من ذاكرة صدى الروضتين
مختبرُ الكفيل لترميم المخطوطات.. الحاجة والإبداع
مصطفى الباوي
لايخفى على أحد ما تشكله المخطوطات من مرتكز أساس ترتكز عليه حضارات الأمم والشعوب باعتبارها مناجم تزخر بشتى أصناف كنوز العلوم، وهي مدعاة لفخر واعتزاز هذه الأمم، حيث لايمكن لها بحال أن تبني مستقبلاً زاهراً لأجيالها دون مرتكزات وأسس، ومن هذا المنطلق كان لزاماً عليها أن لاتدّخر وسعاً من أجل الحفاظ عليها من التلف والإهمال والضياع وعوامل البيئة التي تفقدها قيمتها العلمية والأثرية والفنية، ويتمثل ذلك باتباع الوسائل العلمية المعاصرة من خلال الأجهزة الحديثة، وإعداد الكوادر الكفوءة والمُدرّبة.. وإنطلاقاً من دور العتبة العباسية المقدسة في نشر الثقافة والعلوم، ولما تمتلكه من إرث عظيم من المخطوطات القيمة والنادرة، فقد بادرت الى إيجاد السبل والوسائل لترميم ومعالجة المخطوطات التي تعرضت للأضرار.. فكان مركز الكفيل لترميم وصيانة المخطوطات الولادة الحية لتلك السبل والوسائل..
صدى الروضتين التقت مسؤول المركز السيد (كمال عبد الحميد) يحدثنا عن بداية الفكر والتأسيس:
متى أسست المكتبة الخاصة بالعتبة العباسية المقدسة، ومن هو المؤسس؟
أنشأ المكتبة آية الله الراحل السيد عباس الكاشاني في عام 1963 وبجهود ذاتية، وأول عمل قام به هو جلب مكتبته الشخصية، ووضعها في مكتبة العتبة المطهرة، وبعدها أضاف مكتبة والد زوجته الدكتور أحمد أمين صاحب كتاب (التكامل في الميزان)، بعد ذلك قام بشراء واقتناء الكتب والمخطوطات ذات القيمة العلمية، وقد بلغ عدد الكتب الموجودة في مكتبة العتبة في عصره أكثر من أربعة الآف نسخة، ويقصد بالنسخة أي المخطوط منها عدا المطبوع الحجري والحرفي.
لقد تعرضت العتبة المقدسة بشكل عام والمكتبة بصورة خاصة الى مختلف أشكال الإهمال والتخريب، حيث تم سرقة العديد من المخطوطات وبممارسة مختلف الطرق الملتوية للسرقة، وتسخير الشخصيات السياسية والأمنية المؤثرة في المحافظة آنذاك لإتمام عمليات السرقة، وذلك لقيمة المخطوطات التي تحويها العتبة، مما حدا بالسرّاق أن يتحيّنوا الفرص لسرقتها، وكان من أشدها ما تعرضت له العتبة المطهرة في عام 1991م على يد أزلام النظام المباد، حيث تم حرق الكثير من هذه المخطوطات كوقود لصنع الشاي لجنود الحرس الجمهوري السابق..! وقد كانت نسبة الدمار الذي لحق بالمكتبة تجاوزت95% حيث فقدت العديد من المخطوطات البالغة الأهمية.
ولكن بحمد الله وبعد سقوط اللانظام وتحويل ادارة العتبات المقدسة الى المرجعية الدينية، وتعيين أمناء عامين للعتبات المقدسة، عادت المكتبة لترى النور من جديد، وكان من أولويات الأمانة العامة للعتبة العباسية المقدسة والعاملين على ادارة المكتبة في العمل، هي إعادة الروح الى دار المخطوطات، وذلك بتوجيه من قبل الأمين العام للعتبة العباسية المطهرة سماحة السيد أحمد الصافي(دام عزه)، وبالتنسيق مع رئاسة القسم وادارة المكتبة(دام توفيقهم).. فكان العمل بالتوجه لشراء النفائس من المخطوطات، وقد استطعنا وبتوفيق من الله سبحانه وتعالى أن نجمع عدة نسخ قيمة من مخطوطات ذات أهمية بالغة، ونحن متواصلون في هذا العمل وبدون انقطاع.
