بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
قال الله تعالى: ﴿قُل لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ ۚ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ۚ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ﴾[1].
علم الغيب محصور بالله تعالى استقلالا، ولا يمنع تفضله على بعض عباده ببعضه.
﴿وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾، ومثلها الآية: ﴿وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ﴾[2]، تحيل لهم علم الغيب وإن كان بتعليم الله، فإن استكثار الخير هو قضية طليقة لعلم الغيب بكلّ الحوادث الضارة والنافعة، ولا فارق في ﴿لَاسْتَكْثَرْتُ﴾، بين العلم الذاتي والكسبي، حيث النتيجة في حقل ﴿لَاسْتَكْثَرْتُ﴾، واحدة. فلأن الآيات الرسالية وما أشبهها هي من خزائن الله قدرة وقيمومية ورحمة وعلما، فالسالبان يسلبان عن الرسول القدرة والعلم بهذه الآيات الرسولية، رغم علمه بتعليمه تعالى بآيات رسولية هي الوحي كله، فهما إذا يسلبان عن إفراط الربوبية.
ثم ﴿وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ﴾، سلب لتفريط العبودية الذي تشترطه الجاهلية للرسل أن يكونوا من الملائكة، فإنه هو أول العابدين على الإطلاق من الملائكة والجنة والناس أجمعين.
ذلك، كما وهو إثبات للحاجيات البشرية التي هم يستنكرونها منه (صلى الله عليه وآله)
﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾، لست إلاّ حاملا لوحي ربي لا موكّل في شيء ولا مخوّل «متبعا لله مؤديا عن الله ما أمر به من تبليغ الرسالة». لذلك نقول لن تنسخ السنة الكتاب لأنه تخلّف عن وحي الكتاب، ولو كان نسخ في حكم من الكتاب لكان يتكلفه الكتاب نفسه لأنه حجة باقية وضابطة قانونية ثابتة لا تتحمل تبصرة فيها تعمية لنصه أو ظاهره.
صحيح أن السنة وحي كما الكتاب وحي ولكنها ليست إلاّ على هامش الكتاب شارحة له غير قارحة، فالكتاب هو حبل الله المعتصم به وحيدا غير وهيد، وكيف يكون هو المعتصم وهو في محط النسخ بالسنة التي ليست له إلاّ فرعا له شارحة. وهنا حصر اتباع الرسول (صلى الله عليه وآله) بالوحي حسر عن اتباعه غير الوحي من عقلية نفسه أو عقلية الشورى فإنهما ليسا من وحي الله لتدخل الخطأ فيها.
إذا فلا اجتهاد للرسول يتوسل فيه بأية وسيلة حيث الوحي يغنيه، وما الاجتهاد على أية حال إلاّ للأعمى عن الوحي دون البصير بخالص الوحي حيث الوحي يكفيه.
﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ۚ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ﴾، فأنتم ترونني وتسمعونني ما يدل على بصارتي وبصيرتي، وجربتم أنفسكم وسواكم بما يدل على عماكم ﴿أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ﴾، أنه «لا يستوي الأعمى والبصير»! ذلك، فاتباع الوحي وحده هداية وبصيرة، والمتروك بغير الوحي أعمى عن البصيرة، ولا دور للعقل تجاه الوحي إلاّ تلقيه بصفاء ووفاء، صفاء في تفهّمه ووفاء في تفهيمه، وأما أن يستقل أمام الوحي كأنه يشاقه أو يكون إمامه، فلا وألف كلا! وليس هذا تهديدا للعقل وتحديدا، تمجيدا له عن التعقل، إنما هو بيان حدّه في جزره ومدّه أنه ليس في صالح المعرفة إلى خضمّ الوحي، تركا لمجاله بكلّ جلواته الصالحة الفالحة في مضمار الوحي، وهو أوسع المجالات لجلواته وتجلّياته على الإطلاق.
فليس من العقل معارضة العقل مع الوحي أو تفوّقه عليه، فالعقل وحده على محدوديته وعدم تحليفه على كلّ معقول مأمول قد يضطرب وكثيرا ما هو تحت ضغوط الأهواء والشهوات والنزعات، وهذان هما حجر الأساس لاختلافات العقلاء حتى الفلاسفة في تشخيص الحقائق. فحين يقول الله عن اعقل العقلاء: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾[3]، مهما كانت هوى عقله أم حصيلة الشورى الصالحة بين الرعيل الأعلى من العقلاء، فماذا ترى في سائر العقول الناقصة في ذواتها، البائسة في تعقلاتها، وحين تختص حجة الرسول (صلى الله عليه وآله) بالوحي، فكيف يكون العقل لمن سواه حجة كحجة الوحي، اللهم إلاّ استنباطا قاطعا للوحي، فلا حجة - إذا - إلاّ الوحي نفسه وما يستوحى منه سليما غير دخيل.
[1] سورة الأنعام، الآية: 50.
[2] سورة الأعراف، الآية: 188.
[3] سورة النجم، الآيتان: 3-4.