بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
قال الله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا ۖ وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾[1].
خطاب الى النبي صلّى الله عليه وآله بأن ما يصدر من اشراف مكة واعيانها من المشركين في حقك، من المجادلات المغلوطة كما ذكر، يصدر في كل قرية من اكابر مجرميها إذا جاءتهم الانبياء، ليمكروا في القرى ويظهروا مطالبهم الباطلة النافعة بزعمهم لهم حيث أنها مطابقة لشهواتهم وأنانياتهم وخيلائهم بصورة المظنون صحتها لضعاف العقول، أو الضعاف من حيث الثروة والقدرة.
﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا﴾، وكيفية الجعل قد سبق بأنه خلق تلك القوى فيهم مع القوة العاقلة المزاحمة لها والاقوى منها عند التأمل إلا أنهم رجحوا سائر القوى عليها: والاختصاص بالأكابر لأجل شدة بروز التكبر والخيلاء فيهم لكونهم مطاعا فتقوى شيطنتهم ايضا، بل ازدياد المال والاتباع سبب لازدياد الشهوة ايضا فالأكابر بتمام القوى المضادة مع العقل من الشهوية والتكبر وهو الغضبية والشيطنة اقوى من غيرها، فالجعل الإلهي يؤثر فيهم أولا ثم منهم يسري الى غيرهم ولكنهم ﴿وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾، إذ كما أن هذه القوى منهم تنال الى مقصودها كذلك العاقلة [وهي ما به امتياز الانسان عن غيره] تضعف ولا تنال وبعد الانتقال الى العالم الاعلى تظهر ملكاتهم واعمالهم بصورة المؤذيات لهم؛ والنار مضافا الى المؤذيات الكلية الموجودة في عالم الآخرة، فالمكر أي المؤذيات الخفية راجعة اليهم ولكنهم لا يلتفتون ولا يشعرون.
ثمّ لمّا كان أبو جهل من أكابر قريش، وكان يفتخر بعظمته بينهم، فقد [روي: أنّ أبا جهل قال: زاحمنا بنى عبد مناف في الشّرف حتّى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا: منّا نبيّ يوحى إليه، والله لا نرضى به ولا نتّبعه أبدا إلاّ أن يأتينا وحي كما يأتيه][2]، فنزلت ونحوها قوله: ﴿بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً﴾[3].
ونبّه سبحانه على أنّ العظمة والرئاسة من موجبات الفتنة والخذلان بقوله: ﴿وَكَذَلِكَ﴾، النّحو الذي فعلنا في مكّة من جعل أكابرها وصناديدها مجرمين ماكرين في إطفاء نور الهداية ﴿جَعَلْنَا﴾، في القرون السالفة ﴿فِي كُلِّ قَرْيَةٍ﴾، وبلدة ﴿أَكَابِرَ﴾ ها وأعاظمها و ﴿مُجْرِمِيهَا﴾، ومذنبيها وماكريها في الإخلال بأمر نبيّها، وقيل: إنّ المراد: كما زينا للكافرين أعمالهم، جعلنا مجرمي كلّ قرية أكابرها، بأن خلّيناهم وأنفسهم ﴿لِيَمْكُرُوا﴾، ويغدروا ﴿فِيهَا﴾، ويحتالوا في إضلال أهلها، ومعارضة الأنبياء كبرا وحسدا عليهم وحفظا لرئاستهم .
وقيل: إن صناديد قريش أجلسوا على كلّ طريق من طرق مكّة أربعة نفر ليصرفوا النّاس عن الإيمان بمحمّد صلّى الله عليه وآله، وكانوا يقولون لكلّ من يقدم: إيّاك وهذا الرّجل، فإنّه كاهن ساحر كذّاب.
ثمّ سلّى سبحانه نبيّه صلّى الله عليه وآله بقوله: ﴿وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ﴾، لأنّ وبال مكرهم يحيق بهم ولا يتعدّاهم ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾، بذلك أصلا، بل يزعمون أنّهم يمكرون بك وبالمؤمنين.
فالأكابر هم اولي نفوذ وسطوة ليعيشوا فيها بالمكر والخداع وما يمكر الماكر الاّ بنفسه؛ لأن المكر بمجرد أن يمشي اوّل مرّة من دهاة الماكرين يتعلّمه الناس ويتداولونه فإذا تداولوه اعملوا مكرهم مع من مكر بهم، إمّا تشفيا منه وإمّا لأن الجري الحيوي يقتضي منهم ذلك لكن هذا الشعور مفقود لديهم في بادئ أمرهم، وحينما يسنّون هذه السنة كأنه يخيّل إليهم أن الناس الى الأبد يبقون اغبياء، وأنهم يتصرفون بهم كيف يشاؤون في حال أن الأمر ليس كذلك بأن معنى الجعل هنا وفي كل مقام من نظيره ليس هو خلق الله بالقسر والتكوين لهؤلاء المجرمين المشار إليهم، كما يخلق العقرب لدّاغة نعم اصل الخلق لمادّتهم موجود بنحو لا بشرطي كخلقة غيرهم كما أن الميول والغرائز مخلوقة فيهم، لكن بنحو لا اقتضائي باستطاعتهم مقاومتها مثل ما فعل الأخيار كما بمقدورهم مماشاتها ومجاراتها نظير ما فعل الأشرار ومن هذا الطريق نسب الجعل الى الله سبحانه.
[1] سورة الأنعام، الآية: 123.
[2] مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج 1، ص 47.
[3] سورة المدثر، الآية: 52.