بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
قال الله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا ۚ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾[1].
كثيرة هي الحوادث ذكرها الله تعالى ذات صلة بالإسرائيليين مع نبيه موسى، حيث تذكر النصوص المفسرة بأنهم طلبوا من موسى عليه السلام ذلك من أجل أن يؤمنوا. فتستهدف القصة تقرير الحقيقة الذاهبة إلى أن الله تعالى ليس جسما حتى تتحقق الرؤية المقترحة على موسى، كما تستهدف تقرير الحقائق الأخرى التي أوضحت بأن الجبل قد دك، وأن موسى قد خرّ صعقا، تأكيدا على امتناع الرؤية المشار إليها، ولذلك ما أن أفاق موسى من صعقته حتى طلب من الله المغفرة قائلا: ﴿سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وأَنَا أَوَّلُ اَلْمُؤْمِنِينَ﴾.
فحين كلّمه ربّه قالَ موسى: ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾، يعني: أرني نفسك.
وقد اختلف العلماء في وجه مسألته هذه في الوقت الذي هو نبيّ يعلم أنه عزّ وجلّ لا يدرك بالحواس.
فقال الأكثرون: إنه سأل الرؤية لقومه ولم يسألها لنفسه، لأنهم هم الذين قالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فأخذتهم الرجفة. وقد جوّز هؤلاء القائلون سؤال موسى لقومه ما يعلم استحالته ليحصل لهم على الجواب الكافي الشافي.
وقال آخرون: إنه لم يسأل رؤية بصرية بل سأل إراءته بعض علائم الآخرة أو غيرها مما يزيل الشكوك ويغني عن الاستدلال، وذلك كسؤال إبراهيم عليه السلام حين قال: ربّ أرني كيف تحيي الموتى. فالرؤية القلبية تفيد العلم واليقين كالرؤية البصرية.
وقال غيرهم: سأل رؤية بصرية لعظمته سبحانه على غير وجه التشبيه. وكل هذه الأقوال تعليلات لظاهر طلبه موسى فقد طلب ما طلبه إبراهيم عليهما السلام مما يرسّخ العقيدة ويعمّق الإيمان مع جلالة رتب الأنبياء عليهم السلام ف ﴿قَالَ﴾، الله تبارك وتعالى: ﴿لَن تَرَانِي﴾، لا تراني أبدا لأن: لن، تنفي للتأبيد، كقوله: ﴿يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ﴾[2]، وقوله: ﴿وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا﴾[3].
﴿وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي﴾، أمره سبحانه بالنظر إلى الجبل وعلّق رؤيته على استقرار ذلك الجبل الذي لا يستقر إذا تجلّت له قدرة الله، فموسى لا يرى ربّه الذي جلّ عن الشبيه لأنه ليس بجسم ليرى ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ﴾، أي حين ظهر أمر ربّه للجبل وما فيه ومن فيه، وبدت آياته التي أحدثها في الجبل ﴿جَعَلَهُ دَكًّا﴾، أي خسفت به الأرض وصار مستويا مع ما حوله كأنه ساخ وابتلعته الأرض. وقيل إن الله تعالى أبرز من العرش مقدار الخنصر فاندكّ به الجبل.
﴿وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا﴾، أي وقع مغشيّا عليه، ومات السبعون الذين كانوا معه كلّهم من هول الظاهرة الهائلة ﴿فَلَمَّا أَفَاقَ﴾، حين انتبه من غشيته التي قيل أنها حدثت عشية الخميس يوم عرفة وانتهت عشية يوم الجمعة وعندها نزلت عليه التوراة وفارقته صعقته وعاد إليه وعيه ف ﴿قَالَ سُبْحَانَكَ﴾، تنزيها لك عمّا لا يليق بك، أو تنزيها لك عن أخذي بما فعل السفهاء من قومي حين طلبوا رؤيتك إني ﴿تُبْتُ إِلَيْكَ﴾، أقلعت عن أن أسأل ما ليس لي به علم. وهذا تسبيح منه وتهليل بعد ما ظهر له أمر جليّ جعله ينقطع إليه سبحانه وينيب إليه قائلا:
﴿وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾، المصدّقين، لا شك، أن هذه الشريحة من الموقف المتصل بالتوبة لا تنحصر في شخصية موسى فحسب، بل إن دلالتها تنسحب على مجمل الموقف المتصل بالإسرائيليين أنفسهم، حيث أن إشارته بأنه ﴿أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾، إنما تنسحب على الآخرين الذين يستهدف النص توصيل الدلالات الفكرية إليهم بالنحو السليم، وإلغاء الأفكار المنحرفة التي صدر الإسرائيليون عنها في تعاملهم مع موسى، مع تقديم المبادئ العامة التي ينبغي أن يتمّ الالتزام بها، ثم التهديد بالجزاء الذي سوف يلحق المنحرفين في حالة عدم الالتزام بذلك.
[1] سورة الأعراف، الآية: 143.
[2] سورة الحج، الآية: 73.
[3] سورة البقرة، الآية: 95.