دموع تُكمل المسير.. قراءة جديدة في بكاء الإمام زين العابدين (ع)
حين تنحبس الأصوات وتُكبت الكلمات، يتكفَّل الدمع بأن يقول ما عجز عنه اللسان. وهكذا كان بكاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) موقفًا واعيًا، ومشروعًا ممتدًا، وخطابًا غير منطوق يهزُّ أعماق الوجدان الإنساني. لقد ظنَّ بعضهم أنَّ دموع السجاد (عليه السلام) كانت مجرَّد تعبير عن لوعة ابن فقد أباه؛ لكن الحقيقة أعمق بكثير، وأوسع من أن تُختزل في علاقة القرابة.
بكى الإمام (عليه السلام)؛ لأنَّه أبصر بأمّ عينيه سقوط القيم واندثار الرِّسالة، واختطاف الدِّين على يد المتلاعبين به، حتَّى صار الحقُّ غريبًا، والباطل عزيزًا. كان بكاؤه احتجاجًا بصيغة الألم؛ لكنَّه شديد اللهجة في مضمونه الثوري، يفضح بصمته كلَّ انحراف، ويرفع بمأساويته لواء الرَّفض، ويوقظ أمَّة كانت تترنَّح بين الغفلة والتواطؤ.
ماذا أراد الإمام السَّجاد (عليه السلام) من بكائه؟
وما الرِّسالة التي حملتها دموعه للأجيال؟
وكيف تحوَّلت تلك الدموع إلى صوت دائم يتحدَّى الزَّمن، ويعيد للأُمَّة بوصلتها التي أضاعتها في صحراء كربلاء؟
إنَّها قراءة جديدة في دموع ما تزال تكتب الوعي، وتزرع فينا روح الثَّورة.
المحور الأوَّل: بيان مفهوم النصرة
من المسلَّمات العقائديَّة والبديهيَّات التي لا يختلف عليها عاقل أنَّ الله (سبحانه وتعالى)، بكونه الخالق المطلق والمهيمن على كلِّ شيء، منزَّهٌ عن الحاجة إلى نصرة أحد من خلقه؛ وقد عبَّر (سبحانه)عن هذه الحقيقة في كتابه العزيز بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى الله وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)(1)؛ فهو الغنيُّ المطلق، ونحن الفقراء إليه في كلِّ شأن من شؤون حياتنا ومصيرنا. ومن هنا، فإنَّ مفهوم "نصرة الله" لا يعني دعمه لاحتياجه؛ بل تعني انخراط الإنسان في مشروع الحقِّ الإلهي، ونصرة أوليائه (تعالى)، الذين اختارهم لإقامة دينه وتبليغ رسالاته؛ فهم أنوار الهداية ومصابيح الدجى، ونصرتهم في الحقيقة نصرة لمشروع الله (سبحانه) في العالمين.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى في قصَّة نبيِّ الله عيسى (عليه السلام)، حينما واجه الكفر والجحود، فاستنصر بالمؤمنين قائلًا: (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى الله قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ الله آمَنَّا بِالله وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)(2)؛ فهنا تتجلَّى الحاجة إلى الأنصار في معركة الحقِّ ضد الباطل، لا لنُصرة الله (تعالى)؛ وإنَّما لإقامة كلمته وتجسيد دينه في واقع النَّاس. وانطلاقًا من هذا الفهم، نسعى في هذا المقال إلى استكشاف كيفيَّة نصرة الإمام الحسين (عليه السلام)، من خلال تتبُّع بعض مواقف وسيرة الإمام السجَّاد (عليه السلام)، بوصفه الوريث الرسالي الذي حمل راية النَّهضة بعد كربلاء، وأكمل مشروعها في ميادين الكلمة والصَّبر والتربيَّة.
1. النصرة لغة واصطلاحًا:
النصرة لغةً: "النُّونُ وَالصَّادُ وَالرَّاءُ أَصْلٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى إِتْيَانِ خَيْرٍ وَإِيتَائِهِ. وَنَصَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ: آتَاهُمُ الظَّفَرَ عَلَى عَدُوِّهِمْ، يَنْصُرُهُمْ نَصْرًا. وَانْتَصَرَ: انْتَقَمَ، وَهُوَ مِنْهُ... وَالنَّصْرُ: الْعَطَاءُ"(3). و"نَصَرْتُهُ عَلَى عَدُوِّهِ وَنَصَرْتُهُ مِنْهُ نَصْرًا أَعَنْتُهُ وَقَوَّيْتُهُ وَالْفَاعِلُ نَاصِرٌ وَنَصِيرٌ وَجَمْعُهُ أَنْصَارٌ. والنُصرة بالضمِّ اسم منه. وتناصرَ القومُ: نصر بعضُهم بعضًا. وانتصرت من زيد: انتقمت منه. واستنصرته: طلبت نصرته"(4).
و"الأصل الواحد في المادَّة: هو إعانة في قبال مخالف، كما أنَّ الإعانة تقويًّة شيءٍ في نفسه؛ ومن دون نظرٍ إلى غيره. وأمَّا مفاهيم... الإعطاء والانتقام والتقويَّة: إذا لوحظ فيها القيدان المذكوران فتكون من مصاديق الأصل، وإلَّا فهي من التجوّز بمناسبة مطلق الإعانة بوجهٍ... ثمَّ إنَّ النصرة إذا استُعمل بحرف (على) فيدلُّ على الاستيلاء والغلبة كما في: (وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)(5)، وإذا استُعمِل بحرف (مِن): فيدلُّ على الجانب والجهة، كما في قوله تعالى: (وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا)(6)... وإذا استُعمل مطلقًا وبدون قيدٍ: يدلُّ على مطلق النصرة، كما في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)(7) "(8).
أمَّا النصرة اصطلاحًا؛ فتعني الإعانة والمساندة على تحقيق هدف أو دفع خطر، ويقابلها الخذلان والتخلِّي. وهذه النصرة تتنوَّع بتنوّع الميادين والمواقف؛ فقد تكون بالكلمة والموقف الصَّادق، أو بالمال والسَّند المادي، أو بالفعل والجهاد بالنَّفس، كلٌّ بحسب ما تقتضيه طبيعة القضيَّة وحجم التحدِّي الذي تواجهه؛ فالنصرة مسؤوليَّة تتطلَّب تفاعلًا عمليًّا يتناسب مع حساسيَّة الظَّرف وخطورة المعركة التي يخوضها الحق.
إنَّ أعظم وأبرز مصداقٍ للنصرة هو نصرة أولياء الله (تعالى)، وعلى رأسهم النَّبيُّ الأعظم محمَّد (صلَّى الله عليه وآله)، الذي يُعدُّ أعلى مراتب أولياء الله (سبحانه) وأعظمهم منزلة. وقد أوجب الله (سبحانه) على المؤمنين نصرة نبيه وتعظيم مكانته؛ فقال في كتابه الكريم: (فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(9).
وتأتي كذلك نصرة الله (تعالى) متجسدة أيضًا في نصرة أئمة أهل البيت (عليهم السلام)؛ إذ إنَّ من أبرز علامات وصفات الشيعة الثَّابتة أنَّهم ناصرون صادقون لأهل البيت (عليهم السلام)، يحملون همومهم ويعيشون أفراحهم وأحزانهم بكلِّ إخلاص وتفانٍ؛ وقد بيَّن الإمام علي (عليه السلام) هذه العلاقة العميقة بقوله: "إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى اطَّلَعَ عَلَى الْأَرْضِ فَاخْتَارَنَا، وَاخْتَارَ لَنَا شِيعَةً يَنْصُرُونَنَا، وَيَفْرَحُونَ لِفَرَحِنَا، وَيَحْزَنُونَ لِحُزْنِنَا، وَيَبْذُلُونَ أَمْوَالَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ فِينَا [أُولَئِكَ مِنَّا] وَإِلَيْنَا، وَمَا مِنَ الشِّيعَةِ عَبْدٌ يُقَارِفُ أَمْراً نَهَيْنَاهُ عَنْهُ فَلَا يَمُوتُ حَتَّى يُبْتَلَى بِبَلِيَّةٍ تُمَحَّصُ فِيهَا ذُنُوبُهُ، إِمَّا فِي مَالِهِ، أَوْ وُلْدِهِ، أَوْ فِي نَفْسِهِ حَتَّى يَلْقَى اللهَ وَمَا لَهُ ذَنْبٌ، وَإِنَّهُ لَيَبْقَى عَلَيْهِ الشَّيْءُ مِنْ ذُنُوبِهِ فَيُشَدَّدُ [بِهِ] عَلَيْهِ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَالْمَيِّتُ مِنْ شِيعَتِنَا صِدِّيقٌ شَهِيدٌ صَدَّقَ بِأَمْرِنَا، وَأَحَبَّ فِينَا، وَأَبْغَضَ فِينَا، يُرِيدُ بِذَلِكَ وَجْهَ الله عَزَّ وَجَلَّ، مُؤْمِنٌ بِالله وَرَسُولُهُ، قَالَ اللهُ: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالله وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ)(10)"(11).