ما هي الأُسس المعتمدة في تقييم المخطوطات؟
تتأتى قيمة المخطوط بما يحويه من مواضيع قيمة، وعمرها الزمني، وتعتبر مخطوطة أو نسخة المؤلف من أهم النسخ، بعدها تأتي نسخة الأبن أو الطالب والتي تم نسخها من الأصلية، ومن ثم النسخ التي قام بنسخها النساخون في ذلك الوقت ودرجة الوثوق بهم، وغالباً ما تحتوي على ختم أو رمز أو حرف، والأشخاص الذين قاموا بتحقيق النسخة كل يدل على مصداقية هذه النسخة.. ومن العوامل التي تزيد من أهمية المخطوط الغلاف الخارجي وزخارفه وطريقة تذهيبه ونقوشه، لما يضيفه من جمالية ورونق وأهمية على المخطوط.
كيف بدأت وتبلورت فكرة قيام هذا المركز؟
بدأت هذه الفكرة لحاجتنا المُلحّة لترميم وصيانة كتب ومخطوطات العتبة العباسية المقدسة التي تعرضت لأضرار تسبب بها البشر أو عوامل البيئة أو الطفيليات، حيث أن معظم المخطوطات مصنوعة من مواد عضوية سريعة التأثر والتغير كالجلود وغيرها، لذا كان لابد من إيجاد طريقة علمية حديثة لإطالة عمرها والمحافظة عليها، فكان الإتجاه في البدء هو الدخول في دورات داخلية وخارجية من أجل الإلمام بالطرق الحديثة والفاعلة لإدامة المخطوطات والمحافظة عليها..
يوجد في العراق مركزان لإدامة وصيانة الكتب وهي دار المرعشي في النجف الأشرف، ودار الكتب والوثائق في بغداد؛ ومن خلال الدورات التي شاركنا فيها استطعنا أن نحصل على المعلومات والطرق الأولية لترميم وحفظ المخطوطات، ولكن طموحنا وأهدفنا لم تقف عند هذا الحد، فكان قرارالأمانة العامة للعتبة العباسية المقدسة أن نكون الأفضل في هذا المجال.. فبعد الإحتكاك بالمختصين ومنهم الدكتور سعد اسكندر مدير دار الكتب والوثائق في بغداد، وبعد دراسة مستفيضة وقع الإختيار على دولة(الچيك) والتي تعد من الدول المتقدمة في مجال ترميم المخطوطات واللوحات الفنية، لما تملكه من علماء وأكاديميين متخصصين، فتم إعداد كادر مؤلف من أربعة أشخاص يمتلكون خلفية علمية وأكاديمية متخصصة.
أقيمت الدورة في كلية متخصصة بترميم الكتب والمخطوطات في جمهورية (الچيك) وكانت دورة موسعة ومكثفة جداً لما فيها من معلومات قيّمة وغزيرة، فكان منهاج الدورة يتألف من شقين (نظري وعملي) وبأحدث المختبرات وأجهزة الترميم الخاصة بالمخطوطات.. وتعتبر هذه الكلية والتابعة الى جامعة (باردو بتسه) العالمية من الكليات الرائدة في هذا الإختصاص النادر جداً، وقد ركزنا على الجانب العملي باعتبارنا نملك كادراً يمتلك الأساسيات الأكاديمية، وقد وجدنا تعاون الجانب (الجيكي) معنا مميزاً جداً، فقد وصلنا إلى مرحلة معرفة الطرق العلمية التي تُصنع بها بعض المواد الكيمائية التي نحتاجها في عملنا المستقبلي.. استغرق وقت الدورة أربعين يوماً، وتعتبر من الدورات المكثفة والمعترف بها عالمياً، حيث أن هذه الجامعة من جامعات الإتحاد الأوربي وحصلنا فيها على درجة الإمتياز في هذه الدورة.
