بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
قال الله تعالى: ﴿مَا جَعَلَ اللهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ ۙ وَلَٰكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ ۖ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾[1].
﴿مَا جَعَلَ اللهُ﴾، تعني جعلا شرعيا حيث هي مجعولة تكوينيا. و ﴿بَحِيرَةٍ﴾، من البحر: السعة، وهي هنا الناقة التي ولدت عشرة أبطن فكانوا إذا يشقون أذنها فيسيبونها فلا تركب ولا يحمل عليها، فكما كانت بحرا في ولادها، كذلك فلتكن بحرا في حريتها. و ﴿سَائِبَةٍ﴾، هي التي تسيّب في المرعى فلا ترد عن حوض ولا علف إذا ولدت خمسة أبطن أم عشرة. و ﴿وَصِيلَةٍ﴾، هي الشاة الأنثى الوصيلة بأخيها فلا يذبح من أجلها لأنهما توأمان، أم طليق التوأم فلا تذبح من أجلهما. و ﴿حَامٍ﴾، من الإبل إذا أدرك له عشرة من صلبه كلها تضرب حمى ظهره فسمي حاما فلا ينتفع له بوبر ولا ينحر ولا يركب له ظهر، فإذا مات كانوا فيه سواء، أم هو فحل الإبل ككل. ذلك، ومهما اختلف في تفسير هذه الأربع لم يختلف في أن أي اختلاق لحل أو حرمة في الأنعام أم سواها، مما لم يجعل اللّٰه، إنه هذر هدر لا موقع له من القبول.
وبالجملة، هذه من جعولات العصور الجاهلية ومفتريات المخرّفين والوثنيين، وما جعل اللّه تعالى في الدين شيئا منها.
تدل الآية على بطلان ما كانوا يدينون من البحيرة والسائبة ونحو ذلك، وَرَوَى اِبْنُ عَبَّاسٍ عَنِ اَلنَّبِيِّ صَلَّى اَللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ: ((أَنَّ عَمْرَو بْنَ يَحْيَى بْنِ قَمِعَةَ بْنِ خِنْدِفَ كَانَ قَدْ مَلَكَ مَكَّةَ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إِسْمَعِيلَ فَاتَّخَذَ اَلْأَصْنَامَ وَنَصَبَ اَلْأَوْثَانَ بَحَرَ اَلْبَحِيرَةَ وَسَيَّبَ اَلسَّائِبَةِ وَوَصَلَ اَلْوَصِيلَةَ وَحَمَى اَلْحَامِيَ قَالَ رَسُولُ اَللهِ صَلَّى اَللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي اَلنَّارِ يُؤْذِي أَهْلَ اَلنَّارِ رِيحُ قَصَبَتِهِ وَيُرْوَى بَحْرُ قَصَبَتِهِ فِي اَلنَّارِ))[2]. أي أمعاءه، والأقصاب الأمعاء واحدها قصب بضم القاف وسكون الصاد.
وتدل على أن البحيرة ليس من الله خلقا وأمرا وحكما، فيبطل قول المجبرة في خلق الأفعال؛ إذ لا شبهة أن هذا النفي لا يرجع إلى نفس الإبل والغنم بالاتفاق ولأن جميع ذلك خلق لله تعالى لا يقدر عليه غيره فلم يبق إلا أن النفي يرجع في ذلك إلى التبحير والتسييب، ولو خلقه لما صح نفيه على هذا الإطلاق.
فاللّٰه يقول: ﴿مَا جَعَلَ اللهُ﴾، وأنت تقول أنا أجعل قياسا على سائر التحرير. ذلك، وكل تقييد أو تحرير في أي قال أو حال أو فعال، إنما تقبل بدليل من كتاب أو سنّة حيث الشارع فقط هو اللّٰه دون سواه، مهما كان رسولا فضلا عن سواه! ومهما اختلفت الروايات في معاني هذه الأربع، وأن تحريرها كان لنذر أو أمر سواه أم للأصنام، فالأصل المعلوم هنا حرمة كل تحرير وسواه ما لم يأذن به اللّٰه. هذا، وليست الجاهلية لفترة غابرة من الزمان، بل وقد نلمسها الآن بمختلف صورها كأبشع ما كان، فهي حالة متكررة في كل زمان ومكان لم تتمكن فيهما شرعة اللّٰه كأصل يحلّق على كافة الحركات والسكنات من أقوال وأحوال وأعمال. وقد نجد جاهليات بين المسلمين تشبه سائر الجاهليات مهما اختلفت الأسماء، حيث الأسماء الخاوية ليست لتقرر الحقائق كما الحقائق لا تتبدل بتبدل الأسماء. فحينما ينفك رباط القلب بالإله الواحد على ضوء شرعته، ينفك عنه كثيرا أو يسيرا، نجد فكاكا عارما عن الحقائق بنفس القدر. أفليس المسلم الذي يحرر حيوانا للأولياء والقديسين، أو ينذر لهم عملا، أليس يماثل الوثني الذي يحرّر أو ينذر لوثنه؟ ولا نذر أو تحرير إلاّ للّٰه فيما أذن به اللّٰه! وهكذا يتيه الجاهل في منحنيات ودروب لا عداد لها مهما كان موحدا للّٰه في مبدئه.
[1] سورة المائدة، الآية: 103.
[2] تفسير مجمع البيان، ج 3، ص 433.