ومن بين أولياء الله (سبحانه) وأوصيائه الذين تستوجب نصرتهم، يبرز الإمام الحسين (عليه السلام) في مكانة خاصَّة وعظيمة؛ إذ كان على مدى يوم عاشوراء يكرر ويؤكِّد على طلب النصرة في مواجهة الظلم والطغيان؛ وتذكر الروايات التاريخيَّة التي نقلت بعض أحداث واقعة الطفِّ أنَّه عندما قضى أنصاره واحدًا تلو الآخر، وبقي الإمام (عليه السلام) وحيدًا لا ناصر له ولا معين، رفع صوته بنداء قال فيه: "هَلْ مِنْ ذَابٍّ يَذُبُّ عَنْ حَرَمِ رَسُولِ اللهِ صلَّى الله عليه وآله، هَلْ مِنْ مُوَحِّدٍ يَخَافُ اللهَ فِينَا، هَلْ مِنْ مُغِيثٍ يَرْجُو اللهَ بِإِغَاثَتِنَا، هَلْ مِنْ مُعِينٍ يَرْجُو مَا عِنْدَ اللهِ فِي إِعَانَتِنَا"(12).
2. درجات النَّاصرين.
تختلف النصرة وتتفاوت باختلاف مكانة الولي أو الشَّخص الذي يُناصر؛ ففي بعض الأحيان يكون النَّاصر وليًا من أولياء الله أو حتَّى معصومًا كما حدث مع نصرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهما السلام) للرسول الأعظم محمَّد (صلَّى الله عليه وآله)؛ حيث كانت هذه النصرة تتسم بسمو المقاصد وعلو الهمم، وتتجاوز كلَّ ما هو دنيوي أو مادِّي. وفي أحيان أخرى، يكون الناصر من عامَّة النَّاس، ولكلِّ ناصر مكانته وقربه من الله (سبحانه وتعالى) بحسب حجم الإخلاص والدَّعم الذي يقدِّمه للمنصور؛ فمثلًا، نصرة أمير المؤمنين (عليه السلام) للنبي (صلَّى الله عليه وآله) تختلف جوهريًا عن نصرة النَّاس العاديين؛ فالأوَّل كان دعمه ينبع من عمق الإيمان والولاء الكامل، فيما تكون نصرتنا غالبًا مرتبطة بحسابات الأجر والثَّواب في الآخرة، والفرق شاسع بين أن ننصر النبي (صلَّى الله عليه وآله) حبًا له، وبين أن ننصره بهدف الحصول على الجنَّة أو مكافآت دنيويَّة.
وأوَّل ناصر بعد معركة الطف للإمام الحسين (عليه السلام) هو الإمام زين العابدين (عليه السلام)؛ وإن كان كثير من الخطباء، والكتاب يشيدون بالدَّور الذي نهضت به مولاتنا زينب (عليها السلام)؛ ولا إشكال، ولا ريب في ذلك؛ إلَّا أنَّ المعصوم (عليه السلام) هو الأسبق، وهو الأوَّل؛ وكانت مولاتنا زينب (عليها السلام) تتحرك وفق آلية معيَّنة من الإمام السجاد (عليه السلام)؛ فقد كان الإمام (عليه السلام) يسعى بكلِّ حكمة للحفاظ على الثلَّة الباقية من أهل البيت (عليه السلام)؛ إذ كانت حياتهم محور استمرار النهضة وحفظ الرسالة. وفي الوقت نفسه، كان يحرص على أن يُخرج من تلك المحنة رسالة الإمام الحسين (عليه السلام) المقدَّسة، التي تجسدت في دمائه الزكيَّة التي سالت على أرض كربلاء، لتكون شعلة نور تهدي الأجيال وتبقى نبراسًا للثبات على الحقّ والمقاومة في وجه الظلم والفساد.
نجح الإمام السجاد (عليه السلام) في القيام بأدوار واتِّباع منهجيات متعددة أثبتت نصرتها الحقيقيَّة للقضيَّة الحسينيَّة؛ حيث كانت جهوده المبذولة هي الأساس الذي استندت عليه النهضة الحسينيَّة عبر الأزمان. وما نراه اليوم من تجدد ونشاط في كلِّ ميادين هذه النهضة العظيمة، ما هو إلَّا ثمرة مباشرة لجهود الإمام زين العابدين (عليه السلام) وجهاده المتواصل في سبيل إحياء رسالة أبيه سيِّد الشهداء (عليه السلام).
المحور الثَّاني: وسائل النصر الإلهي غير المألوفة.
قبل أن نتعمق في أسرار البكاء على الإمام الحسين (عليه السلام)، يجب أن نعترف بصراحة أننا لا نستطيع بلوغ الحكمة الكاملة والحقيقيَّة الكامنة وراء هذا البكاء العميق، وما نصل إليه في هذا الباب يظل في حدود الظنون والتأويلات التي لا تصل إلى درجة اليقين القطعي؛ فالله (سبحانه وتعالى)، حين يشاء أن ينصر أوليائه (عليهم السلام) يفعل ذلك بطرق وأشكال تتجاوز أفق العقل البشري، فتكون الوسائل التي يمنحهم بها النَّصر مدهشة، وأحيانًا غير متوقعة ولا تخضع للفهم التَّقليدي. وهذا ينطبق كذلك على نصرة أبي عبدالله الحسين (عليه السلام) بالبكاء؛ إذ لا يمكننا أن نكشف السر الكامل أو الحكمة العميقة وراء هذه الممارسة العظيمة؛ ولتوضيح هذه الفكرة، سأستعرض أمامكم مثالًا كيف ينصر الله (تعالى) أوليائه بطرق مختلفة، بعضها قد يكون مخالفًا لما يتوقعه العقل أو ما تعوَّد عليه النَّاس.
قصة النبي نوح (عليه السلام).
عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: "مكث نوح عليه السلام في قومه يدعوهم [الى الله] سرّاً وعلانيَّة، فلمَّا عتوا، وأبوا قال: (رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ)(13) فأوحى الله تعالى إليه أن اصنع الفلك، وأمره بغرس النَّوى، فمرَّ عليه قومه فجعلوا يضحكون، ويسخرون، ويقولون: قد قعد غراساً حتَّى إذا طال وصار طوالاً قطعه
ونجره، فقالوا قد قعد نجَّاراً، ثمّ ألَّفه فجعله سفينة، فمرُّوا عليه فجعلوا يضحكون، ويسخرون، ويقولون: قد قعد ملَّاحاً في أرض فلاة حتَّى فرغ منها"(14).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "ارتفع الماء زمان نوح عليه السلام على كلِّ جبل، وعلى كلِّ سهل خمسة عشر ذراعاً"(15).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "إنَّ الله تبارك وتعالى أغرق الأرض كلَّها يوم نوح عليه السلام إلَّا البيت، فمن يومئذ سمّي العتيق؛ لأنَّه أعتق من الغرق، فقلت: صعد إلى السَّماء؟
فقال: لم يصل الماء إليه وإنَّما رفع عنه"(16).
ومن خلال هذه النصوص، نرى كيف أنَّ وسائل النصر التي يقدّرها الله (تعالى لأوليائه) قد تبدو غريبة وغير مألوفة للناس، وهو أمر يتكرر في قصص الأنبياء الآخرين، كإبراهيم الخليل، وموسى الكليم، ونبي الله داود، ويوسف (عليهم السلام)؛ حيث تتسم وسائل النَّصر الإلهي في الغالب بالغرابة والتميز عن الأساليب المعتادة، ممَّا يثبت أنَّ النصرة الحقيقيَّة لا تكون إلَّا بتوفيق الله (سبحانه) وبطرق تفوق التصورات البشريَّة.
وكما كان حال نصرة الأنبياء (عليهم السلام)، كذلك نصرة أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) اتخذت أشكالًا متعددة؛ من بينها البكاء؛ الذي كان وما زال وسيلة عظيمة للدفاع عن قضيته وإحياء ذكراه في قلوب الأجيال. ولكن، كما سبق وذكرنا، يبقى السر الحقيقي والغاية العميقة وراء هذا البكاء غير مدرك بالكامل لنا؛ فالبكاء، والزيارة، وإقامة مجالس العزاء، التي قد تبدو للبعض غريبة أو تثير السخريَّة، إلَّا أنَّ من يستهزئ بذلك إنَّما يعبر عن جهل عميق بأساليب النصر الإلهي، خاصَّة حين يتعلَّق الأمر بالله (تعالى) وأوليائه، وتكون الطرق خارجة عن نطاق الفهم التقليدي، وتستلزم قلبًا واعيًا وروحًا موقنة بما وراء الظاهر.
