بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
قال الله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ۗ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ﴾[1].
﴿مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾، أي من آدم ومنّ علينا بهذا لأنّ النّاس إذا رجعوا إلى أصل واحد كانوا أقرب إلى التعاطف والتألّف.
﴿فَمُسْتَقَرٌّ﴾، وثبات مستمرّ لكم في الأصلاب، أو في الأرحام، أو فوق الأرض ﴿ومُسْتَوْدَعٌ﴾، وثبات غير مستمرّ وفيه احتمالات عدة أولها في الأصلاب، أو في الرّحم، أو في القبور. وإنّما عبّر عنه بالاستيداع تشبيها له بالوديعة عند الودعيّ في سرعة الزّوال، أو في كون الثّبوت في الرّحم، أو في القبور من قبل الأب، أو من سائر النّاس.
وقيل: إنّ المراد من المستقرّ والمستودع مكان الاستقرار والاستيداع.
ومن أهم هذه الاحتمالات مستقر الإيمان ومستودعه كما يروى عن علي أمير المؤمنين مِنْ خُطْبَةٍ لَهُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: ((فَمِنَ اَلْإِيمَانِ مَا يَكُونُ ثَابِتاً مُسْتَقِرّاً فِي اَلْقُلُوبِ وَمِنْهُ مَا يَكُونُ عَوَارِيَّ بَيْنَ اَلْقُلُوبِ وَاَلصُّدُورِ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ فَإِذَا كَانَتْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ مِنْ أَحَدٍ فَقِفُوهُ حَتَّى يَحْضُرَهُ اَلْمَوْتُ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقَعُ حَدُّ اَلْبَرَاءَةِ وَاَلْهِجْرَةُ قَائِمَةٌ عَلَى حَدِّهَا اَلْأَوَّلِ مَا كَانَ لِلّٰهِ فِي أَهْلِ اَلْأَرْضِ حَاجَةٌ مِنْ مُسْتَسِرِّ اَلْأُمَّةِ وَمُعْلِنِهَا لاَ يَقَعُ اِسْمُ اَلْهِجْرَةِ عَلَى أَحَدٍ إِلاَّ بِمَعْرِفَةِ اَلْحُجَّةِ فِي اَلْأَرْضِ فَمَنْ عَرَفَهَا وَأَقَرَّ بِهَا فَهُوَ مُهَاجِرٌ وَلاَ يَقَعُ اِسْمُ اَلاِسْتِضْعَافِ عَلَى مَنْ بَلَغَتْهُ اَلْحُجَّةُ فَسَمِعَتْهَا أُذُنُهُ وَوَعَاهَا قَلْبُهُ إِنَّ أَمْرَنَا صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ لاَ يَحْتَمِلُهُ إِلاَّ عَبْدٌ اِمْتَحَنَ اَللهُ قَلْبَهُ لِلْإِيمَانِ وَلاَ تَعِي حَدِيثَنَا إِلاَّ صُدُورٌ أَمِينَةٌ وَأَحْلاَمٌ رَزِينَةٌ أَيُّهَا اَلنَّاسُ سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي فَلَأَنَا بِطُرُقِ اَلسَّمَاءِ أَعْلَمُ مِنِّي بِطُرُقِ اَلْأَرْضِ قَبْلَ أَنْ تَشْغَرَ فِتْنَةٌ تَطَأُ فِي خِطَامِهَا وَتَذْهَبُ بِأَحْلاَمِ قَوْمِهَا))[2].
وورد بهذا الخصوص عَنْ أَبِي اَلْحَسَنِ صَلَوَاتُ اَللهِ عَلَيْهِ قَالَ: ((إِنَّ اَللهَ خَلَقَ اَلنَّبِيِّينَ عَلَى اَلنُّبُوَّةِ فَلاَ يَكُونُونَ إِلاَّ أَنْبِيَاءَ وَخَلَقَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَى اَلْإِيمَانِ فَلاَ يَكُونُونَ إِلاَّ مُؤْمِنِينَ وَأَعَارَ قَوْماً إِيمَاناً فَإِنْ شَاءَ تَمَّمَهُ لَهُمْ وَإِنْ شَاءَ سَلَبَهُمْ إِيَّاهُ قَالَ وَفِيهِمْ جَرَتْ: ﴿فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ﴾، وَقَالَ لِي إِنَّ فُلاَناً كَانَ مُسْتَوْدَعاً إِيمَانُهُ فَلَمَّا كَذَبَ عَلَيْنَا سُلِبَ إِيمَانُهُ ذَلِكَ))[3].
ذلك وليس مستقر الإيمان فوضى جزاف دون ما سعي ولا جهاد لاستقراره، فإنما يستودع الإيمان في قلوب الذين يؤمنون في تجربة الحياة، ثم قد يستقر إذا أقررته بما تسعى فيقره الله عصمة ودونها، أم يبقى مستودعا قد يزول إذا لم تتحقق شرائط الإيمان، فمستقر الإيمان بين عصمة خلقية بما تسعى، فعصمة ربانية قدر ما تسعى، عصمة رسالية فما دونها لقوله تعالى: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾[4].
وهذه المستقرات والمستودعات للمنشئات من نفس واحدة هي حالات متلاحقة يوم الدنيا ثم تستقر في الأخرى في الجزاء الوفاق، اللهم إلاّ أهل النار إذ يعذبون ويصهرون في النار ثم تعاد اجسامهم مرة أخرى ويعذبون ويصهرون كرة بعد كرة فلا استقرار لهم، ولكن أهل الجنة فمستقرون دون موت أو خروج عنها لقوله تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۖ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾[5].
ذلك، وقمة المستقرات هي مستقر الإيمان فمستقر الجنة، وقمة المستودعات مستودعات الإيمان التي تستقر بمساعي أصحابها، وهذه من المستقرات والمستودعات الأخيرة، ومن المستقرات الأولى حيث تبدأ الحياة فيها خطوتها الأولى للتكاثر بالخلية الملقحة، هي نفس مستودعة كخلية في أصلاب الآباء، ثم هي مستقرة في أرحام الأمهات، ثم تأخذ الحياة في النمو والانتشار. ذلك وبين المستقرات والمستودعات الأولى والأخيرة متوسطات.
﴿قَدْ فَصَّلْنَا اَلْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ﴾: ولأن الفقه هو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد، فهو في حقول المستقرات والمستودعات الإنسانية ضروري لإدراك صنع الله العجيب في هذه النفس الواحدة، فيها وفي المنشآت منها بمستقراتها ومستودعاتها. فالفقه الصالح في حقل انتشاء النسل من نفس واحدة فمستقر ومستودع، هو الذي يوصل الإنسان إلى معرفة صالحة عن خالق الكون، سبحان الخلاق العظيم!
[1] سورة الأنعام، الآية: 98.
[2] نهج البلاغة، خطبة 189.
[3] الكافي، ج 2، ص 418.
[4] سورة النجم، الآية: 39.
[5] سورة هود، الآية: 108.