمان في مصطرع الحياة الثائر الفائر الطاغي بشواظه الشذاذ وبدخانه على المكان والزمان، حتى ليتحرج الحرم أن يمدوا أيديهم إلى أي ذي حياة اللّهم إلاّ ما يزهق الحياة أو يحرجها.
ذلك، وقد نستشعر من كل مناسك الحج قيام فردي وجماعي اسلامي، لو أن حجاج البيت يستشعروها وطبّقوها لأصبحوا بسائر الملتحقين بهم قضية الخلفية الصالحة لهذا الاستشعار والقيام، لأصبحوا أصحاب طاقات في كافة الحيويات الإسلامية، علمية عقيدية خلقية سياسية اقتصادية وحربية، أما القيام ففيه تقويم لدولة موحدة إسلامية سامية تستقل أمام سائر القدرات التي امتلكت الأرض بمن عليها.
﴿وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾، أي الأشهر الحرم الأربعة لأن: أل، للجنس، كذلك جعلها محرّمة فيها بعض الأمور كالقتال وغيره ﴿وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ﴾، وهو ما يهدى إلى الكعبة أعزها الله ويقلّد بالعلامات، جعلها أيضا أمورا تعبدية وحرّم فيها أشياء ﴿ذَلِكَ﴾، أي: كل هذا الجعل ﴿لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾، ولعلمه المحيط بكل شيء يريد ليجعلكم تحيطون على مختلف الطاقات نتيجة ذلك المؤتمر، فليعلموا أنه تعالى يعلم طبائع الإنسان بسؤاله أيا كان فيقرر شرعته تلبية لكل سؤال له صالح وزيادة لا يعلمها إلاّ اللّٰه.
وهذه الآية المباركة والتي تليها تشتملان على علوم ثلاثة بالنسبة إلى ذاته المقدّسة.
الأول: أنه يعلم ما في السماوات والأرض، أي أنه يعلم بذوات المكوّنات من حيث أجناسهم وفصائلهم وأعدادهم وكل ما يختص بهم مما خلقه فيهم، مما يرى بالعين وما لا يرى لغاية لطافته.
والثاني: أنه يعلم أسرار خلقه، وحكمته التي لا يعلمها غيره كالروح والنفس والأعمال الفكرية وما سواها ممّا عرّفنا عن شيء سطحيّ منها رسله وأنبياؤه وهداة خلقه، فلا علم لأحد بحكمة إيجاد الممكنات ولا بعلة خلق الموجودات، والله تعالى ليس له شريك في ذلك ولذا قال تعالى: ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾، بصيغة المبالغة كناية عن صعوبة علم ذلك، وصعوبة أفراده لأن أفراد الموجودات لا يحصيها غيره تبارك وتعالى.
والثالث: هو العلم بما في ضمائرهم سواء أظهروا ذلك أم أخفوه.
فإنه تعالى عالم بما في صدورهم وبما يجول في أنفسهم ويدور في خواطرهم.
وقد تلمح ﴿لِتَعْلَمُوا﴾، هنا أن الحج يضمن في مشاعره كل جنبات شرعة اللّٰه فقد قال اللّٰه فيه بصورة مجملة وإشارات عملية كل ما أراد أن يقوله لكافة المكلفين إلى يوم الدين.
وذَكَرَالسيدُ مُحَمَّدُ بْنُ اَلْحُسَيْنِ اَلرَّضِيُّ فِي نَهْجِ اَلْبَلاَغَةِ عَنْ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَةٍ لَهُ: ((فَرَضَ عَلَيْكُمْ حَجَّ بَيْتِهِ اَلَّذِي جَعَلَهُ قِبْلَةً لِلْأَنَامِ يَرِدُونَهُ وُرُودَ اَلْأَنْعَامِ وَيَأْلَهُونَ إِلَيْهِ وُلُوهَ اَلْحَمَامِ جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ عَلاَمَةً لِتَوَاضُعِهِمْ لِعَظَمَتِهِ وَإِذْعَانِهِمْ لِعِزَّتِهِ وَاِخْتَارَ مِنْ خَلْقِهِ سُمَّاعاً أَجَابُوا إِلَيْهِ دَعْوَتَهُ وَصَدَّقُوا كَلِمَتَهُ وَوَقَفُوا مَوَاقِفَ أَنْبِيَائِهِ وَتَشَبَّهُوا بِمَلاَئِكَتِهِ اَلْمُطِيفِينَ بِعَرْشِهِ))[3].
[1] سورة المائدة، الآية: 97.
[2] وسائل الشيعة، ج 11، ص 60.
[3] نهج البلاغة، خطب الإمام علي عليه السلام، ج 1، ص 27.