عن معاويةَ بن وَهب قال: "استأذنت على أبي عبدالله عليه السلام فقيل لي: اُدخل، فدخلت فوجدته في مصلَّاه في بيته فجلست حتَّى قضى صلاته فسمعته يناجي رَبَّه وهو يقول: "اللَّهُمَّ يا مَنْ خَصَّنا بالْكَرامَةِ؛ وَوَعَدَنا بالشَّفاعَةِ؛ وَخَصَّنا بالوَصيَّةِ؛ وأعْطانا عِلمَ ما مَضى وعِلْمَ ما بَقيَ؛ وَجَعَلَ أفْئدَةً مِنَ النّاسً تَهْوِي إلَيْنا، اغْفِرْ لي ولإخْواني وَزُوَّارِ قَبر أبي الحسين، الَّذين أنْفَقُوا أمْوالَهُمْ وَأشخَصُوا أبْدانَهم رَغْبَةً في بِرِّنا، وَرَجاءً لِما عِنْدَكَ في صِلَتِنا، وسُروراً أَدْخَلُوهُ عَلى نَبِيِّكَ، وَإجابَةً مِنهُمْ لأمْرِنا، وَغَيظاً دْخَلُوهُ عَلى عَدُوِّنا، أرادُوا بذلِكَ رِضاكَ، فَكافِئْهُمْ عَنّا بالرِّضْوانِ، واكْلأُهُم باللَّيلِ وَالنَّهارِ، واخْلُفْ عَلىُ أهالِيهم وأولادِهِمُ الَّذين خُلّفوا بأحْسَنِ الخَلَفِ وأصحبهم، وَأكْفِهمْ شَرَّ كلِّ جَبَّارٍ عَنيدٍ؛ وَكُلّ ضَعيفٍ مِنْ خَلْقِكَ وَشَديدٍ، وَشَرَّ شَياطِينِ الإنْس وَالجِنِّ، وَأعْطِهِم أفْضَلَ ما أمَّلُوا مِنْكَ في غُرْبَتِهم عَنْ أوْطانِهِم، وَما آثَرُونا بِهِ عَلى أبْنائهم وأهاليهم وقَراباتِهم، اللّهُمَّ إنَّ أعْداءَنا عابُوا عَلَيهم بخُروجهم، فَلم يَنْهِهم ذلِكَ عَنِ الشُّخوصِ إلينا خِلافاً مِنْهم عَلى مَنْ خالَفَنا، فارْحَم تِلْكَ الْوُجُوهَ الَّتي غَيْرتها الشَّمْسُ، وَارْحَم تِلكَ الخدُودَ الَّتي تَتَقَلّبُ علىُ حُفْرَةِ أبي عَبدِاللهِ الحسينِ عليه السلام، وَارْحَم تِلكَ الأعْيُنَ الَّتي جَرَتْ دُمُوعُها رَحمةً لَنا، وارْحَم تِلْكَ الْقُلُوبَ الَّتي جَزَعَتْ واحْتَرقَتْ لَنا، وارْحَم تِلكَ الصَّرْخَةً الَّتي كانَتْ لَنا، اللَّهمَّ إني اسْتَودِعُكَ تلْكَ الأبْدانَ وَتِلكَ الأنفُس حتّى تَرْويهمْ عَلى الحَوضِ يَومَ العَطَشِ الأكبر"(17).
فما زال يدعو عليه السلام وهو ساجدٌ بهذا الدُّعاء، فلمَّا انصرف قلت: جُعِلتُ فِداك لو أنَّ هذا الَّذي سَمعتُ منك كان لِمن لا يَعرفُ اللهَ عزَّوجَلَّ لَظننتُ أنَّ النَّار لا تطعم منه شَيئاً أبداً!! والله لقد تمنَّيتُ أنّي كنتُ زُرْتُه ولم أحُج، فقال لي: ما أقربك منه؛ فما الَّذي يمنعك مِن زيارته؟ ثمَّ قال: يا معاويةُ لم تدع ذلك، قلت: جُعلتُ فِداك لَم أرَ أنَّ الأمر يبلغ هذا كلَّه؟ فقال: يا معاوية [و] مَن يدعو لزُوَّاره في السَّماء أكثر ممَّن يدعو لهم في الأرض"(18).
فنلاحظ أنَّ كثيرًا من النَّاس في ظاهر الأمر كانوا يسخرون من أساليب وطرق النَّصر في القضيَّة الحسينيَّة، وهذا ليس بالأمر الجديد، فقد كان الأمر كذلك مع الأنبياء وأولياء الله (تعالى) في كلِّ عصر. واليوم نواجه من يشكك ويستهزئ بهذه الشعائر العظيمة، ويطلق عليهم أحيانًا لقب المثقفين والعلماء، إلَّا أنَّ جهلهم الحقيقي بأساليب النَّصر الإلهي هو الدافع وراء تلك السخريَّة والتنقيص.
إنَّ السخريَّة والاستهزاء بالشعائر الحسينيَّة ليست إلَّا من ديدن إبليس وأعوانه، فهم يحاربون كلَّ ما يُذكّر بالحقِّ وينشر روح الإيمان والوفاء. وكلُّ من يحاول التشكيك أو التقليل من شأن هذه الشعائر العظيمة، فهو في الحقيقة يسير على دربهم، سواء كان ذلك عن قصد وعلم، أو عن جهل وعدم فهم؛ فهذه الشعائر تمثِّل ركيزة أساسيَّة في حفظ قضيَّة الإمام الحسين (عليه السلام) ورفع راية الحقّ، وهي مصدر قوَّة وارتباط للأُمَّة، ومن يهاجمها فإنَّه يساهم بلا وعي أو بقصد في إشاعة الفساد والظلم الذي كان سببه الأساسي هو انحراف القلوب وتغليب الهوى على الحق؛ فقد روي عن أمیر المؤمنین (عليه السلام): "إِنَّ إِبْلِيسَ لَعَنَهُ اللهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ(19) يَطِيرُ فَرَحاً فَيَجُولُ الْأَرْضَ كُلَّهَا بِشَيَاطِينِهِ، وَعَفَارِيتِهِ فَيَقُولُ يَا مَعَاشِرَ الشَّيَاطِينِ قَدْ أَدْرَكْنَا مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ الطَّلِبَةَ، وَبَلَغْنَا فِي هَلَاكِهِمْ الْغَايَةَ، وَأَوْرَثْنَاهُمُ النَّارَ إِلَّا مَنِ اعْتَصَمَ بِهَذِهِ الْعِصَابَةِ فَاجْعَلُوا شُغُلَكُمْ بِتَشْكِيكِ النَّاسِ فِيهِمْ، وَحَمْلِهِمْ عَلَى عَدَاوَتِهِمْ، وَإِغْرَائِهِم بِهِمْ، وَأَوْلِيَائِهِمْ حَتَّى تَسْتَحْكِمُوا ضَلَالَةَ الْخَلْقِ، وَكُفْرَهُمْ، وَلَا يَنْجُو مِنْهُمْ نَاج"(20).
وخلاصة القول: إننا لا نستطيع أن نبلغ الوجه الكامل للحكمة في الطرق الإلهيَّة وأسرار النصر والدعم الذي يمنحه الله (تعالى) لأوليائه، ولا يُطلب منَّا أن نفهم كلَّ شيء أو نُفسِّر كلَّ تفاصيل تلك الأسرار؛ فهناك قضايا تُختبر فيها قلوبنا، وفي النهاية لا يبقى أمامنا إلَّا التسليم التام لله (تعالى) ولأوليائه المعصومين (عليهم السلام)، فلا يحق لنا أن نتدخل في تأويل ما يفوق إدراكنا أو فلسفة ما لا نفهمه؛ وعدم فهمنا لبعض الشعائر أو الممارسات لا يُنقص من قيمتها ولا من تأثيرها العميق؛ إذ كما كان الحال مع أهل زمان نوح (عليه السلام)، سواء فهموا الحكمة أم لم يفهموها، فإنَّ السفينة قد أُنجزت وأُطلقت، وركب فيها من نجا، وغرق من تخلَّف عنها وخسر دنياه وآخرته. وهكذا هي الأمور في مسيرة النصرة الإلهيَّة؛ فالفهم الكامل ليس شرطًا للنجاة، وإنَّما الإيمان والتسليم والثبات.
بالتأكيد، كثير من الأمور التي تبدو لنا غامضة أو غير مفهومة تحمل في أعماقها أسرارًا وحكمًا إلهيَّة لا نعلمها، تمامًا كما حدث مع النبي موسى (عليه السلام) والخضر (عليه السلام) في قصتهم العظيمة التي بيَّنت لنا أنَّ الحكمة قد تكون خفية وراء الأحداث التي تبدو لنا غير مفهومة. وهذا الدرس ينطبق أيضًا على بعض الشعائر الحسينيَّة، كالبكاء على الإمام الحسين (عليه السلام).
