حين لا يُجيدون إلا السوء... التربية بين صوت اللوم وصمت التشجيع
✦ مدخل واقعي: حصل على 85% في امتحان الرياضيات، فـ"قامت الدنيا ولم تقعد"... انهالت عليه عبارات اللوم والتقريع وكأنما ارتكب جرمًا لا يُغتفر: "لماذا هذا التراجع؟"، "عيب عليك!"، "هل هذا مستواك؟!" عاتبوه بقسوة، زجروه بحدة، وانتقصوا من جهده ببرود. لكنه كتم حزنه، ووعد نفسه أن يعوّض. وفي الامتحان التالي، اجتهد، سهر، راجع، فتألق وجاء بنتيجة كاملة: 100%. وقف يترقب كلمة فرح، ابتسامة رضا، نظرة فخر… لكن الصمت كان سيد الموقف. لا "أحسنت"، ولا "نفتخر بك"، ولا حتى تربيتة على الكتف. عندها أدرك الحقيقة المؤلمة: بعض البيوت تُتقن فنّ التأنيب... لكنها تجهل فنّ التشجيع!✦ حين تكون التربية خللاً في الميزان هذا المشهد ليس قصةً نادرة ولا حالةً شاذة، بل واقعٌ يتكرر في كثير من البيوت والمدارس. نُحاسب أبناءنا بشدة عند أدنى خطأ، لكننا نُعرض عنهم في قمة الإنجاز. نتفنن في إطلاق العتاب عند التقصير، بينما نبخل بأبسط كلمات الدعم عند التقدم. النتيجة؟ أبناء يظنون أن محبتنا مشروطة بتفوق دائم، وأن قيمتهم تُقاس بورقة امتحان، وأن الخطأ يعني "الفشل"، بينما النجاح يعني "الواجب"، فلا حاجة للاحتفاء به.
✦ خسائر صامتة لا تُرى حين يغيب التشجيع، نخسر أكثر مما نتوقع: نخسر أبناءً يشعرون بالوحدة النفسية رغم نجاحاتهم. نخسر ثقتهم بأنفسهم، فيعيشون تحت ضغط المثالية المزيفة. نخسر الحماس الداخلي الذي يولّده الإحساس بالتقدير. بل إن بعض الأبناء يكبرون وهم يظنون أن التفوق لا يُفرح أحداً، وأنهم مهما بذلوا لن يرضوا الجميع، فيفتر الحماس، ويخبو الطموح.
✦ هل نُتقن فن التشجيع كما نُتقن فن العقاب؟ التربية ليست فقط تصحيحًا للأخطاء، بل احتفاءٌ بالصواب. لا تكفي العقوبة حين يخطئ الطفل، بل يحتاج إلى توجيه راقٍ يبني، لا يهدم. ولا تكفي النتيجة الجيدة وحدها، بل تحتاج إلى كلمة صادقة تمنحها الحياة والدفء. لو أننا قابلنا "100%" بـ"أحسنت، فخورون بك"، وقابلنا "85%" بـ"أعرف أنك تستطيع أكثر، ونحن نؤمن بك"، لكان للعلم طعم آخر، ولكان للبيت أثر تربوي باقٍ في القلب والعقل.
✦ خلاصة تربوية لا تجعلوا أبناءكم يتعلمون أن الصمت هو ردّ الفعل الوحيد على النجاح. ولا تزرعوا فيهم أن محبتكم مشروطة بدرجاتهم. أحسنوا إليهم بالكلمة كما تحاسبونهم بالفعل. فكلمة "أحسنت" قد تُغيّر مصيرًا، وكلمة "أنت خيّبت ظني" قد تهدم ثقة بُنيت في سنوات.
✦ كلمة أخيرة: ليس المطلوب أن نُبالغ في التهليل والتصفيق لكل إنجاز، لكن المطلوب ببساطة: أن نُشعر أبناءنا بأنهم مرئيّون، مقدّرون، محبوبون... سواء أصابوا أو أخطأوا. فبالتشجيع نبني، وبالعدل نُربّي، أما الإهمال... فلا يصنع إنسانًا، ولا يُخرج طاقة، ولا يُهذّب عقلًا.
تعليق