المختبر يحتاج الى أجهزة ومواد خاصة، ما هي هذه الأجهزة، وكيف تم التعاقد على استيرادها؟
حال إتمامنا للدورة، فاتحنا الأساتذة والمختصين عن نيتنا بشراء أجهزة ذات موصفات عالمية عالية، ووفق مانحتاجه نحن، فتعرّفنا من خلالهم على الشركات العالمية والمعتمدة لديهم، ومن خلال إطّلاعنا على مخططات الأجهزة و(الكتلوكات) الخاصة بها، حددنا نوعية وأعداد الأجهزة التي نحتاجها.. وبعد حصول الموافقات الرسمية من السادة المختصين في العتبة المقدسة، حصلت الموافقة على شراء هذه الأجهزة، وبعد حوالي ثلاثة أشهر وصلت الينا، وبعد تهيئة المكان المناسب قمنا بنصب كافة الأجهزة بمفردنا وبالإعتماد على الخبرات التي اكتسبناها من خلال الدورة وباشرنا العمل.
الأجهزة يبلغ عدها خمسة عشر جهازاً، هذا بالإضافة الى المواد والعُدد من (عظام وفرش وورق طبيعي وأدوات تنظيف وأقلام خاصة) نحتاجها في عملنا، والتي من الصعوبة أو الإستحالة الحصول عليها من الداخل، كما قمنا كذلك بشراء بعض الأجهزة والتي تعتبر تكميلية من العراق، وبنفس المواصفات العالمية.
ما هي المرا حل التي تمر بها المخطوطة أو الكتاب لغرض ترميمه؟
أول إجراء نقوم به هو توثيق الكتاب (توثيق الحالة الآنية للكتاب)، وتتم العملية بتصوير كل جزء من المخطوطة بالتفصيل، لمعرفة أماكن الإصابة والمرض بدقة عالية، وتوثيقها بالكمبيوتر.. ومن الفقرات التي يتم تدوينها؛ هل هذا المرض أو الإهمال الذي حصل للمخطوطة هو متعمد أم غير متعمد؟ وكل هذا وفق جدول معين، بعد ذلك يتم فحص أحبار المخطوطة ودرجتها للتمكن من التعامل معها بسوائل كيميائية وكل حسب نوعيته.. بعدها تتم عملية فحص الحموضة بجهاز فحص الحموضة, ومن ثم الفحص البايولوجي بجهاز فحص الأعفان، ويتكون من فرن وحاضن حيث نأخذ مسحات بأطباق خاصة لتشخيص نوع البكتريا لمعرفة نوعية الأعفان ودرجتها، وهذه العملية مهمة جداً، ومن نتيجة هذا الفحص نقرر هل أن المخطوطة بحاجة الى تعقيم أم لا، ودرجة تعقيمها؟
تستمر عملية التعقيم لمدة يومين أو أكثر وحسب درجة الإصابة، وتستخدم لهذه العملية كحول(البيوتانول) حيث تتميز هذه المادة بفعالية عالية للقضاء على كل أشكال التعفن، ومن دون أية آثار جانبية لورقة المخطوطة؛ بعدها تبدأ عملية التنظيف ويكون إما يدوي أو ميكانيكي، وتتم هذه العملية بدقة متناهية جداً وتكون عن طريق الممحاة أو عجينة تعد من مواد كيميائية خاصة، ويعتمد هذا على طبيعة الورق ودرجة تضرره، وتعاد وتكرر هذه العملية أكثر من مرة، حتى نحصل على درجة نظافة عالية؛ بعد ذلك ننتقل الى عملية الغسل والغرض من عملية الغسل هو لإزالة المتبقي من الأتربة، ولإضفاء الروح لألياف الورقة التالفة، وشد لأواصر جزيئاتها..