المحور الثَّالث: من ثمار البكاء على سيد الشهداء (عليه السلام).
يمكننا من خلال بعض الروايات الشريفة اكتشاف أنَّ البكاء له فوائد عديدة، مثل التوبة وغسل القلوب من الأدران، والأهم من ذلك كله أنَّه يربطنا مع الشخصيَّة التي نبكي عليها ونتأثر بأخلاقه وسلوكه؛ إلَّا أنَّ القضيَّة أكبر من ذلك؛ وأننا لم نهتدِ إليها بعد؛ لأنَّها يمكن أن تعد من الألطاف الخفيَّة؛ وهذا اللطف الخفي المتمثِّل بالبكاء؛ وما يرتبط به يؤثِّر في الإنسان، ويدفعه للتوفيق؛ ويقرب الإنسان إلى الله (تعالى)؛ وهناك جملة من الروايات تبيِّن هذه الحقائق:
قَالَ الإمامُ الرِّضَا (عليه السلام): "فَعَلَى مِثْلِ الْحُسَيْنِ فَلْيَبْكِ الْبَاكُونَ فَإِنَّ الْبُكَاءَ يَحُطُّ الذُّنُوبَ الْعِظَامَ ثُمَّ قَالَ عليه السلام كَانَ أَبِي عليه السلام إِذَا دَخَلَ شَهْرُ الْمُحَرَّمِ لَا يُرَى ضَاحِكاً وَكَانَتِ الْكِئَابَةُ تَغْلِبُ عَلَيْهِ حَتَّى يَمْضِيَ مِنْهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْعَاشِرِ كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ مُصِيبَتِهِ وَحُزْنِهِ وَبُكَائِهِ وَيَقُولُ: هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي قُتِلَ فِيهِ الْحُسَيْنُ عليه السلام"(21).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام): "إِنَّ الْبُكَاءَ وَالْجَزَعَ مَكْرُوهٌ لِلْعَبْدِ فِي كُلِّ مَا جَزِعَ مَا خَلَا الْبُكَاءَ عَلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عليه السلام فَإِنَّهُ فِيهِ مَأْجُورٌ"(22).
إذًا، البكاء واحد من الأسباب والطرق الأساسيَّة لنصر القضيَّة الحسينيَّة؛ بالإضافة إلى ذلك أنَّه يمثِّل لطفًا خفيًا يغيِّر الكثير من معادلات الإنسان، وكلّ ما نقوله حول تحليل عمليَّة البكاء بالنسبة للإمام السجاد (عليه السلام) على أبيه الحسين (عليه السلام) إنَّما هو تحليل وظن منَّا؛ وإلَّا فالقضيَّة أعظم ممَّا نتصوَّر.
لقد كان على الإمام السجاد (عليه السلام) أمام تلك الانحرافات العظيمة في الأمَّة، وقتل ريحانة الرسول الأعظم (صلَّى الله عليه وآله)، وشيوع الجو الاِعلامي المضلل، والذي تكتم على أعظم ثائر وثورة أرادت أن تعيد الحقَّ إلى نصابه، وتستنهض الضمائر الميِّتة، أن ينتهج أحد خيارين:
الأوَّل: هو المواجهة العلنيَّة الصريحة، والتنديد المباشر بإجراءات السلطة الحاكمة وفضحها؛ أي إقدامه (عليه السلام) على عمليَّة استشهاديَّة اُخرىٰ تلحقه بأبيه وإخوته (عليهم السلام)... وبالتَّالي إنهاء الدور الرسالي المهم الذي يسعىٰ الإمام السجاد (عليه السلام) إلىٰ تحقيقه من خلال كشف تلك الغيوم وتبديدها.
الثَّاني: هو الصبر علىٰ ذلك الظلم، مع عمل حثيث يراد منه إعادة الأُمَّة المضللة إلىٰ وعيها، وذلك من خلال اختيار طريق البكاء أوَّلاً، ثمَّ طريق نشر العلم؛ ثمَّ طريق الدعاء، ومن خلال هذه الطرق؛ وخاصة طريق البكاء؛ إذ كان يبكي عليه بكاءً مريرًا لا ينقطع حتَّى اختلطت دموعه بطعامه وشرابه. ولم يكن هذا البكاء مقتصرًا على لحظات خاصَّة أو أماكن معيَّنة؛ بل كان يبكي الإمام الحسين (عليه السلام) سرًّا وعلانية، ليلًا ونهارًا، في البيت، وفي الطريق، وفي الأسواق، وفي كلِّ زمان ومكان، معبرًا بذلك عن ألم الفقد العظيم، ونقله لوجدان الأُمَّة، ومؤكدًا على استمرار الحزن والوفاء لقضيَّة كربلاء الخالدة؛ "ولقد بكى على أبِيهِ الحُسَين عليه السلام عِشرينَ سَنةٍ، ومَا وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ طَعَامٌ إلَّا بكى حتَّى قالَ لَهُ مَوْلًى لَهُ: يا ابْنَ رَسُولِ اللهِ أَمَا آنَ لِحُزْنِكَ أَنْ يَنْقَضي؟! فقالَ لَهُ:" وَيْحَكَ إِنَّ يَعْقُوبَ النَّبِيَّ عليه السلام كَانَ لَهُ اثْنَا عَشَرَ ابْناً فَغَيَّبَ اللهُ عَنْهُ وَاحِداً مِنْهُمْ فَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنْ كَثْرَةِ بُكَائِهِ عَلَيْهِ وَشَابَ رَأْسُهُ مِنَ الْحُزْنِ وَاحْدَوْدَبَ ظَهْرُهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَانَ ابْنُهُ حَيّاً فِي الدُّنْيَا وَأَنَا نَظَرْتُ إِلَى أَبِي وَأَخِي وَعَمِّي وَسَبْعَةَ عَشَرَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي مَقْتُولِينَ حَوْلِي فَكَيْفَ يَنْقَضِي حُزْنِي؟"(23).
والسؤال المهم: لماذا كلُّ هذا العكوف الطويل على البكاء؟
الجواب على ذلك: الظاهر إنَّ الإمام السجاد (عليه السلام) أراد من هذا البكاء الطويل مجموعة من القضايا؛ منها:
1. روحانيَّة تعمُّ الكون وترابط أبدي مع قضيَّة الإمام الحسين (عليه السلام).
استطاع الإمام السجاد (عليه السلام)، من خلال بكائه العميق والمخلص أن يغرس روحانيَّة الحزن في أرجاء العالم كلِّه؛ بحيث تحوَّلت دموعه إلى صدى يمتد ويصل إلى قلوب النَّاس في كلِّ مكان وزمان؛ وقد شكَّل هذا الحزن الذي عبر عنه الإمام بترددات موجعة تخللت كلَّ مكونات الوجود، وأدخلت الحزن والأسى على النفوس التي تأثرت بصدق مشاعره اتِّجاه المصيبة العظيمة التي لا مثيل لها في التاريخ الإنساني. وهذا التأثير الروحي هو واقع قرآني مؤكد، فقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في آيات عدَّة، حين تحدث عن حالة النبي داود (عليه السلام)، وكيف كان تأثير حزنه وتأملاته يشمل كلَّ الوجود، ممَّا يعكس عظمة ارتباط الإنسان العابد بربِّه وتأثير ذلك في الكون من حوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ)(24)، وقال (تعالى): "وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ. إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ. وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ)(25). فالقرآن الكريم يعبر بجلاء عن هذه الحقيقة العميقة، ويصف النبي داود (عليه السلام) وهو يخرج في خلواته يبتَهِل إلى الله (سبحانه وتعالى)، ويتوجه بالدعاء بخشية وشوقٍ عميقين، فتسيل دموعه من خشية الرحمن وحبه له. ويستمر في البكاء والدموع متوسلًا ومناجيًا، حتَّى إنّ الأرض والجبال والطير نفسها تشارك في هذا الحزن والتضرع، كأنَّ الكون بأسره يتجاوب مع حالته، ويتفاعل مع تلك المشاعر الخاشعة الصادقة التي تنبع من أعماق قلب النبي (عليه السلام).
لقد كان العالم بأسره من حول النبي داود (عليه السلام) يتفاعل ويتجاوب مع تلك الحالة الحزينة التي كان يبثها، فبكائه وندائه المليئان بالخشوع والخضوع كانت طاقة روحية انتشرت في كل أرجاء الوجود؛ فالجبال والطيور نفسها تأثَّرت بحزنه ونوحه، وهذا المشهد القرآني يشبه ما فعله الإمام السجاد (عليه السلام)، ورفض ذلك يعني إنكار حقيقة قرآنيَّة ثابتة.
