بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
قال الله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ۗ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾[1].
الانحراف ظاهرة تنتشر في المجتمعات البشرية على مرّ التاريخ والباري عز وجل بعد أن تحدث في الآيات السابقة عن المنحرفين بشكل عام انتقل إلى المنحرفين في زمن رسالة الإسلام حيث ذكّرهم بسويّة شخصية محمد صلى الله عليه وآله، وبظواهر الإبداع الكوني.
ومن الطبيعي عندما يكون الربط بين شخصية صاحب الرسالة والإبداع الكوني يظل من الإحكام الفني بمكان، إذا أخذنا بنظر الاعتبار وحدة الفاعلية الكونية: حيث أن الذهن يتداعى من مشاهدته لظواهر حسيّة، إلى الظواهر الفكرية مثل: الإيمان برسالة الإسلام.
فوبّخهم تعالى على ترك التفكّر في كمال عقل النبيّ صلّى الله عليه وآله الذي هو كالشمس في رائعة النّهار؛ بقوله: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا﴾، قيل: إنّ التّقدير: أكذّبوا ولم يتفكّروا في البراهين العقلية التي يقيمها محمّد صلّى الله عليه وآله على صحّة دعواه، والعلوم التي تظهر منه ببيان يعجز عن مثله مهرة الفصاحة والبلاغة، ومعجزاته القاهرة، وحسن خلقه، وطيب عشرته، ونقاوة سيرته، ومتانة آرائه، وغاية أمانته، ألم ينظروا إلى عقليته البارعة المنقطعة النظير، وهكذا يدق عليهم الله دقّاته المتواترة علّهم ينتبهون عن غفلتهم ويستيقظون عن غفوتهم، إيقاظا لهم بإيعاز بالغ من تحت الركام الطامّ المسيطر على فطرهم وعقولهم.
ولأن الإنسان بين عاقل ومجنون، وهم صاحبوا المجانين وصاحبوا صاحبهم هذا الذي يقولون إنه لمجنون، فهل رأوا فيه جنّة كسائر المجانين، الخالطين في أقوالهم وأفعالهم، المتناقضين في كل حالاتهم؟ ولم يدّع أحد من هؤلاء أنه رأى فيه ما كان يراه في المجانين، بل ولا أنه رأى وزان ما رآه منه بين سائر العقلاء، إذا فهو فوق العقلاء بعقلية الوحي بعد العقلية الإنسانية الناضجة التي كانوا يعترفون بها فيه في العمر الذي لبث فيهم قبل الرسالة.
وعل «ما» هنا تعني مع النفي - نفيا لجنة - الموصول، فتعني: الذي بصاحبهم من جنة، مجاراة في قولة الجنون حتّى يعلموا أنّه ﴿مَا بِصَاحِبِهِم﴾، ونبيّهم الذي نشأ فيهم، شيء وشائبة، فقد صاحبهم هذا الصاحب عمرا من قبله بكلّ رزانة عقل ورحابة صدر ورصانة قدر: ﴿فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾[2]. كيف وقد صاحبكم طوال أربعين عاما أمينا متينا عاقلا لحد سميتموه محمد الأمين، فالآن تتهمونه بالجنة لأنه يأمركم بالمعروف وينهاكم عن المنكر ﴿مِّن جِنَّةٍ﴾، الجنّة حالة من الجنون كالجلسة. ودخل كلمة ﴿مِّن﴾، لإفادة أنّه ليس به نوع من أنواع الجنون، واختلال عقل، لامتناع أن يكون المتّصف بتلك الصّفات ناقص العقل فضلا عن فاقده، بل هو قدوة عقلاء العالم.
﴿إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾، ينذر العقلاء عما يناحر العقل والفطرة الإنسانية فضلا عن عقلية الوحي، فلو كانت به جنة كما تدعون فما هي مادتها بين مواد الجنة التي هي معروفة عن المجانين؟ ذلك، والقرآن يحث دوما على التفكير، مادحا المفكرين، قادحا غير المفكرين، الذين لا يستعملون عقولهم: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾[3].
قيل: إنّ كفّار قريش لمّا رأوا النبيّ صلّى الله عليه وآله معرضا عن الدّنيا، مقبلا إلى الآخرة، مبالغا في الدّعوة إلى التّوحيد، متغيّرا لونه عند نزول الوحي عليه، نسبوه إلى الجنون، فردّهم الله بقوله: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ﴾، لكم ولأهل العالم، ومن شأنه أن يكون بتلك الصّفات ﴿مُّبِينٌ﴾، ومبالغ في الإنذار، مظهر له غاية الإظهار.
روي أنّه صلّى الله عليه وآله كان كثيرا ما يحذّر قريشا عقوبة الله ووقائعه النّازلة في الامم الماضية، [وقف على الصفا يدعوا قريشا فخذا فخذا، فيقول: يا بني فلان يا بني فلان يحذرهم بأس الله وعقابه، فقال قائلهم: إن صاحبكم لمجنون بأن يصوت على الصباح: فأنزل الله الآية][4].
[1] سورة الأعراف، الآية: 184.
[2] سورة يونس، الآية: 16.
[3] سورة النحل، الآية: 69.
[4] التبيان للشيخ الطوسي، ج 5، ص 45.
تعليق