تعتمد هذه العملية على طبيعة الورقة، ليتسنى لنا اختيار نسبة الماء والكحول المستخدم في عملية التنظيف، وبعد هذه العملية تنظف مرة أخرى بمادة الصابون، وهو من نوع خاص يدعى(صابون البندقية) والذي يصنع من مواد كيميائية ذات خاصية مهمة للتعامل مع الورق التالف، وعند الإنتهاء تُعاد عملية غسل الورق وبالوجهين بمادة الكحول، وبعدها يدخل في جهاز التجفيف (المَشَر)، وكل هذه العمليات تتم تحت ظروف علمية وبالمواصفات العالمية من درجة حرارة ورطوبة.
وبعد هذه العملية تأتي عملية تدعيم الورقة، ويتم التدعيم بمادة سليلوزية، والغرض من هذا التدعيم إعطاء قوة للورقة وزيادة درجة وضوح الحبر عليها، ومن ثم تذهب الورقة الى جهاز يسمى المكبس، وتوضع الورقة بين طبقات من ورق مقوى خاص وأخرى من الخشب وتبقى لمدة يوم أو يومين وبتمام هذه العملية نكون قد حصلنا على ورقة مدعّمة وفيها حيوية, بعدها تصبح الورقة جاهزة لعملية الترميم، والتي تكون على نوعين إما بطريقة العجينة الكيميائية أو بوساطة جهاز صب العجينة، والذي يقوم بعمليتين إحداهما عملية صب العجينة، والثانية فك الإلتصاق الحاصل بين أوراق بعض المخطوطات بوساطة بخار بارد باستخدام الأمواج فوق الصوتية أو بالورق الصناعي، وكذلك تتم العملية بجمعهما معاً وحسب الحاجة والوقت.. الطريقة التي نستخدمها غالباً هي طريقة العجينة، وذلك لعدة اعتبارات؛ لكونها أقل تكلفة وأكثر متانة وجودة، ويتم اختيار لون العجينة من لون المخطوطة أو الكتاب لخلق حالة من التوافق بينهما، ويتم أرشفة لون كل عجينة في ألبوم خاص ومفهرس يوضع عليه اللون ودرجاته، وتتم العملية داخل جهاز العجينة، وتخضع لقياسات خاصة، حيث يختلف سمك كل عجينة بطبيعة الورقة المتضررة، ويستوجب الأمر طبقة أو أكثر من العجينة حتى يكون قريباً من سمك الورقة الأصلية.
ومن القواعد المهمة الواجب اتباعها لدى المُرمم انه لا يضيف ولا يحذف، أي يكون عمله على نفس واقع المخطوطة، وبعد الوصول الى هذه المرحلة من الترميم نجري لها مسحاً بصرياً تحت أشعة الشمس لمعرفة درجة ترميمها، وهل تحتاج الى عميلة أخرى أم لا، وترميم ما يمكن ترميه باليد، ثم نقوم بتصفية الورقة من مخارجها وقياساتها وإعادتها الى وضعها القديم، بعدها تجمع الأوراق وحسب التسلسل الذي بدأنا به، بعدها تنقل الى جهاز الخياطة، وهناك عدة طرق أو فنون للخياطة، وللخياطة تدرجات تاريخية أيضاً.
عملية الترميم لا تشمل الورقة فقط، بل جلد الكتاب(الغلاف)، وتتم معالجته إما بترميمه أو يتم تجليده بالجلد الطبيعي، ثم يعاد اليه غلافه الأول، ثم تتم عملية صناعة ظرف مصنوع من ورق قاعدي خاص يوضع فيه المخطوط وبنفس القياس مع قرص مضغوط مدون فيه كل ما يخص المخطوط مع الأوراق التالفة والتي يمكن ترميمها، وبعدها يوضع في خزانة الكتب..
ومن الجدير بالذكر أن هذه العملية برمتها ومع اختصارنا الشديد فإنها قد تستغرق عدة أشهر، أو تطول لسنوات وحسب عدد صفحات المخطوط ودرجة تضرره.. وكان المخطوط الأول الذي تم ترميمه في المركز هو(قواعد الأحكام في معرفة الحلال والحرام) للعلامة الحلي من القرن الحادي عشر، ويحوي بين دفتيه(418) صفحة، وقد استغرق العمل فيه خمسة أشهر متواصلة ومن جميع الكادر.