في بكاء الإمام السجاد، يتجلَّى التشيّع في أسمى معانيه: ولاء لا يُباع، ووفاء لا يتزعزع، ورفضٌ لا يلين. إنَّها دموع اختزلت في حرارتها فواجع النبوة، وخيانات الأمَّة، وتزوير المقدسات، لتكون دستورًا دائمًا لمن أراد أن يؤمن علويًا، ويعيش حسينيًا؛ فليست تلك الدموع إلَّا بيعةً متجددة في كلِّ عصر...
حين تنحبس الأصوات وتُكبت الكلمات، يتكفَّل الدمع بأن يقول ما عجز عنه اللسان. وهكذا كان بكاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) موقفًا واعيًا، ومشروعًا ممتدًا، وخطابًا غير منطوق يهزُّ أعماق الوجدان الإنساني. لقد ظنَّ بعضهم أنَّ دموع السجاد (عليه السلام) كانت مجرَّد تعبير عن لوعة ابن فقد أباه؛ لكن الحقيقة أعمق بكثير، وأوسع من أن تُختزل في علاقة القرابة.
بكى الإمام (عليه السلام)؛ لأنَّه أبصر بأمّ عينيه سقوط القيم واندثار الرِّسالة، واختطاف الدِّين على يد المتلاعبين به، حتَّى صار الحقُّ غريبًا، والباطل عزيزًا. كان بكاؤه احتجاجًا بصيغة الألم؛ لكنَّه شديد اللهجة في مضمونه الثوري، يفضح بصمته كلَّ انحراف، ويرفع بمأساويته لواء الرَّفض، ويوقظ أمَّة كانت تترنَّح بين الغفلة والتواطؤ.
ماذا أراد الإمام السَّجاد (عليه السلام) من بكائه؟
وما الرِّسالة التي حملتها دموعه للأجيال؟
وكيف تحوَّلت تلك الدموع إلى صوت دائم يتحدَّى الزَّمن، ويعيد للأُمَّة بوصلتها التي أضاعتها في صحراء كربلاء؟
إنَّها قراءة جديدة في دموع ما تزال تكتب الوعي، وتزرع فينا روح الثَّورة.
المحور الأوَّل: بيان مفهوم النصرة
من المسلَّمات العقائديَّة والبديهيَّات التي لا يختلف عليها عاقل أنَّ الله (سبحانه وتعالى)، بكونه الخالق المطلق والمهيمن على كلِّ شيء، منزَّهٌ عن الحاجة إلى نصرة أحد من خلقه؛ وقد عبَّر (سبحانه)عن هذه الحقيقة في كتابه العزيز بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى الله وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)(1)؛ فهو الغنيُّ المطلق، ونحن الفقراء إليه في كلِّ شأن من شؤون حياتنا ومصيرنا. ومن هنا، فإنَّ مفهوم "نصرة الله" لا يعني دعمه لاحتياجه؛ بل تعني انخراط الإنسان في مشروع الحقِّ الإلهي، ونصرة أوليائه (تعالى)، الذين اختارهم لإقامة دينه وتبليغ رسالاته؛ فهم أنوار الهداية ومصابيح الدجى، ونصرتهم في الحقيقة نصرة لمشروع الله (سبحانه) في العالمين.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى في قصَّة نبيِّ الله عيسى (عليه السلام)، حينما واجه الكفر والجحود، فاستنصر بالمؤمنين قائلًا: (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى الله قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ الله آمَنَّا بِالله وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)(2)؛ فهنا تتجلَّى الحاجة إلى الأنصار في معركة الحقِّ ضد الباطل، لا لنُصرة الله (تعالى)؛ وإنَّما لإقامة كلمته وتجسيد دينه في واقع النَّاس. وانطلاقًا من هذا الفهم، نسعى في هذا المقال إلى استكشاف كيفيَّة نصرة الإمام الحسين (عليه السلام)، من خلال تتبُّع بعض مواقف وسيرة الإمام السجَّاد (عليه السلام)، بوصفه الوريث الرسالي الذي حمل راية النَّهضة بعد كربلاء، وأكمل مشروعها في ميادين الكلمة والصَّبر والتربيَّة.
1. النصرة لغة واصطلاحًا:
النصرة لغةً: "النُّونُ وَالصَّادُ وَالرَّاءُ أَصْلٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى إِتْيَانِ خَيْرٍ وَإِيتَائِهِ. وَنَصَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ: آتَاهُمُ الظَّفَرَ عَلَى عَدُوِّهِمْ، يَنْصُرُهُمْ نَصْرًا. وَانْتَصَرَ: انْتَقَمَ، وَهُوَ مِنْهُ... وَالنَّصْرُ: الْعَطَاءُ"(3). و"نَصَرْتُهُ عَلَى عَدُوِّهِ وَنَصَرْتُهُ مِنْهُ نَصْرًا أَعَنْتُهُ وَقَوَّيْتُهُ وَالْفَاعِلُ نَاصِرٌ وَنَصِيرٌ وَجَمْعُهُ أَنْصَارٌ. والنُصرة بالضمِّ اسم منه. وتناصرَ القومُ: نصر بعضُهم بعضًا. وانتصرت من زيد: انتقمت منه. واستنصرته: طلبت نصرته"(4).
و"الأصل الواحد في المادَّة: هو إعانة في قبال مخالف، كما أنَّ الإعانة تقويًّة شيءٍ في نفسه؛ ومن دون نظرٍ إلى غيره. وأمَّا مفاهيم... الإعطاء والانتقام والتقويَّة: إذا لوحظ فيها القيدان المذكوران فتكون من مصاديق الأصل، وإلَّا فهي من التجوّز بمناسبة مطلق الإعانة بوجهٍ... ثمَّ إنَّ النصرة إذا استُعمل بحرف (على) فيدلُّ على الاستيلاء والغلبة كما في: (وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)(5)، وإذا استُعمِل بحرف (مِن): فيدلُّ على الجانب والجهة، كما في قوله تعالى: (وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا)(6)... وإذا استُعمل مطلقًا وبدون قيدٍ: يدلُّ على مطلق النصرة، كما في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)(7) "(8).
أمَّا النصرة اصطلاحًا؛ فتعني الإعانة والمساندة على تحقيق هدف أو دفع خطر، ويقابلها الخذلان والتخلِّي. وهذه النصرة تتنوَّع بتنوّع الميادين والمواقف؛ فقد تكون بالكلمة والموقف الصَّادق، أو بالمال والسَّند المادي، أو بالفعل والجهاد بالنَّفس، كلٌّ بحسب ما تقتضيه طبيعة القضيَّة وحجم التحدِّي الذي تواجهه؛ فالنصرة مسؤوليَّة تتطلَّب تفاعلًا عمليًّا يتناسب مع حساسيَّة الظَّرف وخطورة المعركة التي يخوضها الحق.
إنَّ أعظم وأبرز مصداقٍ للنصرة هو نصرة أولياء الله (تعالى)، وعلى رأسهم النَّبيُّ الأعظم محمَّد (صلَّى الله عليه وآله)، الذي يُعدُّ أعلى مراتب أولياء الله (سبحانه) وأعظمهم منزلة. وقد أوجب الله (سبحانه) على المؤمنين نصرة نبيه وتعظيم مكانته؛ فقال في كتابه الكريم: (فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(9).
وتأتي كذلك نصرة الله (تعالى) متجسدة أيضًا في نصرة أئمة أهل البيت (عليهم السلام)؛ إذ إنَّ من أبرز علامات وصفات الشيعة الثَّابتة أنَّهم ناصرون صادقون لأهل البيت (عليهم السلام)، يحملون همومهم ويعيشون أفراحهم وأحزانهم بكلِّ إخلاص وتفانٍ؛ وقد بيَّن الإمام علي (عليه السلام) هذه العلاقة العميقة بقوله: "إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى اطَّلَعَ عَلَى الْأَرْضِ فَاخْتَارَنَا، وَاخْتَارَ لَنَا شِيعَةً يَنْصُرُونَنَا، وَيَفْرَحُونَ لِفَرَحِنَا، وَيَحْزَنُونَ لِحُزْنِنَا، وَيَبْذُلُونَ أَمْوَالَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ فِينَا [أُولَئِكَ مِنَّا] وَإِلَيْنَا، وَمَا مِنَ الشِّيعَةِ عَبْدٌ يُقَارِفُ أَمْراً نَهَيْنَاهُ عَنْهُ فَلَا يَمُوتُ حَتَّى يُبْتَلَى بِبَلِيَّةٍ تُمَحَّصُ فِيهَا ذُنُوبُهُ، إِمَّا فِي مَالِهِ، أَوْ وُلْدِهِ، أَوْ فِي نَفْسِهِ حَتَّى يَلْقَى اللهَ وَمَا لَهُ ذَنْبٌ، وَإِنَّهُ لَيَبْقَى عَلَيْهِ الشَّيْءُ مِنْ ذُنُوبِهِ فَيُشَدَّدُ [بِهِ] عَلَيْهِ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَالْمَيِّتُ مِنْ شِيعَتِنَا صِدِّيقٌ شَهِيدٌ صَدَّقَ بِأَمْرِنَا، وَأَحَبَّ فِينَا، وَأَبْغَضَ فِينَا، يُرِيدُ بِذَلِكَ وَجْهَ الله عَزَّ وَجَلَّ، مُؤْمِنٌ بِالله وَرَسُولُهُ، قَالَ اللهُ: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالله وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ)(10)"(11).
