في زمنٍ ضاعت فيه البوصلة، وتهاوت فيه القيم تحت ركام المصالح والسياسة، كان لا بد أن ينهض من بين ركام الأمة صوتٌ مختلف، صوت لا يشبه أصوات الساسة ولا يخضع لميزان الربح والخسارة، بل يستمد نبرته من عمق الفقه، ومن نور البصيرة، ومن سكون السجدة في جوف الليل.
هنا، يظهر وجه السيد المرجع الأعلى، لا باعتباره رمزًا دينيًا فحسب، بل كحالة فكرية وروحية وإنسانية، جمعت بين سطوة العالم وهيبته، ودفء الأب وحكمته، فكان في العراق ظلاً من نور، وسندًا حين تهاوت السقوف، وحكيمًا حين ضجّت الساحات بالصراخ.
ولم يكن حضوره في العراق حضورًا شكليًا ولا منصبًا وظيفيًا، بل كان حضورًا ممتدًا في ضمير الناس، في تفاصيل وجدانهم، في همس الجائعين، وفي دموع الأمهات، وفي قلق الشباب الباحث عن المعنى وسط ضجيج الفوضى.
وحين تكلم، لم يكن صوته عاليًا، لكنه كان واصلًا، يخترق الجدران الصماء، ويهزّ صمت المترددين. وحين سكت، كان صمته أبلغ من كل بيان، لأن المرجع لم يكن بحاجة إلى استعراض المواقف، بل كان هو الموقف.
وفي ساحات الجدل السياسي، حيث الألوان تتغير كل يوم، وقف السيد المرجع الأعلى بثبات الصخرة في وجه الموج، لا يتلوّن، لا يساوم، ولا يُستدرج.
لم يدخل في التفاصيل الصغيرة، لكنه أمسك بجذر القضية: كرامة الإنسان، سيادة الوطن، وحفظ الدين من التسييس والانزلاق. لم يكن يوزع بيانات الغضب، بل يخطّ خارطة طريق، ببصيرة فقيه يرى ما بعد اللحظة، ويقرأ ما وراء الحدث.
وقد كانت فتاواه مثالًا على هذا التوازن النادر. حين صدح بنداء الدفاع الكفائي، لم تكن الفتوى مجرد دعوةٍ لحمل السلاح، بل كانت إعلانًا أخلاقيًا لحماية الأرض والعِرض، وبعثًا جديدًا لمعنى الانتماء والغيرة والوفاء. لبّى النداء فقراءُ الجنوب والوسط، من القرى والمزارع والمناطق المنسية، لأنهم شعروا أن صوت المرجع لا يصدر من فوق، بل يخرج من بينهم، من قلوبهم، من دمهم.
وفي ذات الوقت، لم تغب عنه معاناة الناس اليومية. فالمجتهد الذي يُحلّق في فضاء الأصول والفقه، لم ينسَ رغيف الخبز، ولا الدواء المقطوع، ولا الأرملة الموجوعة. مكتب المرجعية لم يكن قصرًا موصَدًا، بل كان بيتًا لكل مكسور، وملاذًا لكل محروم. كانت الأموال تُجمَع باسمه، لكنه عاش زاهدًا، لم يغيّر أثاث حجرته، ولم يلبس عباءةً غير تلك التي تحمل رائحة الزهد والبساطة. لم يُغرِه البذخ، ولم تُغره المديح، لأنه يعرف أن ما يبقى هو الخدمة، وما يزول هو الزخرف.
ولأن الأب لا يترك أبناءه حين تختلف آراؤهم، بقي السيد المرجع حاميًا للجميع، لم يُقصِ أحدًا، لم يُحرض على أحد، لم يجعل من منبره أداةً للفرقة. بل كانت كلماته تُداوي، تُرمم، وتفتح للقلوب باب الرجوع. نصح بصمت، وعاتب بلطف، وأرشد بحزم.
وحين اشتدت العواصف، قال كلمته: "لا تضربوا الناس ببعضهم"، و"لا تُخطف الساحات من أبنائها". ومرةً قالها بكل وضوح: "المواطن هو مصدر الشرعية"، فكانت هذه الكلمة وحدها كفيلة بأن تزلزل كل معادلات الحكم التقليدية.
وفي عيني هذا المرجع، ترى عمق العالم الفقيه، لكنه لا يتعالَى على الناس بعلمه. ترى حزم القائد، لكنه لا يُرعب أحدًا، وترى عطف الأب، لكنه لا يُدلل أحدًا على حساب الحقيقة. توازنٌ نادرٌ بين العدل والرحمة، بين الصرامة واللين، بين الانتماء للوطن والولاء للدين.
ولقد علّم السيد المرجع الأعلى أجيالًا من الشباب أن العلم ليس خُرافة، وأن الدين لا يعني الخضوع، وأن المرجعية ليست حائطًا للصمت، بل منارةً للفكر والقرار. لم يطلب مجدًا، ولم يسعَ لمنصب، لكنه ارتفع فوق الجميع، لأن من يعيش لله، لا يُقارن بمن يعيش لنفسه.
واليوم، إذا أردت أن تبحث عن معنى المرجعية، فلا تذهب بعيدًا. اقرأ سيرة هذا الرجل، وتأمل سكونه العميق، وفتواه التي تهزّ الساحات، ودمعته حين يُذكَر العراق. هو ليس فقط فقيهًا، بل هو حارسُ وجدانٍ، ومهندسُ توازنٍ، ومرآةُ ضميرٍ جمعي.
والسيد المرجع الأعلى... لم يكن عالمًا يجلس في زاوية محرابه فقط، بل كان جسدًا حيًّا في قلب العراق، ووجدانًا حيًّا في ضمير شعبه. جمع بين الفقه والورع، وبين الحزم والحب، وبين الحكمة والرأفة، حتى صار وجهه يشبه الوطن، وصوته يشبه الأمل.
ولذلك، لم يكن صوته مجرد صوت، بل صدى لعراقٍ يبحث عن نفسه في عينيه. ولم يكن صمته فراغًا، بل رسالة. وفي كل لحظة تاريخية مرت، كانت المرجعية حاضرة، صامتة حين يجب الصمت، وناهضة حين لا يصحّ السكوت. وهكذا سيبقى، لأن من زرع نفسه في ضمير شعبه، لا يموت.
------
منقول