بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
قال الله تعالى: ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ ۚ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ۚ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾[1].
لما غرق فرعون وجنده في نهر النيل أنتهى امره الى غير رجعة، وبه ذهاب طاغوت فرعون واتباعه من خلال مواجهة موسى عليه السلام له، ولكن لموسى معركة أخرى مع أقرباءه بعد أعدائه هي أشد منها وأقسى وأنكى منها وأشجى وأطول أمدا، حيث يواجه بني إسرائيل برواسب الذل الذي أفسد سجيتهم من ناحية، ورواسب الوثنية التي أفسدتها من أخرى، وكذلك الالتواء والقسوة والضعف والجبن عن حمل التبعات مع الذعر الدائم والتوقع القائم للبلاء.
ذلك رغم أنهم في الأصل على دين التوحيد، ولكنهم رغم ذلك كانوا قوما ماديين يعيشون أصالة الحس والمادة دون عناية إلى ما وراءها إلاّ تشريفا دون أصالة، كهالة قدسية لمّا تتبدل إلى حالة عقيدية راسخة، وكما هو الظاهر من التوراة المحرفة حيث حرفوا لاهوت الألوهية إلى شاكلة إنسان له ما لسائر الإنسان، ولكنه أقوى، أم وهو أضعف أحيانا من إنسان، كما في القصص الإسرائيلية حيث تقول: إن يعقوب صارع الرب ودام الصراع حتى طلوع الفجر فصرعه فاقتضى منه بركة النبوة حتى يخلصه فتقبل فنجي. وتراهم طلبوا إليه أن يجعل لهم إلها بديل الله هو كما الله؟ والإله المجعول لموسى ليس إلاّ من خلقه واختلاقه فكيف يكون إله العالمين! القصد هنا هو ألوهية المعبودية تقربا بالآلهة إلى الله زلفى كما يقولها سائر المشركين: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى﴾[2]، فأجيبوا ب ﴿إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾، المقاييس والموازين أن تعبدوا غير من خلقكم وفضّلكم على العالمين!
وورد أن أمير المؤمنين عليه السلام قد قَالَ لَهُ بَعْضُ اَلْيَهُودِ: مَا دَفَنْتُمْ نَبِيَّكُمْ حَتَّى اِخْتَلَفْتُمْ فِيهِ! فَقَالَ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ لَهُ: ((إِنَّمَا اِخْتَلَفْنَا عَنْهُ لاَ فِيهِ وَلَكِنَّكُمْ مَا جَفَّتْ أَرْجُلُكُمْ مِنَ اَلْبَحْرِ حَتَّى قُلْتُمْ لِنَبِيِّكُمْ ﴿اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ۚ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾))[3].
فعملية استصلاح نفوس بني إسرائيل من ذل الطاغوت الفرعوني هي التي سيواجهها موسى عليه السّلام منذ الآن بعد خروجه ببني إسرائيل من مصر وتجاوزهم البحر، وهذه النفوس البئيسة التعيسة ستواجه الحرية الحقة بكل رواسب الذلة والمسكنة، وتواجه الرسالة بكل رواسب الجاهلية بكل خلفياتها، بل وأنحس منها، فإن سحرة فرعون آمنوا بعد ما رأوا آية ثعبان العصا واليد البيضاء وهم لم يؤمنوا بعد ما رأوا كل الآيات الموسوية وهي بضع عشرة آية، اللّهم إلا قليل منهم وفى لرعاية الحق.
﴿فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ﴾، وها هم ما أن يجاوزا البحر حتى تقع أبصارهم على قوم يعكفون على أصنام لهم.
﴿يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا﴾، وإذا هم يطلبون طلبهم، ويغلبون أمام الأصنام غلبهم، حيث يطلبون من موسى رسول التوحيد من رب العالمين أن يجعل لهم إلها كما لهم آلهة.
﴿كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾، طبيعة مخلخلة العزيمة، سريعة الهزيمة، ضعيفة الروح، قوية الشكيمة، ما تكاد تهتدي حتى تضل، وما ظلت ترتفع وتزيد حتى تنحط وتقل، فأين الدعوة التوحيدية الموسوية قرابة عشرين سنة أم تزيد، فقد نسوا آياته الرسولية والرسالية، وحتى التي أنجتهم في اللحظة الأخيرة إذ جاوز بهم البحر بعد ما أغرق فرعون وملئه! ولو أنهم اتخذوا لأنفسهم إلها لكان أقل غرابة وعتامة من أن يطلبوا إلى رسول التوحيد أن يجعل لهم إلها كما لهم آلهة! وما كان جوابهم المختصر المحتصر عجالة إلاّ ﴿قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾، تجهلون كافة المعالم الإنسانية والإيمانية، ف «تجهلون» من الجهالة ضد المعرفة، ومن الحماقة ضد العقل، ومن البلاهة ضد الشعور، فما ذلك التقوّل التغوّل إلاّ من أحمق الحماقة وأعمق الجهالة والبلاهة إلى غير حدود! ذلك وحق يقال إنهم أحمق وأعمق جهالة من آل فرعون المشركين إذ صمدوا على باطلهم ولم يهووا ولا مرة واحدة أن يوحدوا الله.
[1] سورة الأعراف، الآية: 138.
[2] سورة الزمر، الآية: 3.
[3] نهج البلاغة، ص 531.