ومن بين أولياء الله (سبحانه) وأوصيائه الذين تستوجب نصرتهم، يبرز الإمام الحسين (عليه السلام) في مكانة خاصَّة وعظيمة؛ إذ كان على مدى يوم عاشوراء يكرر ويؤكِّد على طلب النصرة في مواجهة الظلم والطغيان؛ وتذكر الروايات التاريخيَّة التي نقلت بعض أحداث واقعة الطفِّ أنَّه عندما قضى أنصاره واحدًا تلو الآخر، وبقي الإمام (عليه السلام) وحيدًا لا ناصر له ولا معين، رفع صوته بنداء قال فيه: "هَلْ مِنْ ذَابٍّ يَذُبُّ عَنْ حَرَمِ رَسُولِ اللهِ صلَّى الله عليه وآله، هَلْ مِنْ مُوَحِّدٍ يَخَافُ اللهَ فِينَا، هَلْ مِنْ مُغِيثٍ يَرْجُو اللهَ بِإِغَاثَتِنَا، هَلْ مِنْ مُعِينٍ يَرْجُو مَا عِنْدَ اللهِ فِي إِعَانَتِنَا"(12).
2. درجات النَّاصرين.
تختلف النصرة وتتفاوت باختلاف مكانة الولي أو الشَّخص الذي يُناصر؛ ففي بعض الأحيان يكون النَّاصر وليًا من أولياء الله أو حتَّى معصومًا كما حدث مع نصرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهما السلام) للرسول الأعظم محمَّد (صلَّى الله عليه وآله)؛ حيث كانت هذه النصرة تتسم بسمو المقاصد وعلو الهمم، وتتجاوز كلَّ ما هو دنيوي أو مادِّي. وفي أحيان أخرى، يكون الناصر من عامَّة النَّاس، ولكلِّ ناصر مكانته وقربه من الله (سبحانه وتعالى) بحسب حجم الإخلاص والدَّعم الذي يقدِّمه للمنصور؛ فمثلًا، نصرة أمير المؤمنين (عليه السلام) للنبي (صلَّى الله عليه وآله) تختلف جوهريًا عن نصرة النَّاس العاديين؛ فالأوَّل كان دعمه ينبع من عمق الإيمان والولاء الكامل، فيما تكون نصرتنا غالبًا مرتبطة بحسابات الأجر والثَّواب في الآخرة، والفرق شاسع بين أن ننصر النبي (صلَّى الله عليه وآله) حبًا له، وبين أن ننصره بهدف الحصول على الجنَّة أو مكافآت دنيويَّة.
وأوَّل ناصر بعد معركة الطف للإمام الحسين (عليه السلام) هو الإمام زين العابدين (عليه السلام)؛ وإن كان كثير من الخطباء، والكتاب يشيدون بالدَّور الذي نهضت به مولاتنا زينب (عليها السلام)؛ ولا إشكال، ولا ريب في ذلك؛ إلَّا أنَّ المعصوم (عليه السلام) هو الأسبق، وهو الأوَّل؛ وكانت مولاتنا زينب (عليها السلام) تتحرك وفق آلية معيَّنة من الإمام السجاد (عليه السلام)؛ فقد كان الإمام (عليه السلام) يسعى بكلِّ حكمة للحفاظ على الثلَّة الباقية من أهل البيت (عليه السلام)؛ إذ كانت حياتهم محور استمرار النهضة وحفظ الرسالة. وفي الوقت نفسه، كان يحرص على أن يُخرج من تلك المحنة رسالة الإمام الحسين (عليه السلام) المقدَّسة، التي تجسدت في دمائه الزكيَّة التي سالت على أرض كربلاء، لتكون شعلة نور تهدي الأجيال وتبقى نبراسًا للثبات على الحقّ والمقاومة في وجه الظلم والفساد.
نجح الإمام السجاد (عليه السلام) في القيام بأدوار واتِّباع منهجيات متعددة أثبتت نصرتها الحقيقيَّة للقضيَّة الحسينيَّة؛ حيث كانت جهوده المبذولة هي الأساس الذي استندت عليه النهضة الحسينيَّة عبر الأزمان. وما نراه اليوم من تجدد ونشاط في كلِّ ميادين هذه النهضة العظيمة، ما هو إلَّا ثمرة مباشرة لجهود الإمام زين العابدين (عليه السلام) وجهاده المتواصل في سبيل إحياء رسالة أبيه سيِّد الشهداء (عليه السلام).
المحور الثَّاني: وسائل النصر الإلهي غير المألوفة.
قبل أن نتعمق في أسرار البكاء على الإمام الحسين (عليه السلام)، يجب أن نعترف بصراحة أننا لا نستطيع بلوغ الحكمة الكاملة والحقيقيَّة الكامنة وراء هذا البكاء العميق، وما نصل إليه في هذا الباب يظل في حدود الظنون والتأويلات التي لا تصل إلى درجة اليقين القطعي؛ فالله (سبحانه وتعالى)، حين يشاء أن ينصر أوليائه (عليهم السلام) يفعل ذلك بطرق وأشكال تتجاوز أفق العقل البشري، فتكون الوسائل التي يمنحهم بها النَّصر مدهشة، وأحيانًا غير متوقعة ولا تخضع للفهم التَّقليدي. وهذا ينطبق كذلك على نصرة أبي عبدالله الحسين (عليه السلام) بالبكاء؛ إذ لا يمكننا أن نكشف السر الكامل أو الحكمة العميقة وراء هذه الممارسة العظيمة؛ ولتوضيح هذه الفكرة، سأستعرض أمامكم مثالًا كيف ينصر الله (تعالى) أوليائه بطرق مختلفة، بعضها قد يكون مخالفًا لما يتوقعه العقل أو ما تعوَّد عليه النَّاس.
قصة النبي نوح (عليه السلام).
عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: "مكث نوح عليه السلام في قومه يدعوهم [الى الله] سرّاً وعلانيَّة، فلمَّا عتوا، وأبوا قال: (رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ)(13) فأوحى الله تعالى إليه أن اصنع الفلك، وأمره بغرس النَّوى، فمرَّ عليه قومه فجعلوا يضحكون، ويسخرون، ويقولون: قد قعد غراساً حتَّى إذا طال وصار طوالاً قطعه
ونجره، فقالوا قد قعد نجَّاراً، ثمّ ألَّفه فجعله سفينة، فمرُّوا عليه فجعلوا يضحكون، ويسخرون، ويقولون: قد قعد ملَّاحاً في أرض فلاة حتَّى فرغ منها"(14).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "ارتفع الماء زمان نوح عليه السلام على كلِّ جبل، وعلى كلِّ سهل خمسة عشر ذراعاً"(15).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "إنَّ الله تبارك وتعالى أغرق الأرض كلَّها يوم نوح عليه السلام إلَّا البيت، فمن يومئذ سمّي العتيق؛ لأنَّه أعتق من الغرق، فقلت: صعد إلى السَّماء؟
فقال: لم يصل الماء إليه وإنَّما رفع عنه"(16).
ومن خلال هذه النصوص، نرى كيف أنَّ وسائل النصر التي يقدّرها الله (تعالى لأوليائه) قد تبدو غريبة وغير مألوفة للناس، وهو أمر يتكرر في قصص الأنبياء الآخرين، كإبراهيم الخليل، وموسى الكليم، ونبي الله داود، ويوسف (عليهم السلام)؛ حيث تتسم وسائل النَّصر الإلهي في الغالب بالغرابة والتميز عن الأساليب المعتادة، ممَّا يثبت أنَّ النصرة الحقيقيَّة لا تكون إلَّا بتوفيق الله (سبحانه) وبطرق تفوق التصورات البشريَّة.
وكما كان حال نصرة الأنبياء (عليهم السلام)، كذلك نصرة أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) اتخذت أشكالًا متعددة؛ من بينها البكاء؛ الذي كان وما زال وسيلة عظيمة للدفاع عن قضيته وإحياء ذكراه في قلوب الأجيال. ولكن، كما سبق وذكرنا، يبقى السر الحقيقي والغاية العميقة وراء هذا البكاء غير مدرك بالكامل لنا؛ فالبكاء، والزيارة، وإقامة مجالس العزاء، التي قد تبدو للبعض غريبة أو تثير السخريَّة، إلَّا أنَّ من يستهزئ بذلك إنَّما يعبر عن جهل عميق بأساليب النصر الإلهي، خاصَّة حين يتعلَّق الأمر بالله (تعالى) وأوليائه، وتكون الطرق خارجة عن نطاق الفهم التقليدي، وتستلزم قلبًا واعيًا وروحًا موقنة بما وراء الظاهر.