مختبرُ الكفيل لترميم المخطوطات.. الحاجة والإبداع
مصطفى الباوي
لايخفى على أحد ما تشكله المخطوطات من مرتكز أساس ترتكز عليه حضارات الأمم والشعوب باعتبارها مناجم تزخر بشتى أصناف كنوز العلوم، وهي مدعاة لفخر واعتزاز هذه الأمم، حيث لايمكن لها بحال أن تبني مستقبلاً زاهراً لأجيالها دون مرتكزات وأسس، ومن هذا المنطلق كان لزاماً عليها أن لاتدّخر وسعاً من أجل الحفاظ عليها من التلف والإهمال والضياع وعوامل البيئة التي تفقدها قيمتها العلمية والأثرية والفنية، ويتمثل ذلك باتباع الوسائل العلمية المعاصرة من خلال الأجهزة الحديثة، وإعداد الكوادر الكفوءة والمُدرّبة.. وإنطلاقاً من دور العتبة العباسية المقدسة في نشر الثقافة والعلوم، ولما تمتلكه من إرث عظيم من المخطوطات القيمة والنادرة، فقد بادرت الى إيجاد السبل والوسائل لترميم ومعالجة المخطوطات التي تعرضت للأضرار.. فكان مركز الكفيل لترميم وصيانة المخطوطات الولادة الحية لتلك السبل والوسائل..
صدى الروضتين التقت مسؤول المركز السيد (كمال عبد الحميد) يحدثنا عن بداية الفكر والتأسيس:
متى أسست المكتبة الخاصة بالعتبة العباسية المقدسة، ومن هو المؤسس؟
أنشأ المكتبة آية الله الراحل السيد عباس الكاشاني في عام 1963 وبجهود ذاتية، وأول عمل قام به هو جلب مكتبته الشخصية، ووضعها في مكتبة العتبة المطهرة، وبعدها أضاف مكتبة والد زوجته الدكتور أحمد أمين صاحب كتاب (التكامل في الميزان)، بعد ذلك قام بشراء واقتناء الكتب والمخطوطات ذات القيمة العلمية، وقد بلغ عدد الكتب الموجودة في مكتبة العتبة في عصره أكثر من أربعة الآف نسخة، ويقصد بالنسخة أي المخطوط منها عدا المطبوع الحجري والحرفي.
لقد تعرضت العتبة المقدسة بشكل عام والمكتبة بصورة خاصة الى مختلف أشكال الإهمال والتخريب، حيث تم سرقة العديد من المخطوطات وبممارسة مختلف الطرق الملتوية للسرقة، وتسخير الشخصيات السياسية والأمنية المؤثرة في المحافظة آنذاك لإتمام عمليات السرقة، وذلك لقيمة المخطوطات التي تحويها العتبة، مما حدا بالسرّاق أن يتحيّنوا الفرص لسرقتها، وكان من أشدها ما تعرضت له العتبة المطهرة في عام 1991م على يد أزلام النظام المباد، حيث تم حرق الكثير من هذه المخطوطات كوقود لصنع الشاي لجنود الحرس الجمهوري السابق..! وقد كانت نسبة الدمار الذي لحق بالمكتبة تجاوزت95% حيث فقدت العديد من المخطوطات البالغة الأهمية.
ولكن بحمد الله وبعد سقوط اللانظام وتحويل ادارة العتبات المقدسة الى المرجعية الدينية، وتعيين أمناء عامين للعتبات المقدسة، عادت المكتبة لترى النور من جديد، وكان من أولويات الأمانة العامة للعتبة العباسية المقدسة والعاملين على ادارة المكتبة في العمل، هي إعادة الروح الى دار المخطوطات، وذلك بتوجيه من قبل الأمين العام للعتبة العباسية المطهرة سماحة السيد أحمد الصافي(دام عزه)، وبالتنسيق مع رئاسة القسم وادارة المكتبة(دام توفيقهم).. فكان العمل بالتوجه لشراء النفائس من المخطوطات، وقد استطعنا وبتوفيق من الله سبحانه وتعالى أن نجمع عدة نسخ قيمة من مخطوطات ذات أهمية بالغة، ونحن متواصلون في هذا العمل وبدون انقطاع.
