بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾[1].
هذا القسم من قصة موسى: يمثل شريحة قصصية تتصل بسلوك مجتمع فرعون حيال موسى عليه السلام ومن آمن به. فبعد أن آمن السحرة برسالة موسى هدد فرعون وقومه: المؤمنين وآذوهم فعلا بحسب المقولة التي نقلتها القصة عنهم بقولهم لموسى عليه السلام من خلال الآية السابقة: ﴿أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا﴾، فأجابهم موسى قائلا ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ وها هي الآية الآن تحدّثنا عن هلاك الفراعنة إذ عاقبهم الله أولا بالقحط والجدب ﴿لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾، ومقدمة سورة الأعراف طرحت هذا المفهوم وهو التذكّر والآن تردّد هذه المقولة في قصّة موسى عند حديثها عن مجتمع فرعون: ليتلاحم النص هندسيا وتتواشج أقسامه: بعضا بالآخر.
والمهم، أن هلاك الفراعنة بدأ مع ظاهرة الجدب، وجاء هذا الجدب بمثابة إنذار لتتمّ الحجة عليهم فلعلهم يتذكرون، إلا أن هؤلاء لم تنفعهم التجربة حيث كانوا يفسرون قضية الجدب بأنها سوء الطالع بالنسبة لموسى وقومه، وعندما يغمرهم الخصب ينسبونه لأنفسهم.
كما أنهم أصروا على موقفهم المستكبر من الإيمان بالله، حيث فسّروا الإعجاز الذي لاحظوه عند موسى عليه السلام بأنه سحر، فبالرغم من أن العصا أبطلت السحر الذي هيأوه وخابوا، نجدهم يقولون: ﴿وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ﴾[2].
إن هذا الإصرار يفصح عن أن القوم لم يمارسوا أية فاعلية عقلية أو موضوعية لدارسة الموقف بل انصاعوا لذواتهم بحيث أصروا على أن الإعجاز هو سحر وأنهم لن يؤمنوا برسالة السماء.
وعليه فنتوقع أن تعاقبهم السماء بجزاء أشد من السابق وهو: الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم: وعندما شاهدوا هذه الآيات طلبوا من موسى أن ينقذهم من ذلك بدعائه إلى الله، ففعل، واستجيب له.
ووَرَدَ عَنِ اِبْنِ مَحْبُوبٍ عَنْ دَاوُدَ اَلرَّقِّيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اَللهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: ((كَانَ أَبُو جَعْفَرٍ صَلَوَاتُ اَللهِ عَلَيْهِ يَقُولُ نِعْمَ اَلْأَرْضُ اَلشَّامُ وَبِئْسَ اَلْقَوْمُ أَهْلُهَا اَلْيَوْمَ وَبِئْسَ اَلْبِلاَدُ مِصْرُ أَمَا إِنَّهَا سِجْنُ مَنْ سَخِطَ اَللهُ عَلَيْهِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ يَكُنْ دَخَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِصْرَ إِلاَّ مِنْ سَخْطَةٍ وَمَعْصِيَةٍ مِنْهُمْ للهِ..))[3].
وسني الجدب والقحط في أرض مخصبة معطاء كمصر تبدو ظاهرة قاهرة تلفت الإنظار، إنها الإنذار الداعي لليقظة بعد النومة والنبهة بعد الغفلة، فلو أن فرعون هو الرب الأعلى فكيف عجز عن استمرارية الجدب الذي هو قضية طبيعة الأرض المصرية؟
ثم ﴿وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ﴾، وعلّها تجمع إلى ثمرات الزروع والأشجار وسائر الثمار التجارية والصناعية، ثمرات الأولاد، عكسية ماثلة بين أيديهم بما قتلوا أبناء بني إسرائيل واستحيوا نساءهم جزاء وفاقا، فأين إذا ﴿مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي﴾[4]، وقد كان يعرضها بمعرض الناس دليلا على رجاحته على موسى ﴿أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ﴾[5].
هنا عجالة يأخذهم بالسنين ونقص من الثمرات دون أن يستأصلهم بأسرهم، إجالة للنظر في سنن الله بوعده ووعيده، ولكنهم لغلظ حسهم وانقلاب فطرتهم وعقليتهم لم يكونوا لينتبهوا إلى العلاقة الوطيدة بين كفرهم وطغيانهم وبين أخذهم بالسنين ونقص من الثمرات في مصر التي كانت ولا تزال تفيض بالخصب والعطاء، إلاّ ما كان زمن يوسف تذكيرا للسلطة الجبارة، وفسحا لمجال الدعوة الربانية ليوسف.
ذلك، بل هم زادوا غباوة وطغيانا على ضوء السنين ونقص من الثمرات، لكنهم عادوا إلى نفس الموقف المنحرف، وعندها غمرهم الجزاء الماحق وهو: الغرق في البحر بالنحو الذي نعرفه جميعا.
إن هذه الأقصوصة التي رسمت مصير آل فرعون، تظل جوابا فنيا لمقولة موسى عليه السلام في مقطع أسبق: حيث قال لهم ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ﴾، وها هو الهلاك يتحقق فعلا.
[1] سورة الأعراف، الآية: 130.
[2] سورة الأعراف، الآية: 132.
[3] تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 547.
[4] سورة الزخرف، الآية: 51.
[5] سورة الزخرف، الآية: 52.