عن معاويةَ بن وَهب قال: "استأذنت على أبي عبدالله عليه السلام فقيل لي: اُدخل، فدخلت فوجدته في مصلَّاه في بيته فجلست حتَّى قضى صلاته فسمعته يناجي رَبَّه وهو يقول: "اللَّهُمَّ يا مَنْ خَصَّنا بالْكَرامَةِ؛ وَوَعَدَنا بالشَّفاعَةِ؛ وَخَصَّنا بالوَصيَّةِ؛ وأعْطانا عِلمَ ما مَضى وعِلْمَ ما بَقيَ؛ وَجَعَلَ أفْئدَةً مِنَ النّاسً تَهْوِي إلَيْنا، اغْفِرْ لي ولإخْواني وَزُوَّارِ قَبر أبي الحسين، الَّذين أنْفَقُوا أمْوالَهُمْ وَأشخَصُوا أبْدانَهم رَغْبَةً في بِرِّنا، وَرَجاءً لِما عِنْدَكَ في صِلَتِنا، وسُروراً أَدْخَلُوهُ عَلى نَبِيِّكَ، وَإجابَةً مِنهُمْ لأمْرِنا، وَغَيظاً دْخَلُوهُ عَلى عَدُوِّنا، أرادُوا بذلِكَ رِضاكَ، فَكافِئْهُمْ عَنّا بالرِّضْوانِ، واكْلأُهُم باللَّيلِ وَالنَّهارِ، واخْلُفْ عَلىُ أهالِيهم وأولادِهِمُ الَّذين خُلّفوا بأحْسَنِ الخَلَفِ وأصحبهم، وَأكْفِهمْ شَرَّ كلِّ جَبَّارٍ عَنيدٍ؛ وَكُلّ ضَعيفٍ مِنْ خَلْقِكَ وَشَديدٍ، وَشَرَّ شَياطِينِ الإنْس وَالجِنِّ، وَأعْطِهِم أفْضَلَ ما أمَّلُوا مِنْكَ في غُرْبَتِهم عَنْ أوْطانِهِم، وَما آثَرُونا بِهِ عَلى أبْنائهم وأهاليهم وقَراباتِهم، اللّهُمَّ إنَّ أعْداءَنا عابُوا عَلَيهم بخُروجهم، فَلم يَنْهِهم ذلِكَ عَنِ الشُّخوصِ إلينا خِلافاً مِنْهم عَلى مَنْ خالَفَنا، فارْحَم تِلْكَ الْوُجُوهَ الَّتي غَيْرتها الشَّمْسُ، وَارْحَم تِلكَ الخدُودَ الَّتي تَتَقَلّبُ علىُ حُفْرَةِ أبي عَبدِاللهِ الحسينِ عليه السلام، وَارْحَم تِلكَ الأعْيُنَ الَّتي جَرَتْ دُمُوعُها رَحمةً لَنا، وارْحَم تِلْكَ الْقُلُوبَ الَّتي جَزَعَتْ واحْتَرقَتْ لَنا، وارْحَم تِلكَ الصَّرْخَةً الَّتي كانَتْ لَنا، اللَّهمَّ إني اسْتَودِعُكَ تلْكَ الأبْدانَ وَتِلكَ الأنفُس حتّى تَرْويهمْ عَلى الحَوضِ يَومَ العَطَشِ الأكبر"(17).
فما زال يدعو عليه السلام وهو ساجدٌ بهذا الدُّعاء، فلمَّا انصرف قلت: جُعِلتُ فِداك لو أنَّ هذا الَّذي سَمعتُ منك كان لِمن لا يَعرفُ اللهَ عزَّوجَلَّ لَظننتُ أنَّ النَّار لا تطعم منه شَيئاً أبداً!! والله لقد تمنَّيتُ أنّي كنتُ زُرْتُه ولم أحُج، فقال لي: ما أقربك منه؛ فما الَّذي يمنعك مِن زيارته؟ ثمَّ قال: يا معاويةُ لم تدع ذلك، قلت: جُعلتُ فِداك لَم أرَ أنَّ الأمر يبلغ هذا كلَّه؟ فقال: يا معاوية [و] مَن يدعو لزُوَّاره في السَّماء أكثر ممَّن يدعو لهم في الأرض"(18).
فنلاحظ أنَّ كثيرًا من النَّاس في ظاهر الأمر كانوا يسخرون من أساليب وطرق النَّصر في القضيَّة الحسينيَّة، وهذا ليس بالأمر الجديد، فقد كان الأمر كذلك مع الأنبياء وأولياء الله (تعالى) في كلِّ عصر. واليوم نواجه من يشكك ويستهزئ بهذه الشعائر العظيمة، ويطلق عليهم أحيانًا لقب المثقفين والعلماء، إلَّا أنَّ جهلهم الحقيقي بأساليب النَّصر الإلهي هو الدافع وراء تلك السخريَّة والتنقيص.
إنَّ السخريَّة والاستهزاء بالشعائر الحسينيَّة ليست إلَّا من ديدن إبليس وأعوانه، فهم يحاربون كلَّ ما يُذكّر بالحقِّ وينشر روح الإيمان والوفاء. وكلُّ من يحاول التشكيك أو التقليل من شأن هذه الشعائر العظيمة، فهو في الحقيقة يسير على دربهم، سواء كان ذلك عن قصد وعلم، أو عن جهل وعدم فهم؛ فهذه الشعائر تمثِّل ركيزة أساسيَّة في حفظ قضيَّة الإمام الحسين (عليه السلام) ورفع راية الحقّ، وهي مصدر قوَّة وارتباط للأُمَّة، ومن يهاجمها فإنَّه يساهم بلا وعي أو بقصد في إشاعة الفساد والظلم الذي كان سببه الأساسي هو انحراف القلوب وتغليب الهوى على الحق؛ فقد روي عن أمیر المؤمنین (عليه السلام): "إِنَّ إِبْلِيسَ لَعَنَهُ اللهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ(19) يَطِيرُ فَرَحاً فَيَجُولُ الْأَرْضَ كُلَّهَا بِشَيَاطِينِهِ، وَعَفَارِيتِهِ فَيَقُولُ يَا مَعَاشِرَ الشَّيَاطِينِ قَدْ أَدْرَكْنَا مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ الطَّلِبَةَ، وَبَلَغْنَا فِي هَلَاكِهِمْ الْغَايَةَ، وَأَوْرَثْنَاهُمُ النَّارَ إِلَّا مَنِ اعْتَصَمَ بِهَذِهِ الْعِصَابَةِ فَاجْعَلُوا شُغُلَكُمْ بِتَشْكِيكِ النَّاسِ فِيهِمْ، وَحَمْلِهِمْ عَلَى عَدَاوَتِهِمْ، وَإِغْرَائِهِم بِهِمْ، وَأَوْلِيَائِهِمْ حَتَّى تَسْتَحْكِمُوا ضَلَالَةَ الْخَلْقِ، وَكُفْرَهُمْ، وَلَا يَنْجُو مِنْهُمْ نَاج"(20).
وخلاصة القول: إننا لا نستطيع أن نبلغ الوجه الكامل للحكمة في الطرق الإلهيَّة وأسرار النصر والدعم الذي يمنحه الله (تعالى) لأوليائه، ولا يُطلب منَّا أن نفهم كلَّ شيء أو نُفسِّر كلَّ تفاصيل تلك الأسرار؛ فهناك قضايا تُختبر فيها قلوبنا، وفي النهاية لا يبقى أمامنا إلَّا التسليم التام لله (تعالى) ولأوليائه المعصومين (عليهم السلام)، فلا يحق لنا أن نتدخل في تأويل ما يفوق إدراكنا أو فلسفة ما لا نفهمه؛ وعدم فهمنا لبعض الشعائر أو الممارسات لا يُنقص من قيمتها ولا من تأثيرها العميق؛ إذ كما كان الحال مع أهل زمان نوح (عليه السلام)، سواء فهموا الحكمة أم لم يفهموها، فإنَّ السفينة قد أُنجزت وأُطلقت، وركب فيها من نجا، وغرق من تخلَّف عنها وخسر دنياه وآخرته. وهكذا هي الأمور في مسيرة النصرة الإلهيَّة؛ فالفهم الكامل ليس شرطًا للنجاة، وإنَّما الإيمان والتسليم والثبات.
بالتأكيد، كثير من الأمور التي تبدو لنا غامضة أو غير مفهومة تحمل في أعماقها أسرارًا وحكمًا إلهيَّة لا نعلمها، تمامًا كما حدث مع النبي موسى (عليه السلام) والخضر (عليه السلام) في قصتهم العظيمة التي بيَّنت لنا أنَّ الحكمة قد تكون خفية وراء الأحداث التي تبدو لنا غير مفهومة. وهذا الدرس ينطبق أيضًا على بعض الشعائر الحسينيَّة، كالبكاء على الإمام الحسين (عليه السلام).
