بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
قال الله تعالى: ﴿قَالَ أَلْقُوا ۖ فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾ [1].
﴿قَالَ أَلْقُوا﴾، موسى عليه السلام مخاطبا السحرة: ومراده ألقوا أنتم أولا ما في أيديكم فألقوا وسحروا أعين الناس باحتيالهم في تحريك العصيّ والحبال بما جعلوا فيها من الزئبق الذي تمدّد بحرارة الشمس.
وروي أنّهم جمعوا حبالا غلاظا وخشبا طوالا كأنّها حيّات جسام غلاظ، ولطّخوا تلك الحبال بالزّئبق، وجعلوا الزّئبق داخل تلك العصيّ، فلمّا أثّرت حرارة الشّمس فيها تحرّكت والتوى بعضها على بعض، وكانت كثيرة جدّا، فتخيّل النّاس أنّها تتحرّك وتلتوي باختيارها، وصار الميدان كأنّه مملوء بالحيّات.
وهذا الأمر هو نزولا على ما أشار به الملأ فأرسل فرعون جلاوزته الى أطراف بلاده ليجمعوا له أكابر السحرة وشياطينهم؛ ليتحدّى بهم هذا الساحر العليم بنظره وهو موسى فجاءوه بعدد يهتمّ له حتى يهزموا طرفهم بكثرة الدويّ الذي يقومون به، واجتمع السحرة عند فرعون ليشارطوه على متاعبهم التي يقومون بها وكمدخل لآيتنا الشريفة أعلاه نذكر مقاطع الآية السابقة ﴿قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً﴾، على سحرنا ومناورتنا لطرفنا إذا غلبناه وحصل لك من متاعبنا النصر الذي تحاوله على خصمك، ففي الآيات السابقة قال فرعون لهم: ﴿قالَ نَعَمْ﴾، إن لكم لأجرا كما تهوون وستكونون مع ذلك من المقربين عندي واهل المقامات العالية لديّ، ومن هنا يستفاد بوضوح أن موقف موسى عليه السلام أمام فرعون كان هائلا جدّا ولذلك لمّا جاء السحرة في ضمن كلامهم بكلمة الغلبة نفّست عليه كثيرا لأنه استشمّ من كلامهم أنهم واثقون من أنفسهم وبعد أن تمّ عقد القرار بين السحرة وبين فرعون جاءوا الى ميدان المسابقة ف ﴿قالُوا يا مُوسى إِمّٰا أَنْ تُلْقِيَ﴾، ما عندك في هذا الميدان ونحن نتأخر في القاءنا عنك ﴿وَإِمّٰا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ اَلْمُلْقِينَ﴾، فقال لهم ﴿أَلْقُوا﴾، أنتم وإنّما قدّمهم لتلقف عصاه ما يأفكون ﴿فَلَمّٰا أَلْقَوْا﴾، ما زوّروه من حيلة وابرزوا ما عندهم من معمّيات ﴿سَحَرُوا أَعْيُنَ اَلنّٰاسِ﴾، أي جعلوها عالقة بسحرهم معظمة لما جاءوا به ﴿وَاِسْتَرْهَبُوهُمْ﴾، أي ادخلوا الرهبة في قلوبهم والخوف في أنفسهم ﴿وَجَاءُوا﴾، بفنون من السحر مهمّة.
فنبي الله موسى عليه السلام يخيّر هنا بين تقدّمه في إلقائه وتأخره كتحد جاهر في ذلك التخيير التحيير، على تأدب ظاهر، وهو يرجح تأخره عنهم لكي يأتوا بكل ما لديهم ثم يجتثه بأسره حيث يثق بنفسه كل الثقة مستهينا بتحديهم، كما هم كانوا واثقين لا يفرقون بين إلقائهم أولا وإلقاءه، ولو أنه تقدم، ما كان هناك ظرف لما تقدمه أن يلقف ما يأفكون، وهذا تكتيك لصالح الحوار بأن يطلب صاحب الحق كي يتقدم محاورة بما عنده على البساط حتى يسهل له القضاء عليه، تهديما بكل صرحه، وفصما لكل طرحه، وحسما له عن بكرته، فلذلك استهان بتحدّيهم بكلمة واحدة تبدو فيها قلة مبالاته بهم: ﴿قَالَ أَلْقُوا﴾، ما عندكم من السحر ﴿فَلَمّٰا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ اَلنّٰاسِ﴾، دون عقولهم وقلوبهم العارفة أنها صورة دون حقيقة وسيرة ﴿وَاِسْتَرْهَبُوهُمْ﴾، طلبا لرهبتهم وهم لا يرهبون إلاّ ظاهريا ﴿وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾، ما أعظمه بين مختلف ألوان السحر لحد ﴿فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ﴾[2]، فما يصنع ساحر واحد مهما كان عظيما أمام سحر هؤلاء العظماء من سحرة البلاد.؟! فأهم فاعليات السحر أن يسحر أعين الناس ويسترهبهم في المعاينة دون أي واقع وراء سحر الأعين، وذلك من الفوارق العظيمة بين السحر والآية الربانية، ولو استطاع ساحر أن يقلب واقعا إلى آخر بسحرة لكانت السحرة المهرة الفرعونية تقلب التراب ذهبا دون طلب لأجر من فرعون، أم ويقلبوا سلطان فرعون إلى سلطانهم فيتركوا عبوديته إلى حريتهم أنفسهم، وقد تبين من خلال سورة البقرة الفوارق بين السحر والآية المعجزة في مسألة ذبح البقرة لقوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً ۖ قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ۖ قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾[3].
[1] سورة الأعراف، الآية: 116.
[2] سورة الشعراء، الآية: 44.
[3] سورة البقرة، الآية: 67.