ما هي الأُسس المعتمدة في تقييم المخطوطات؟
تتأتى قيمة المخطوط بما يحويه من مواضيع قيمة، وعمرها الزمني، وتعتبر مخطوطة أو نسخة المؤلف من أهم النسخ، بعدها تأتي نسخة الأبن أو الطالب والتي تم نسخها من الأصلية، ومن ثم النسخ التي قام بنسخها النساخون في ذلك الوقت ودرجة الوثوق بهم، وغالباً ما تحتوي على ختم أو رمز أو حرف، والأشخاص الذين قاموا بتحقيق النسخة كل يدل على مصداقية هذه النسخة.. ومن العوامل التي تزيد من أهمية المخطوط الغلاف الخارجي وزخارفه وطريقة تذهيبه ونقوشه، لما يضيفه من جمالية ورونق وأهمية على المخطوط.
كيف بدأت وتبلورت فكرة قيام هذا المركز؟
بدأت هذه الفكرة لحاجتنا المُلحّة لترميم وصيانة كتب ومخطوطات العتبة العباسية المقدسة التي تعرضت لأضرار تسبب بها البشر أو عوامل البيئة أو الطفيليات، حيث أن معظم المخطوطات مصنوعة من مواد عضوية سريعة التأثر والتغير كالجلود وغيرها، لذا كان لابد من إيجاد طريقة علمية حديثة لإطالة عمرها والمحافظة عليها، فكان الإتجاه في البدء هو الدخول في دورات داخلية وخارجية من أجل الإلمام بالطرق الحديثة والفاعلة لإدامة المخطوطات والمحافظة عليها..
يوجد في العراق مركزان لإدامة وصيانة الكتب وهي دار المرعشي في النجف الأشرف، ودار الكتب والوثائق في بغداد؛ ومن خلال الدورات التي شاركنا فيها استطعنا أن نحصل على المعلومات والطرق الأولية لترميم وحفظ المخطوطات، ولكن طموحنا وأهدفنا لم تقف عند هذا الحد، فكان قرارالأمانة العامة للعتبة العباسية المقدسة أن نكون الأفضل في هذا المجال.. فبعد الإحتكاك بالمختصين ومنهم الدكتور سعد اسكندر مدير دار الكتب والوثائق في بغداد، وبعد دراسة مستفيضة وقع الإختيار على دولة(الچيك) والتي تعد من الدول المتقدمة في مجال ترميم المخطوطات واللوحات الفنية، لما تملكه من علماء وأكاديميين متخصصين، فتم إعداد كادر مؤلف من أربعة أشخاص يمتلكون خلفية علمية وأكاديمية متخصصة.
أقيمت الدورة في كلية متخصصة بترميم الكتب والمخطوطات في جمهورية (الچيك) وكانت دورة موسعة ومكثفة جداً لما فيها من معلومات قيّمة وغزيرة، فكان منهاج الدورة يتألف من شقين (نظري وعملي) وبأحدث المختبرات وأجهزة الترميم الخاصة بالمخطوطات.. وتعتبر هذه الكلية والتابعة الى جامعة (باردو بتسه) العالمية من الكليات الرائدة في هذا الإختصاص النادر جداً، وقد ركزنا على الجانب العملي باعتبارنا نملك كادراً يمتلك الأساسيات الأكاديمية، وقد وجدنا تعاون الجانب (الجيكي) معنا مميزاً جداً، فقد وصلنا إلى مرحلة معرفة الطرق العلمية التي تُصنع بها بعض المواد الكيمائية التي نحتاجها في عملنا المستقبلي.. استغرق وقت الدورة أربعين يوماً، وتعتبر من الدورات المكثفة والمعترف بها عالمياً، حيث أن هذه الجامعة من جامعات الإتحاد الأوربي وحصلنا فيها على درجة الإمتياز في هذه الدورة.