المحور الثَّالث: من ثمار البكاء على سيد الشهداء (عليه السلام).
يمكننا من خلال بعض الروايات الشريفة اكتشاف أنَّ البكاء له فوائد عديدة، مثل التوبة وغسل القلوب من الأدران، والأهم من ذلك كله أنَّه يربطنا مع الشخصيَّة التي نبكي عليها ونتأثر بأخلاقه وسلوكه؛ إلَّا أنَّ القضيَّة أكبر من ذلك؛ وأننا لم نهتدِ إليها بعد؛ لأنَّها يمكن أن تعد من الألطاف الخفيَّة؛ وهذا اللطف الخفي المتمثِّل بالبكاء؛ وما يرتبط به يؤثِّر في الإنسان، ويدفعه للتوفيق؛ ويقرب الإنسان إلى الله (تعالى)؛ وهناك جملة من الروايات تبيِّن هذه الحقائق:
قَالَ الإمامُ الرِّضَا (عليه السلام): "فَعَلَى مِثْلِ الْحُسَيْنِ فَلْيَبْكِ الْبَاكُونَ فَإِنَّ الْبُكَاءَ يَحُطُّ الذُّنُوبَ الْعِظَامَ ثُمَّ قَالَ عليه السلام كَانَ أَبِي عليه السلام إِذَا دَخَلَ شَهْرُ الْمُحَرَّمِ لَا يُرَى ضَاحِكاً وَكَانَتِ الْكِئَابَةُ تَغْلِبُ عَلَيْهِ حَتَّى يَمْضِيَ مِنْهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْعَاشِرِ كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ مُصِيبَتِهِ وَحُزْنِهِ وَبُكَائِهِ وَيَقُولُ: هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي قُتِلَ فِيهِ الْحُسَيْنُ عليه السلام"(21).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام): "إِنَّ الْبُكَاءَ وَالْجَزَعَ مَكْرُوهٌ لِلْعَبْدِ فِي كُلِّ مَا جَزِعَ مَا خَلَا الْبُكَاءَ عَلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عليه السلام فَإِنَّهُ فِيهِ مَأْجُورٌ"(22).
إذًا، البكاء واحد من الأسباب والطرق الأساسيَّة لنصر القضيَّة الحسينيَّة؛ بالإضافة إلى ذلك أنَّه يمثِّل لطفًا خفيًا يغيِّر الكثير من معادلات الإنسان، وكلّ ما نقوله حول تحليل عمليَّة البكاء بالنسبة للإمام السجاد (عليه السلام) على أبيه الحسين (عليه السلام) إنَّما هو تحليل وظن منَّا؛ وإلَّا فالقضيَّة أعظم ممَّا نتصوَّر.
لقد كان على الإمام السجاد (عليه السلام) أمام تلك الانحرافات العظيمة في الأمَّة، وقتل ريحانة الرسول الأعظم (صلَّى الله عليه وآله)، وشيوع الجو الاِعلامي المضلل، والذي تكتم على أعظم ثائر وثورة أرادت أن تعيد الحقَّ إلى نصابه، وتستنهض الضمائر الميِّتة، أن ينتهج أحد خيارين:
الأوَّل: هو المواجهة العلنيَّة الصريحة، والتنديد المباشر بإجراءات السلطة الحاكمة وفضحها؛ أي إقدامه (عليه السلام) على عمليَّة استشهاديَّة اُخرىٰ تلحقه بأبيه وإخوته (عليهم السلام)... وبالتَّالي إنهاء الدور الرسالي المهم الذي يسعىٰ الإمام السجاد (عليه السلام) إلىٰ تحقيقه من خلال كشف تلك الغيوم وتبديدها.
الثَّاني: هو الصبر علىٰ ذلك الظلم، مع عمل حثيث يراد منه إعادة الأُمَّة المضللة إلىٰ وعيها، وذلك من خلال اختيار طريق البكاء أوَّلاً، ثمَّ طريق نشر العلم؛ ثمَّ طريق الدعاء، ومن خلال هذه الطرق؛ وخاصة طريق البكاء؛ إذ كان يبكي عليه بكاءً مريرًا لا ينقطع حتَّى اختلطت دموعه بطعامه وشرابه. ولم يكن هذا البكاء مقتصرًا على لحظات خاصَّة أو أماكن معيَّنة؛ بل كان يبكي الإمام الحسين (عليه السلام) سرًّا وعلانية، ليلًا ونهارًا، في البيت، وفي الطريق، وفي الأسواق، وفي كلِّ زمان ومكان، معبرًا بذلك عن ألم الفقد العظيم، ونقله لوجدان الأُمَّة، ومؤكدًا على استمرار الحزن والوفاء لقضيَّة كربلاء الخالدة؛ "ولقد بكى على أبِيهِ الحُسَين عليه السلام عِشرينَ سَنةٍ، ومَا وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ طَعَامٌ إلَّا بكى حتَّى قالَ لَهُ مَوْلًى لَهُ: يا ابْنَ رَسُولِ اللهِ أَمَا آنَ لِحُزْنِكَ أَنْ يَنْقَضي؟! فقالَ لَهُ:" وَيْحَكَ إِنَّ يَعْقُوبَ النَّبِيَّ عليه السلام كَانَ لَهُ اثْنَا عَشَرَ ابْناً فَغَيَّبَ اللهُ عَنْهُ وَاحِداً مِنْهُمْ فَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنْ كَثْرَةِ بُكَائِهِ عَلَيْهِ وَشَابَ رَأْسُهُ مِنَ الْحُزْنِ وَاحْدَوْدَبَ ظَهْرُهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَانَ ابْنُهُ حَيّاً فِي الدُّنْيَا وَأَنَا نَظَرْتُ إِلَى أَبِي وَأَخِي وَعَمِّي وَسَبْعَةَ عَشَرَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي مَقْتُولِينَ حَوْلِي فَكَيْفَ يَنْقَضِي حُزْنِي؟"(23).
والسؤال المهم: لماذا كلُّ هذا العكوف الطويل على البكاء؟
الجواب على ذلك: الظاهر إنَّ الإمام السجاد (عليه السلام) أراد من هذا البكاء الطويل مجموعة من القضايا؛ منها:
1. روحانيَّة تعمُّ الكون وترابط أبدي مع قضيَّة الإمام الحسين (عليه السلام).
استطاع الإمام السجاد (عليه السلام)، من خلال بكائه العميق والمخلص أن يغرس روحانيَّة الحزن في أرجاء العالم كلِّه؛ بحيث تحوَّلت دموعه إلى صدى يمتد ويصل إلى قلوب النَّاس في كلِّ مكان وزمان؛ وقد شكَّل هذا الحزن الذي عبر عنه الإمام بترددات موجعة تخللت كلَّ مكونات الوجود، وأدخلت الحزن والأسى على النفوس التي تأثرت بصدق مشاعره اتِّجاه المصيبة العظيمة التي لا مثيل لها في التاريخ الإنساني. وهذا التأثير الروحي هو واقع قرآني مؤكد، فقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في آيات عدَّة، حين تحدث عن حالة النبي داود (عليه السلام)، وكيف كان تأثير حزنه وتأملاته يشمل كلَّ الوجود، ممَّا يعكس عظمة ارتباط الإنسان العابد بربِّه وتأثير ذلك في الكون من حوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ)(24)، وقال (تعالى): "وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ. إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ. وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ)(25). فالقرآن الكريم يعبر بجلاء عن هذه الحقيقة العميقة، ويصف النبي داود (عليه السلام) وهو يخرج في خلواته يبتَهِل إلى الله (سبحانه وتعالى)، ويتوجه بالدعاء بخشية وشوقٍ عميقين، فتسيل دموعه من خشية الرحمن وحبه له. ويستمر في البكاء والدموع متوسلًا ومناجيًا، حتَّى إنّ الأرض والجبال والطير نفسها تشارك في هذا الحزن والتضرع، كأنَّ الكون بأسره يتجاوب مع حالته، ويتفاعل مع تلك المشاعر الخاشعة الصادقة التي تنبع من أعماق قلب النبي (عليه السلام).
لقد كان العالم بأسره من حول النبي داود (عليه السلام) يتفاعل ويتجاوب مع تلك الحالة الحزينة التي كان يبثها، فبكائه وندائه المليئان بالخشوع والخضوع كانت طاقة روحية انتشرت في كل أرجاء الوجود؛ فالجبال والطيور نفسها تأثَّرت بحزنه ونوحه، وهذا المشهد القرآني يشبه ما فعله الإمام السجاد (عليه السلام)، ورفض ذلك يعني إنكار حقيقة قرآنيَّة ثابتة.
تعليق