بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِ على محمد وآل محمد
إنّ النفس البشرية بحاجة دائمة إلى التربية والتزكية، ولا يوجد مدرسة أعظم لتزكية النفس من مدرسة أهل البيت عليهم السلام، وزياراتهم المقدّسة ليست فقط عملاً تعبّدياً، بل هي محطة تربوية وروحية عميقة الأثر في بناء الإنسان من الداخل. فهي تفتح لنا نافذة على عالم النفوس الطاهرة، وتربط القلب بالقدوة، وتعيد ترتيب الأولويات في داخلنا.
قال تعالى:
{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ﴿٩﴾ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (الشمس: 9–10)
فكل زيارة للإمام عليه السلام هي محاولة لتزكية النفس، وتقويمها على صراط الله المستقيم.
أولًا: زيارة الإمام... عودة إلى الذات
حينما يزور الإنسان الإمام المعصوم عليه السلام، فهو في الحقيقة لا يذهب فقط للقاء مقام طاهر، بل يعود إلى ذاته ليضعها في مرآة الإمام.
يقول الإمام الصادق عليه السلام:
"زُورُوا قُبورَنا فإنَّها تُذكِّرُ الآخرةَ"
وسائل الشيعة، ج10، ص345
إذن، الزيارة تربية على الانتباه لمصير النفس، وتنبيه لها من الغفلة. الوقوف عند ضريح الإمام هو تذكير بأن الدنيا زائلة، وأن الآخرة هي دار القرار.
ثانيًا: التواضع وانكسار القلب
زيارة الإمام تزرع في النفس التواضع، إذ يرى الزائر نفسه أمام عظمة من كان لله عبدًا خالصًا، وقدم نفسه لله ولدينه.
ورد عن الإمام الرضا عليه السلام في حديث طويل:
"يا بن شبيب، إن كنت باكيًا لشيء، فابكِ للحسين عليه السلام..." (أمالي الصدوق)
وهذا البكاء ليس ضعفًا، بل قوة نفسية تعيد ترتيب المشاعر، وتُخرج الكبرياء الزائف، وتُدخل التواضع الصادق، وهو من أعظم ما يُربّي النفس.
ثالثًا: التعلق بالنموذج الأعلى
أهل البيت عليهم السلام هم النموذج الأعلى في كل صفات الكمال الإنساني، وزيارتهم تزرع في النفس محبة الفضيلة والسعي لبلوغها.
قال تعالى:
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: 21)
وفي زيارتنا لأبنائه المعصومين، نحن نقتفي أثر هذه الأسوة. فحين نقول في زياراتنا: "أشهد أنك قد أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، وأمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر..."
نحن لا نُقرّ فقط بصفاته، بل نُربّي أنفسنا على السعي لنكون في طريقه.
رابعًا: التربية على الصبر والثبات
زيارة الإمام الحسين عليه السلام خاصةً، تضع النفس في مواجهة ملحمة الصبر الأعظم في التاريخ. الزائر يُدرّب نفسه على تحمّل الأذى، وعلى الثبات في المحن.
قال الإمام الباقر عليه السلام:
"من لم يُصب بمصاب فينا فليتخشّع، فإنّ ذلك من علامات قسوة القلب"
كامل الزيارات
فالمصاب بالإمام الحسين عليه السلام يهذّب النفس، ويفتح فيها نبعًا من الحنان والصبر والكرامة.
خامسًا: التربية على الشعور بالمسؤولية
الزائر عندما يقف بين يدي الإمام لا يكتفي بالزيارة، بل يسمع نداء داخليًا يقول له: ماذا بعد الزيارة؟
جاء عن الإمام الصادق عليه السلام في وصف الزائرين:
"ليغتبط أهلُ الشام حين يرون من يُحيي أمرنا..."
فالزيارة تزرع في النفس حبّ الإحياء للحق، والتفكير بما يجب فعله، لا فقط الشعور العاطفي، بل الفعل الواقعي.
إن زيارة الأئمة الأطهار عليهم السلام ليست مجرد طقس ديني، بل هي مدرسة تربوية متكاملة، تُعيد للنفس توازنها، وتزرع فيها التواضع، والمحبة، والشوق إلى الله، وتُعيد تشكيل القلب ليصبح بيتًا للهدى والنور.
فلنحرص على الخروج من الزيارة بأنفسٍ أرقى، وهممٍ أعلى، ونفوسٍ أكثر طمأنينة واتصالًا بالله عبر أوليائه.
قال الإمام الباقر عليه السلام:
"يا جابر، بلغ شيعتنا أن لا غنى بهم عن ثلاث: خشية الله في السرّ والعلانية، والعدل في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر."