بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
قال الله تعالى: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ ۚ قَالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ﴾[1].
قصة من أفضل وأعمق وأكمل القصص اختصت برجال يعرفون ب (الأعراف) والحديث في هذه الآية عن الحقائق المتصلة بالعلاقة بين أصحاب الجنة وأصحاب النار.
فأصحاب النار يطالبون أهل الجنة بأن يفيضوا عليهم شيئا من الشرب والأكل، إلا أن أهل الجنة يردّون عليهم بالقول بأن الله حرمهما على الكافرين هذا هو الحوار القائم بين الفريقين: الفريق المنحرف المطالب بشيء من الشرب والأكل، والفريق المؤمن الذي يجيبه بأن ذلك محرّم على الكافرين.
وهو الحوار الذي يكشف: -
أولا: عن أن الحواجز بين الفريقين ترفع ولو في نطاق محدد.
وثانيا: أن شخصيات المنحرفين بالرغم من كونها تحيا أشدّ آلام العذاب إلا أنها تمنح فرصة التعبير عن جزائها الذي لحقها، أو لنقل: تتحسّس ذلك دون أن يحتجزها العذاب من التعبير عنه لفظيا أو حركيا.
والأهم من ذلك أن المؤمنين عندما يخاطبون أهل النار بأن الله حرّم الأكل والشرب على الكافرين، حينئذ لا يتقدمون بأيّ تعقيب آخر على هذا الحكم بل يتركون ذلك لله تعالى حيث يعقّب على ذلك: ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا﴾[2]، وهذا يعني أن المنحرفين لا ينحصرون في الجاحد بالله تعالى فحسب، بل حتى أولئك الذين يتخذون من الدين وسيلة لهو ولعب مثل تحريفهم لكلام الله مثلا أو عدم التزامهم بمبادئه.
كما أن هذه الآية تضيف إلى ذلك وهؤلاء عبارة عن ظاهرة عامة هي: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾[3]، حيث يشمل غرور الحياة كل أنواع الانحراف كفرا كان أم فسقا أي عدم الالتزام بمبادئ الله.
إن هذه المعادلة بين نسيان المنحرفين ليوم الحساب في غمرة اهتمامهم بشؤون الحياة الدنيا، وبين نسيانهم لله في اليوم الآخر، تعدّ في قمة الحقائق التي ينبغي أن يقف المتلقّي عندها للإفادة منها في تعديل السلوك، فعملية النسيان المتبادل قائمة على مسوغات لا سبيل إلى الترديد فيها، ما دام أحد الأطراف هو الذي اختار ملء إرادته نسيان الله حيث يظل الطرف المذكور هو الخاسر دون أدنى شك وهو سلوك المنحرفين.
فيتساءل المنحرفون بمرارة: ﴿فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ* وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾[4].
فمن خلال تمنيهم بأن يكون لهم شفعاء، ومن خلال تمنّيهم بأن يُردّوا من جديد إلى الأرض فيغيروا سلوكهم. من خلال ذلك نفهم بوضوح أن طرف المعادلة وهو المنحرف عن الله ومبادئه هو الخاسر في عملية النسيان الذي ذكرها النص من أن المنحرفين بما أنهم نسوا مبادئ الله في الحياة الدنيا حينئذ أهملهم الله تعالى في الحياة الآخرة.
فقصة رجال الأعراف بما تضمنته من عنصر الحوار الحيّ الذي لاحظناه مفصلا في هذا القسم وفي الأقسام السابقة من السورة، وظفت فنيّا لإنارة أكثر من جانب يتصل بعمارة السورة، حيث لاحظنا أن قصة سابقة هي قصة الميلاد البشري ثم قصة إبليس المتداخلة في القصة المذكورة قد طرحت مفاهيم عن الطاعة والمعصية وانعكاسهما على الحياة الأخرى: فيما جاءت القصة الثالثة قصة الأعراف بمثابة إنارة للانعكاس المذكور، مع تطعيمها بحقائق جديدة يستهدفها النص، ما دمنا نعرف بأن هدف القصة أو أي نص فنيّ آخر لا ينحصر في فكرة عامة فحسب بل في أفكار ثانوية أيضا، وهو ما لاحظناه في القصة المذكورة التي طرحت حقائق من الجنة والنار وما يواكب ذلك من العلاقات بين المؤمنين والمنحرفين عبر مواقف خاصة، وموقع الأنبياء والمعصومين من ذلك ﴿وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ ۚ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ﴾[5].
كل أولئك تشكّل حقائق جديرة بالوقوف عندها، وهي حقائق تمّ تقديمها من خلال عنصر القص بدلا من مجرد السرد، بغية إحداثها التأثير على المتلقي بنحو أشدّ، وهو هدف النصوص الفنية كما هو واضح.
[1] سورة الأعراف، الآية: 50.
[2] سورة الأحقاف، الآية: 20.
[3] سورة الحديد، الآية: 20.
[4] سورة الشعراء، الآيتان: 100-101.
[5] سورة الأعراف، الآية: 46.