بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ﴾[1].
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾، وهي دلالة جلية وواضحة على التّوحيد والرّسالة والبعث ﴿وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا﴾، ولم يقروا بها ترفعا عنها ﴿لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ﴾، حتّى ترفع إليها أدعيتهم وأعمالهم في حياتهم، وأرواحهم بعد موتهم.
رُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ اَلْبَاقِرِ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أَنَّهُ قَالَ: ((أَمَّا اَلْمُؤْمِنُونَ فَتُرْفَعُ أَعْمَالُهُمْ وَأَرْوَاحُهُمْ إِلَى اَلسَّمَاءِ، فَتَنْفَتِحُ لَهُمْ أَبْوَابُهَا، وَأَمَّا اَلْكَافِرُ فَيُصْعَدُ بِعَمَلِهِ وَرُوحِهِ حَتَّى إِذَا بَلَغَ إِلَى اَلسَّمَاءِ نَادَى مُنَادٍ: اِهْبِطُوا بِهِ إِلَى سِجِّينٍ، وَهُوَ وَادٍ بِحَضْرَمُوتَ يُقَالُ لَهُ بَرَهُوتُ))[2].
وروي أنّ اَلنَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ قَالَ: ((إِنَّ اَلْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ اَلْمَوْتُ جَاءَتْ إِلَيْهِ مَلاَئِكَةُ اَلرَّحْمَنِ بِجَرِيدَةٍ بَيْضَاءَ فَيَقُولُونَ لِنَفْسِهِ اُخْرُجِي راضِيَةً مَرْضِيَّةً إِلَى رَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ فَتَخْرُجُ كَالطِّيبِ مِنَ اَلْمِسْكِ حَتَّى يَتَنَاوَلَهَا بَعْضٌ مِنْ بَعْضٍ فَيَنْتَهِيَ بِهَا إِلَى بَابِ اَلسَّمَاءِ فَيَقُولُ سُكَّانُهَا مَا أَطْيَبَ رَائِحَةَ هَذِهِ اَلنَّفْسِ وَكُلَّمَا صَعِدُوا بِهَا مِنْ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ قَالَ أَهْلُهَا مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى يُؤْتَى بِهَا إِلَى اَلْجَنَّةِ مَعَ أَرْوَاحِ اَلْمُؤْمِنِينَ فَتَسْتَرِيحُ مِنْ غَمِّ اَلدُّنْيَا وَأَمَّا اَلْكَافِرُ فَتَأْتِيهِ مَلاَئِكَةُ اَلْعَذَابِ فَيَقُولُونَ لِنَفْسِهِ اُخْرُجِي كَارِهَةً مَكْرُوهَةً إِلَى عَذَابِ اَللهِ وَنَكَالِهِ وَرَبٍّ عَلَيْكَ غَضْبَانَ))[3].
فالحديث هنا عن بيئة يوم القيامة بالنسبة إلى المنحرفين، وعن نفس جهنم بعد أن انتهى من عرض مواقفهم أثناء دخولهم فيها.
﴿حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ﴾، تصوير وتمثيل لإمر مستحيل وهو دخولهم الى الجنة، فهل هو الجمل الإبل؟ فضلا عن جمل أصحاب الجمل ولا صلة لذلك الجمل بسم الخياط!
والمعنى هو بأنه لا أمل البتة في إنقاذهم من النار التي دخلوها، وقدّم صورة فنيّة للتعبير عن الحقيقة المتقدمة وهي أنهم لا يدخلون الجنة ﴿حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ﴾، أي: لا يدخل المنحرفون الجنّة حتى يدخل البعير في ثقب الإبرة مثلا. أهمية هذا التشبيه تتمثل في كونه مستقى من واقع البيئة التي خبرها المعاصرون لرسالة الإسلام، فالجمل هو أكبر الحيوانات المألوفة في خبرات الناس آنئذ، كما أن الإبرة أصغر الظواهر سعة، فكما أنه من الممتنع تماما أن يدخل البعير في ثقب الإبرة، فإنه من المستحيل أن يسمح للكافر ذات يوم أن يدخل الجنة، وهذا التمثيل كما نعرف منتهى ما يمكن أن يعبّر عنه في رسم اليأس والقنوط.
وهنا يجب أن نتذكر بأن هذا المقطع المتضمن للتشبيه المذكور إنما جاء في سياق الحديث عن المنحرفين وكيف أنهم ينشطرون إلى رؤساء واتباع، وإن كلا من الرؤساء والاتباع قد طالب الله تعالى بأن يضاعف العذاب على صاحبه، الاتباع طالبوا بذلك لأنهم وجدوا أن الرؤساء هم السبب في انحرافهم، والرؤساء طالبوا بذلك لأنهم وجدوا أن الاتباع لا يفترقون عنهم في درجة الانحراف، وهذا ما يزيدهم تمزقا كما أشرنا سابقا.
والآية تضيف إلى تمزقاتهم امرا مثيرا جديدا هو أشدّ من سابقه إثارة، فإذا كان المنحرفون قد تيقنوا سابقا بأن لهم عذابا ضعفا [رؤساء واتباع]، فإنهم الآن قد وصلوا إلى يقين ثابت هو: أنهم لا أمل لهم البتة في الإنقاذ، أي: ليس أنهم سوف يضاعف عليهم العذاب فحسب، بل أن العذاب سوف يستمر إلى الدرجة التي لا أمل في التخلص منه.
فوصفت الآية الشريفة المنحرفين أولا بأنهم ممزّقون فحسب حينما لعنت كل أمّة أختها في الانحراف عند دخولهم النار أول مرة، ثم وصفتهم بحالة من التمزق أشد من سابقتها حينما أوضحت بأن لهم عذابا ضعفا، ثم نقلتهم إلى درجة اليأس حينما أوضحت لهم بأنهم سوف لن يدخلوا الجنة أبدا إلا إذا دخل البعير ثقب الإبرة.
فينبغي ألاّ نغفل عن هذا البناء الهندسي المحكم الذي صاغه الباري عز وجل وفقا للمنحنيات النفسية التي سوف يواجهها المنحرفون عن مبادئ الله.
[1] سورة الأعراف، الآية: 40.
[2] تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 530.
[3] ارشاد القلوب، ج 1، ص 62.