بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
قال الله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾[1].
الخليل عليه السلام أسس مرحلة احتجاجية مع قومه المشركين من خلال إقامة البراهين على سفاهة معتقداتهم وعبادتهم للأجرام السماوية، حيث استطاع أن يتغلب في كلّ حقول الحجاج مع أبيه ومع قومه ومع نمرود الطاغية ليكون: ﴿وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾، ونتيجة لهذه الإرادة الربانية يتحدث عز وجل في الآيات اللاحقة: ﴿فَلَمّٰا جَنَّ عَلَيْهِ اَللَّيْلُ..﴾.
أجل، وكلما زادت رؤية ملكوت الكون وكيانه تعلقا بالله، زاد الرائي يقينا أكثر بالله، فلأن التعلق بالله درجات، فملكوته أيضا في أنفس معتقديها درجات، كلّما كان السلب أقوى وأعمق كان الإيجاب على ضوئه أعمق وأقوى، بل ولا نصيب للخلق في معرفة الله إلاّ مجالات السلب، ف «لا إله» تنفي الألوهية عن كلّ الكائنات بحذافيرها، ثم «إلا الله» تثبت حق الألوهية له تعالى، ولكن ما هو وما هي صفاته وأفعاله؟ لا نصيب له هنا إلاّ السلب، موجود يعني ليس بمعدوم، عالم يعني ليس بجاهل وهكذا الأمر. وهنا تساؤلات عدة حول هذه الآية، منها ما هو الملكوت؟، وأخرى ألم يكن إبراهيم قبل هذه الرؤية من الموقنين بالله، وإذا فكيف كان يؤنب أباه وقومه بشركهم أنهم في ضلال مبين؟، وثالثة بما ذا يعطف العاطف في ﴿وَلِيَكُونَ﴾، ولا معطوف عليه ظاهرا يعطف عليه؟ قد يكون المعطوف عليه «ليحتج على المشركين» كأصل في حجاجه ﴿وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾، الأولين في تلك الإراءة الملكوتية، إيقانا فوق إيقان فإيمانا فوق إيمان، حيث الإيقان فالإيمان درجات حسب درجات رؤية الملكوت، فما أُريه إبراهيم من الملكوت له جانبان اثنان ثانيهما وهو الأعمق ﴿وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾، والأوّل وهو الممكن تفهمه لمتحري الحق فقر الكائنات كلها إلى ربها، ﴿وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾، الرساليين وهم أفضل الرسل والنبيين، لا كلّ الموقنين بل الموقنين القمة كإبراهيم (عليه السلام).
ذلك، ولرؤية الملكوت خلقيا وهي مفروضة على كلّ السالكين إلى الله درجات، رؤية الفطرة، ورؤية العقلية الإنسانية على ضوء الفطرة والرؤية الحسية والعلمية، ورؤية بالوحي يكملها كلها، كما ولكلّ درجات، فليست رؤية الملكوت إذا نسقا واحدا وشكلا فاردا، ومن ثم رؤية خالقية ربانية علميا وقيوميا خاصة بالله.
والنظرتان الأوليان إلى ملكوت السماوات والأرض هما المفروضتان على كافة المكلفين، ذوي الفطر والعقول، والأبصار والبصائر، وقد يندد بمن لا ينظر بها إلى الملكوت: ﴿أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيْءٍ﴾[2]، وهذه هي الملكوت العامة التي يجب النظر إليها بعين الفطرة والعقلية الإنسانية، بعين البصر ثم البصيرة.
وهذه الرؤية لا تتجاوز علما مّا بماهية الكون من تعلقه بالله، فلا إله إلاّ الله، ثم هناك رؤية علمية وقيومية تختص بالله وهي رؤية أخص الخاص: ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾[3].
هذه وتلك ملكوتان بينهما بون كبير، ثم بينهما وسيطة تختص بإراءة الوحي، وهي رؤية الخاص، كرؤية إبراهيم ملكوت السماوات والأرض فإيقانه أيضا هو المناسب لرؤيته، إيقان بعصمة ربانية ليس كسائر الإيقان الحاصل بفطرة وعقلية إنسانية مهما بلغت ما بلغت من قممها، فإنها ليست لتصل إلى عصمة طليقة تحصل بإرادة الله، المعبّر عنها ببرهان الرب: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾[4]، اللهم إلاّ كنموذج تصديقا لرؤية الملكوت وبقدر ما يتقي العبد ربه يرزق رؤية للملكوت، ولكنها على أية حال ليست إلاّ دون العصمة الرسولية والرسالية في هذه الرؤية.
وَفِي بَصَائِرِ اَلدَّرَجَاتِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اَللهِ اِبْنِ مُحَمَّدِ اَلْحَجَّالِ عَنْ ثَعْلَبَةَ عَنْ عَبْدِ اَلرَّحِيمِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ : ((فِي هَذِهِ اَلْآيَةِ: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾، قَالَ: كُشِطَ لَهُ عَنِ اَلْأَرْضِ حَتَّى رَآهَا وَمَنْ فِيهَا، وَاَلْمَلَكِ اَلَّذِي يَحْمِلُهَا، وَاَلْعَرْشِ وَمَنْ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ أُرِيَ صَاحِبُكُمْ))[5].
[1] سورة الأنعام، الآية: 75.
[2] سورة الأعراف، الآية: 185.
[3] سورة يس، الآية: 83.
[4] سورة يوسف، الآية: 24.
[5] تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 734.