المختبر يحتاج الى أجهزة ومواد خاصة، ما هي هذه الأجهزة، وكيف تم التعاقد على استيرادها؟
حال إتمامنا للدورة، فاتحنا الأساتذة والمختصين عن نيتنا بشراء أجهزة ذات موصفات عالمية عالية، ووفق مانحتاجه نحن، فتعرّفنا من خلالهم على الشركات العالمية والمعتمدة لديهم، ومن خلال إطّلاعنا على مخططات الأجهزة و(الكتلوكات) الخاصة بها، حددنا نوعية وأعداد الأجهزة التي نحتاجها.. وبعد حصول الموافقات الرسمية من السادة المختصين في العتبة المقدسة، حصلت الموافقة على شراء هذه الأجهزة، وبعد حوالي ثلاثة أشهر وصلت الينا، وبعد تهيئة المكان المناسب قمنا بنصب كافة الأجهزة بمفردنا وبالإعتماد على الخبرات التي اكتسبناها من خلال الدورة وباشرنا العمل.
الأجهزة يبلغ عدها خمسة عشر جهازاً، هذا بالإضافة الى المواد والعُدد من (عظام وفرش وورق طبيعي وأدوات تنظيف وأقلام خاصة) نحتاجها في عملنا، والتي من الصعوبة أو الإستحالة الحصول عليها من الداخل، كما قمنا كذلك بشراء بعض الأجهزة والتي تعتبر تكميلية من العراق، وبنفس المواصفات العالمية.
ما هي المرا حل التي تمر بها المخطوطة أو الكتاب لغرض ترميمه؟
أول إجراء نقوم به هو توثيق الكتاب (توثيق الحالة الآنية للكتاب)، وتتم العملية بتصوير كل جزء من المخطوطة بالتفصيل، لمعرفة أماكن الإصابة والمرض بدقة عالية، وتوثيقها بالكمبيوتر.. ومن الفقرات التي يتم تدوينها؛ هل هذا المرض أو الإهمال الذي حصل للمخطوطة هو متعمد أم غير متعمد؟ وكل هذا وفق جدول معين، بعد ذلك يتم فحص أحبار المخطوطة ودرجتها للتمكن من التعامل معها بسوائل كيميائية وكل حسب نوعيته.. بعدها تتم عملية فحص الحموضة بجهاز فحص الحموضة, ومن ثم الفحص البايولوجي بجهاز فحص الأعفان، ويتكون من فرن وحاضن حيث نأخذ مسحات بأطباق خاصة لتشخيص نوع البكتريا لمعرفة نوعية الأعفان ودرجتها، وهذه العملية مهمة جداً، ومن نتيجة هذا الفحص نقرر هل أن المخطوطة بحاجة الى تعقيم أم لا، ودرجة تعقيمها؟
تستمر عملية التعقيم لمدة يومين أو أكثر وحسب درجة الإصابة، وتستخدم لهذه العملية كحول(البيوتانول) حيث تتميز هذه المادة بفعالية عالية للقضاء على كل أشكال التعفن، ومن دون أية آثار جانبية لورقة المخطوطة؛ بعدها تبدأ عملية التنظيف ويكون إما يدوي أو ميكانيكي، وتتم هذه العملية بدقة متناهية جداً وتكون عن طريق الممحاة أو عجينة تعد من مواد كيميائية خاصة، ويعتمد هذا على طبيعة الورق ودرجة تضرره، وتعاد وتكرر هذه العملية أكثر من مرة، حتى نحصل على درجة نظافة عالية؛ بعد ذلك ننتقل الى عملية الغسل والغرض من عملية الغسل هو لإزالة المتبقي من الأتربة، ولإضفاء الروح لألياف الورقة التالفة، وشد لأواصر جزيئاتها..
