وجَع لا يُقال... واستغفار لا يُسمع
عاد إلى البيت ظهرًا، متسللًا كعادته في مثل هذا الوقت، كي لا يوقظ من استسلم لقيلولته. كانت عادته أن يمر بهدوء عبر الصالة إلى غرفته، دون أن يُشعر أحدًا بوجوده، لكن هذه المرة... سبقت قدميه أذنه.
من خلف الباب نصف المغلق، سمع همسة مشبعة بالمرارة، جاءت من فمٍ يعرفه جيدًا:
"أعوذ بالله من كيد النساء... تغيّر كثيرًا منذ أن تزوّج تلك اللئيمة."
تجمّد في مكانه. الصوت صوت أمه. الهمسة ليست غريبة... لكن الطعن جاء من الجهة الأقرب إلى القلب.
كان يمكنه أن يفتح الباب ويدافع عن زوجته، أو أن يواجه أمه بما سمع، لكنه اختار الصمت، وربما الصبر. تظاهر بعدم السماع، وواصل طريقه إلى غرفته بوجهٍ لم يظهر عليه شيء، وقلبٍ كان يغلي بكل شيء.
جلس على طرف السرير، وأغمض عينيه. ردّد بصوت داخلي مرتعش:
"وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ..."
لكن الهدوء لم يدم طويلاً...
تسرّبت إليه همسات أخرى، أو وصايا، جاءت من نفس الفم، وفي ذات الغرفة المجاورة. كانت أمه توجّه الحديث هذه المرة إلى أخته:
"إياك أن تطيعي أمه... حاولي افتعال المشاكل معه حتى يخرج إلى بيت مستقل. هكذا فعلتُ مع أبيكِ من قبل... أجبرته أن يبتعد عن أهله، وانتهى الأمر."
ضحك... لكنه ضحكٌ داخلي، حارق. كأن شيئًا انكسر فيه ثم صمت. لم يكن يبكي، لكنه أحس بحرارةٍ في عينيه لا تُطفئها الكلمات. شعر بأنه يسمع ما لا يجب أن يُسمع، يرى ما لا يريد تصديقه.
لكنه لم يشتم، لم يرد، لم يَصِحْ. بل رفع بصره إلى السقف، وهمس بدعاءٍ من قرآنٍ حفظه قلبه قبل لسانه:
"وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا."
كان يعرف أن الناس يتغيرون... لكن أن يرى هذا التغيير في من ربّته يومًا على الحب، كان وجعًا من نوعٍ آخر.
ومع ذلك، اختار البِرّ...
اختار أن يكون ابنًا حتى في حضرة الجرح.
اختار أن يبتلع صوته... ويبكي فقط بعينيه.