تعتمد هذه العملية على طبيعة الورقة، ليتسنى لنا اختيار نسبة الماء والكحول المستخدم في عملية التنظيف، وبعد هذه العملية تنظف مرة أخرى بمادة الصابون، وهو من نوع خاص يدعى(صابون البندقية) والذي يصنع من مواد كيميائية ذات خاصية مهمة للتعامل مع الورق التالف، وعند الإنتهاء تُعاد عملية غسل الورق وبالوجهين بمادة الكحول، وبعدها يدخل في جهاز التجفيف (المَشَر)، وكل هذه العمليات تتم تحت ظروف علمية وبالمواصفات العالمية من درجة حرارة ورطوبة.
وبعد هذه العملية تأتي عملية تدعيم الورقة، ويتم التدعيم بمادة سليلوزية، والغرض من هذا التدعيم إعطاء قوة للورقة وزيادة درجة وضوح الحبر عليها، ومن ثم تذهب الورقة الى جهاز يسمى المكبس، وتوضع الورقة بين طبقات من ورق مقوى خاص وأخرى من الخشب وتبقى لمدة يوم أو يومين وبتمام هذه العملية نكون قد حصلنا على ورقة مدعّمة وفيها حيوية, بعدها تصبح الورقة جاهزة لعملية الترميم، والتي تكون على نوعين إما بطريقة العجينة الكيميائية أو بوساطة جهاز صب العجينة، والذي يقوم بعمليتين إحداهما عملية صب العجينة، والثانية فك الإلتصاق الحاصل بين أوراق بعض المخطوطات بوساطة بخار بارد باستخدام الأمواج فوق الصوتية أو بالورق الصناعي، وكذلك تتم العملية بجمعهما معاً وحسب الحاجة والوقت.. الطريقة التي نستخدمها غالباً هي طريقة العجينة، وذلك لعدة اعتبارات؛ لكونها أقل تكلفة وأكثر متانة وجودة، ويتم اختيار لون العجينة من لون المخطوطة أو الكتاب لخلق حالة من التوافق بينهما، ويتم أرشفة لون كل عجينة في ألبوم خاص ومفهرس يوضع عليه اللون ودرجاته، وتتم العملية داخل جهاز العجينة، وتخضع لقياسات خاصة، حيث يختلف سمك كل عجينة بطبيعة الورقة المتضررة، ويستوجب الأمر طبقة أو أكثر من العجينة حتى يكون قريباً من سمك الورقة الأصلية.
ومن القواعد المهمة الواجب اتباعها لدى المُرمم انه لا يضيف ولا يحذف، أي يكون عمله على نفس واقع المخطوطة، وبعد الوصول الى هذه المرحلة من الترميم نجري لها مسحاً بصرياً تحت أشعة الشمس لمعرفة درجة ترميمها، وهل تحتاج الى عميلة أخرى أم لا، وترميم ما يمكن ترميه باليد، ثم نقوم بتصفية الورقة من مخارجها وقياساتها وإعادتها الى وضعها القديم، بعدها تجمع الأوراق وحسب التسلسل الذي بدأنا به، بعدها تنقل الى جهاز الخياطة، وهناك عدة طرق أو فنون للخياطة، وللخياطة تدرجات تاريخية أيضاً.
عملية الترميم لا تشمل الورقة فقط، بل جلد الكتاب(الغلاف)، وتتم معالجته إما بترميمه أو يتم تجليده بالجلد الطبيعي، ثم يعاد اليه غلافه الأول، ثم تتم عملية صناعة ظرف مصنوع من ورق قاعدي خاص يوضع فيه المخطوط وبنفس القياس مع قرص مضغوط مدون فيه كل ما يخص المخطوط مع الأوراق التالفة والتي يمكن ترميمها، وبعدها يوضع في خزانة الكتب..
ومن الجدير بالذكر أن هذه العملية برمتها ومع اختصارنا الشديد فإنها قد تستغرق عدة أشهر، أو تطول لسنوات وحسب عدد صفحات المخطوط ودرجة تضرره.. وكان المخطوط الأول الذي تم ترميمه في المركز هو(قواعد الأحكام في معرفة الحلال والحرام) للعلامة الحلي من القرن الحادي عشر، ويحوي بين دفتيه(418) صفحة، وقد استغرق العمل فيه خمسة أشهر متواصلة ومن جميع الكادر.